لا يستيقنُ العقلُ إلا بما تدركه الحواس، وهذا هو اليقين الذي يشترك فيه الناس جميعا ولا يختلفون حوله، وهذا الجانب هو الجانب الأدنى والمشترك في العملية العقلية الذهنية، أما الاستنتاج والربط بين المعلومات الناتجة عما تدركه الحواس أو ما يسمعه الإنسان أو يتعلمه، فهذه عملية ذهنية أعلى، ويختلف فيها الناس باختلاف قدراتهم العقلية وعلمهم، وهذه العملية ينتج عنها نوع من المعرفة والتي يمكن أن تهتز وتتغير بسبب معلومات جديدة أو لأسباب وعوامل أخرى. وهذه العملية كلها ليست سوى نوع من الظن في أقصاها أو هي غلبة ظن.
العقل الأدنى الخاص بالإدراك والاستنتاج البسيط والعقل الأعلى الخاص بالاستنتاج المركب
وللتسهيل يمكن أن نسمي الحالة الأولى المرتبطة بالإدراك والاستنتاج البسيط بالعقل الأدنى، والحالة الثانية المرتبطة بالاستنتاج المركَّب بالعقل الأعلى.
ومعلوم أن العلم والاكتشاف والابتكار مرتبط كله بالعقل الأعلى، والذي يسعى لأن يؤدي بحثه بعد ذلك إلى تحويل ما كان متخيلا ومتصورا إلى حقائق ملموسة تُدرك بالعقل الأدنى ويسلَّم بها، ولولا وجود العقل الأعلى ورغبته الجامحة في الاكتشاف وفي سبر مجاهل العلوم التي كانت في طي الغيب لتتحول إلى أمور مشهودة ومعلومة، لما تقدَّم العلم ولما تطورت البشرية. وبصورة عامة فإن الإنسان مفطور على أن يستكشف ما خفي عنه حتى يجعله تحت نطاق إدراكه فيصل إلى يقين حوله أو يستفيد منه، وهذه هي الميزة التي أعلنها الله تعالى للملائكة عندما قرر خلق الإنسان، والتي بيَّن بأن من خلالها سيحقق هذا الكائن العجائب وسيثبت أن اختيار الله تعالى له ليكون خليفته كان قرارا صائبا، وهي ميزة أنه كائن يتعلَّم ولديه شغف للتعلُّم والبحث سواء في أمور الدنيا أو في أمور الدين والغيبيات، وأن الله تعالى سيتولى تعليمه بنفسه.
والفارق بين أمور الدنيا والدين هو أن العقل الأعلى يمكن أن يبحر في قوانين الكون ويستكشف غيبها ويحوله إلى يقين ملموس مدرك يدركه العقل الأدنى ويسلِّم به، بينما في مجاهل الغيبيات الدينية، وعلى رأسها وجود الله تعالى، فإن هذا الطريق مسدود. وأكثر ما يمكن أن يستنتجه العقل إنما هو أنه “لا بد أن يكون الله موجودا”، ولكن هذه الحالة لا يمكن أن تهب العقل اليقين والنفس الطمأنينة، لأن العقل لا يوقن إلا بما يُدرَك، ومهما كانت درجة الاستنتاج فإنها تبقى في نطاق الظن الذي يمكن أن يهتز بسهولة خاصة تحت ضغوط نفسية أو تشويش عقلي.
ونتيجة لهذه الحالة من الاضطراب، نرى أن الجاحدين من الناس كانوا كثيرا ما يضجرون أو يشعرون باليأس من السير في طريق الإيمان، لذلك تراهم أحيانا يطلبون من أنبيائهم أن يروا الله جهرة، أو يسعون لتجسيد الآلهة في أوثان أو بشر أو غير ذلك ليشعروا بنوع من الطمأنينة الخادعة. ومرجع ذلك هو أنهم يريدون أن يدركوا الإله وألا يبقى في حجُب الغيب، وكي لا تبقى الظنون تتلاعب بعقولهم وتعصف بنفوسهم، ولكن هيهات!
ومع أن الأنبياء قد نجحوا في الوصول إلى اليقين أولا ثم إيصال خُلَّص أتباعهم إليه، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء بالإسلام الذي يشفي غليل البشر ويعطيهم ما يطلبون، وخط طريق اليقين وسيَّر صحابته عليه، وقدَّم للناس هذا الطريق نحو اليقين الذي سار عليه الصلحاء والأولياء من أمته على مدى العصور.
اليقين بوجود الله تعالى وعلاقته بالعقل
إن الحقيقة التي أعلنها الإسلام حول اليقين بوجود الله تعالى هي قوله تعالى:
{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الأَنعام 104)
فهنا قد سدَّ الله طريق اليقين العقلي الذي يتأتى بالعقل الأدنى وأعلن أن الحواس لا يمكن أن تدرك الله تعالى، وأن طريق العقل الأعلى لا يمكن أن تحوِّل وجود الله تعالى إلى يقين عقلي بسيط، ولكنه من ناحية أخرى بشَّر بيقين آخر يتنزَّل على الحواس وهو أنه هو الذي يدرك الأبصار بوسائله اللطيفة الخفية، وعندها سينال الإنسان بغيته، وستصبح علاقته بالله تعالى علاقة يقين لا ظن واستنتاج. أي بكلام آخر تصبح علاقته بالله تعالى تتجاوز القول “إنه لا بد أن يكون موجودا” إلى “إنه موجود فعلا”.
الطريق القويم لمعرفة الله تعالى واليقين به
أما طريق هذا اليقين فهي تزكية النفس والالتزام بالأوامر والنواهي والعبادات والدعاء والابتهال، وعندها سيتجلى الله تعالى لعبده رحمة به ومكافأة له على أنه قد أحسن الظن وسار نحو الله تعالى معلنا عجزه، وسيرى من عجائب قدرة الله تعالى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وسيتحول إيمانه الذي كان لم يقم سوى على استنتاجٍ أقصى ما يمكن أن يصل إليه هو أنه “لا بد أن يكون الله موجودا” إلى أن وجود الله تعالى هو الحقيقة العظمى التي لا توازيها حقيقة مادية مدركة أخرى، بل إن الوجود المادي يصبح مقارنة به أشبه بالوهم. وفي هذه المرحلة يبدأ الإنسان برؤية المعجزات ويكرمه الله تعالى بالكرامات، ويعرف من الله تعالى ما هو محجوب عن أهل الدنيا الذين ضلوا عن طريق الله تعالى وأعرضوا عنه بإرادتهم أو باتخاذهم طريقا خاطئا.
درجات اليقين ومراحله في اليقين بالله
أما هذا اليقين عموما فهو على درجات يتدرج فيها الإنسان، وقد أسماها القرآن الكريم بعلم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. ومثالها البسيط هو رؤية الدخان والاستنتاج بأن هنالك نارا في مرحلة علم اليقين، ثم الاقتراب ورؤية النار في مرحلة عين اليقين، ثم الاقتراب والشعور بحرارة النار والاصطلاء بها في مرحلة حق اليقين. وقد وعد الله تعالى أن ينال الإنسان هذه المراحل من اليقين في علاقته مع الله تعالى، ولكن بفارق هام، وهو أن الإنسان في الأمور الدنيوية يسعى بنفسه، بينما في معرفة الله تعالى وفي اليقين به فإن الله هو الذي يسعى إليه ويوصله، بعد أن يبذل جهده في طاعة الله تعالى ودعائه والابتهال له.
ففي المرحلة الأولى يسعى السالك في طريق الإيمان متوكلا على الله تعالى وراجيا وصاله وتجليه وسيجد أن الله تعالى يتجلى عليه بتكميل علمه وإشعاره بيقين عقلي راسخ لا يستطيع تفسيره ولكنه يستشعره بقوة، فتتبدد الشبهات ويرى الحقائق ناصعة، ويقوِّي الله تعالى حجته وينير عقله وبصيرته، وتصبح قدرته على الاستنتاج والاستدلال منوَّرة بأنوار خاصة مبهرة مرجعها تجلي الله تعالى عليها وتوجيهه لها، ويبدأ يستشعر بطمأنينة قلبية. وهذه مرحلة بدائية من اليقين.
أما المرحلة الثانية فهي أنه سيبدأ بمعاينة الآيات والكرامات والمعجزات، والتي على رأسها استجابة الدعاء بصورة منقطعة النظير، ويبدأ بتلقي الوحي بأنواعه حسب ما يشاء الله تعالى، وتصبح العلاقة بينه وبين الله تعالى كعلاقة الصديق بصديقه، وبذلك ينتقل اليقين من حالة يقين عقلي مرجعه شعور لا يُفسَّر، إلى علاقة ثنائية مع الله تعالى يتجلى الله فيها للعبد بوسائل مختلفة ويدرك من هذه العلاقة أن الله تعالى هو على الطرف الآخر وأن وجوده لا علاقة له بالظن مطلقا. وهذه الحالة من اليقين هي مرحلة متقدمة من إدراك الله تعالى لأبصار المؤمن، ويعيش فيها المؤمن طمأنينة أعلى. ويكون مردود ذلك على العقل هو أن كلامه وحججه وفهمه وإدراكه وقدرته العقلية تتنور بصورة مذهلة.
أما المرحلة الثالثة فهي أن يعيش حالة اليقين بالكامل وتستولي على كيانه، ويصل إلى تلك النفس المطمئنة التي رجعت إلى الله تعالى ودخلت في عباده، ويبدأ بالعيش في الجنة في هذه الحياة الدنيا بحيث لا يزلزل طمأنينته أي أمر ويكون مع الله تعالى في كل لحظة. أما عن قدرته العقلية وفهمه وإدراكه فحدِّث ولا حرج، إذ تخضع لها العقول وتتعجب منها وتخر أمامها ساجدة.
هذه هي المراحل التي يعد الله تعالى بها العبد، والتي هي غاية الإسلام، والتي يجب أن يسير عليها المسلم حتى يصل إلى بغيته.
والمؤسف أن كثيرا ممن يدعون الإيمان أو العلم ينفقون حياتهم في الخوض في الحجج العقلية ظانين أنهم سيصلون إلى اليقين. إن الخلل العظيم الذي يقعون فيه هو ظنهم أنهم قادرون على اكتشاف الله تعالى وكأنهم يكتشفون آثارا قديمة أو يخرجون تمثالا من تحت الأنقاض وينفضون عنه التراب، وكأن الله تعالى عاجز – والعياذ بالله – وهم من سيصلون إليه ومن سيعرِّفون العالم عليه. ومن ظنَّ ذلك فقد أخطأ الطريق منذ البداية، لأنه لم يقدر الله تعالى حق قدره، وقد يصل في النهاية إلى عاقبة غير محمودة.
السعي نحو اليقين فطرة أودعها الله في الإنسان
الخلاصة أن اليقين هو بغية الإنسان وشغفه الذي أودعه الله تعالى فطرته ليعرفه تعالى ولكي يتقدم في العلوم عموما كما بينَّا. وفيما يتعلق بالله تعالى، فلا يمكن أن يجد الإنسان الطمأنينة إلا باليقين، ولكن طريقه ليست طريق العقل الأعلى المبني على الاستنتاج، لأن هذا العقل الأعلى لا يمكن أن يحوِّل وجود الله إلى حقيقة بسيطة يدركها العقل الأدنى ويطمئن بها، وأكثر ما يمكن أن يؤدي إليه هو ضرورة وجود الله لا أنه موجود فعلا، وبين الحالتين فارق كبير هو الفارق بين الظن والحق. إن الله تعالى قد جعل نفسه خلف الحجب وأعلن أن مقامه منزه عن المخلوقات وعن وجودها وإدراكها، وهذا أحد معاني قوله تعالى عن نفسه {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}. فليس أمام السالك سوى أن يسير نحو الله تعالى بالطريقة التي اختطها الله له، عسى أن يحظى باليقين بمشيئة الله تعالى وإرادته المباشرة، بعد أن ينظر إلى عبده رحمة منه وفضلا.
بارك الله فبكم