جاء في كتاب فتح الباري ما يلي :
{وَقَعَ فِي رِوَايَة لِلْحَاكِمِ مِنْ طَرِيق الشَّعْبِيّ عَنْ عَوْف بْن مَالِك فِي هَذَا الْحَدِيث ” أَنَّ عَوْف بْن مَالِك قَالَ لِمُعَاذٍ فِي طَاعُون عِمَوَاسٍ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِي : اُعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَة , فَقَدْ وَقَعَ مِنْهُنَّ ثَلَاث , يَعْنِي مَوْته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَتْح بَيْت الْمَقْدِس وَالطَّاعُون , قَالَ وَبَقِيَ ثَلَاث فَقَالَ لَهُ مُعَاذ : أَنَّ لِهَذَا أَهْلًا ” . وَوَقَعَ فِي الْفِتَن لِنُعَيْمِ بْن حَمَّاد أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّة تَكُون فِي زَمَن الْمَهْدِيّ عَلَى يَد مَلِك مِنْ آلِ هِرَقْل .} (فتح الباري بشرح صحيح البخاري, كتاب الجزية)
إذا تدبّرنا قول الصحابي عَوْف بْن مَالِك (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) عن الفتن الست التي أنبأ عنها النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) سيتضح لنا بأن الصحابة كانوا يفهمون بأن موت النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) كان من أعظم البلايا التي حدثت في الأمة الإسلامية حيث بدأت الفتن بالبروز وتسبب رحيله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) في ظهور الانقسامات وضعف شديد في صفوف المسلمين فلم تكن غير الخلافة سداً و مصداً آمنا منها قاضية على أوارها. ثم من كلام الصحابي أيضا نفهم أن ثاني الفتن كانت فتح بيت المقدس (أي قضية فلسطين) حيث فتح عمر بن الخطاب (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأرْضاه) القدس كما هو معروف وأستمر حكم الإسلام 400 سنة متتالية للقدس حتى الحملة الصليبية الأولى في 1099 حيث تعد هذه الحملة نقطة تحول رئيسية في توسع القوى الغربية، ومؤشراً على فتور التفوق في العالم الإسلامي نتيجة انقساماته، كما لعبت هذه الحملة وما تلتها من الحملات دوراً كبيراً في نقل جين الحضارة والمدنية من العالم الإسلامي إلى أوربا، وبالتالي كانت إحدى المراحل الأساسية لبداية النهضة فيها. ولا بد أن فهم الصحابة (رَضِيَ اللهُ عَنْهُم) لم يكن عن فراغ بل وفق نبوءات فهموا منها حظا خلال مسيرتهم مع رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم). وبالمحصلة فالعلامة أو النبوءة الثانية أي فتح بيت المقدس كانت انعطافة تاريخية ومؤشر على فتنة عظيمة نخرت في جسد الأمة. العلامة الثالثة حسب نص الحديث هي الطاعون، يقول ابن حجر: “إن هذه الآية (حديث ابن عوف رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) ظهرت في طاعون عمواس في خلافة عمر وكان ذلك بعد فتح بيت المقدس” أهـ (رواه البخاري حديث رقم 3005.) . وكان ذلك عام 18هـ وبلغ عدد من مات فيه خمسة وعشرين ألفاً من المسلمين. انتهت هذه الفتن الثلاث وبقيت من الست ثلاث أخرى وصفت في الحديث كما قال مُعَاذ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) : ” أَنَّ لِهَذَا أَهْلًا ” أي أن زمنه لم يكن قد حان بعد، كما أن الشارح أضاف بأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّة إنما تَكُون فِي زَمَن الإمام الْمَهْدِيّ عَلَى يَد مَلِك مِنْ آلِ هِرَقْل، ولو تأملنا في هذه العبارات والربط بين معطيات النبوءة من كلام صاحب فتح الباري لاستبان لنا بأن هذه الفتن ما هي إلا صورة للفتن الثلاث الأولى، حيث يتمثل موت النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) من جديد كناية عن ضعف و ارتفاع الإيمان من صفوف المسملين وصولا إلى نقطة الانهيار التام وكأن النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) قد مات للتو، وكما كانت الخلافة الراشدة هي المأمن من شرور الفتن كان لابد من عودة الخلافة على منهاج النبوة كما في الحديث الشهير، والمعروف أن الانحطاط الإسلامي وصل لذروته ومنتهاه في القرن التاسع عشر، ولنقتبس ما كتبته مجلة العربي حول فترة التدهور والانحطاط في الأمة الإسلامية في عددها الصادر بتاريخ العدد 605 – 2009/4 “بدأت طلائعها منذ القرن السادس – الثاني عشر للميلاد تقريباً – واستمرت بالنسبة إلى المشرق العربي الإسلامي حتى أواسط القرن الثالث عشر للهجرة (التاسع عشر للميلاد).” أهـ.
ثانيا، الصورة المماثلة لفتح بيت المقدس، فنقرأ من الموسوعة الحرة : ” وكانت الحكومات الأوروبية تشجع بشكل ما الهجرة اليهودية إلى فلسطين التي بدأت تتكثف منذ ثمانيات القرن ال19 إثر دعوة الحركة الصهيونية، والتي أدت إلى تأسيس تجمعات يهودية جديدة في فلسطين ” أهـ. فكما ضاعت القدس في الحملة الصليبية الإولى فقد ضاعت أو بدأت بوادر ضياعها بالبروز من جديد في تلك الفترة أي على رأس القرن التاسع عشر. ويذكر القرآن المجيد ملامح هذه الحادثة والنبوءات المتعلقة بها في سورة الإسراء.
بقي أن نذكر نظير مرض الطاعون في الزمن الأخير، فمن المعروف أن الطاعون اجتاح الديار الهندية في القرن التاسع عشر، وتذكر الموسوعة البريطانية بأن أثره برز بشكل واضح جدا وفعال في السنوات التالية وكانت الهند على رأس الدول الأكثر ضررا كما يلي : “Among the many points infected were Bombay in 1896, Calcutta in 1898” أي “ من بين المناطق المتأثرة بومباي عام 1896 و كلكوتا عام 1889 ” ثم أردفت بقولها “but, of all the areas affected, India suffered the most..” أي “ ولكن من بين الدول المتأثرة كانت الهند هي الأشد تأثرا “.
بعد أن استعرضنا سريعا تحقق هذه الفتن الثلاث من جديد بقي أن نعرف من هو المهدي ومن هو الملك من آل هرقل الذين ذكرت الأحاديث بأن هذه الأحداث ستجري في زمنهم. ولأننا أوفينا النبوئتين حقها فيبقى أن نوضح علاقة النبوءة الثالثة أي الطاعون بالمهدي وملك الروم.
يقول حضرة مرزا غلام أحمد (عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام) الذي ادعى بأنه المسيح الموعود والإمام المهدي مع نهاية القرن التاسع عشر : “هناك أمر هام آخر أجدني مندفعًا لذكره هنا بدافع الشفقة على الإنسانية. وبرغم أني أعلم جيدًا بأن المحرومين من الروحانية سيضحكون علي بسببه ويستهزئون، إلا أني أرى كشفه للناس واجبًا عليّ شفقةً على الإنسانية، وهذا الأمر هو: أني رأيت في المنام اليوم 6-2-1898م يوم الأحد أن ملائكة الله يغرسون في شتى مناطق البنجاب أشجارًا سوداء كريهة الشكل مخيفة المظهر وقصيرة الطول، فسألت بعض هؤلاء الزارعين: ما هذه الأشجار؟ فقالوا: إنها أشجار الطاعون الذي سيتفشى في البلاد عن قريب….. وما رأيته كان منظرًا مخيفًا جدًا. وقد تلقيتُ قبله إلهامًا عن الطاعون وهو: “إن الله لا يُغيّر ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم، إنه آوى القرية”.. أي لن يزول هذا الوباء الظاهر ما لم يزُلْ وباء المعصية من القلوب.” (أيام الصلح، الخزائن الروحانية المجلد 14 ص 360-361)
وهذه النبوءة لها إشارة في القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} (النمل 83).. أي أن هذه الدابة تجرحهم، وهذا ينطبق على عدوى الطاعون، وهذا الجرح علامة على عدم إيمانهم. كما أنها تكلِّمهم كلاما بلسان حالها.. أي تقول لمن تهلكه ولمن ينجو منها بلسان حالها إنني علامة واضحة على صدق المسيح الموعود عليه السلام.
لقد أظهر الله تعالى لصدق الإمام المهدي عليه السلام آية عظيمة بصورة الطاعون. لقد أخبره الله تعالى بتفشي الطاعون قبل الأوان بشهور كثيرة حيث رأى في الرؤيا أن الملائكة تزرع أشجارًا دميمة الشكل مخيفة، وأخبرته أنها الطاعون الذي هو على وشك الانتشار. كما ظهر له الطاعون في رؤيا بصورة الفيل الذي يعيث في الأرض بالهلاك والتدمير، لكنه لما وصل إلى حضرته جلس أمامه خاضعا طائعاً، ومعنى هذه الرؤيا أن ملائكة الطاعون قد أُمرت بتأييد حضرته. ولقد صدق هذا المعنى ما تلقى حضرته مما أوحى الله تعالى إليه بهذا الشأن فقال: “إنّي أُحافِظ كلَّ مَن في الدّار“، وأيضًا ما قال تعالى: “لولا الإكرام لهلك المقام“.
فنشر حضرته وحي الله تعالى قبل ظهور الطاعون، وأعلن أن أتباعه سيكونون في مأمن من الطاعون أكثر من غيرهم بفضل الله تعالى. كذلك أعلن حضرته أن قاديان ستكون أمنع للطاعون من سائر القرى والمدن الأخرى، ولا تكون هدفا للطاعون المبيد كمناطق أخرى، وستكون دار حضرته محروسة ومصونة كلها على الإطلاق، ولن تحدث فيها أية إصابة من الطاعون.
وبعد هذه الإعلانات التي استهزأ بها المعارضون كالمعتاد، فتك الطاعون بأهل الهند أشد الفتك، وكان يقضي على مئات الألوف منهم كل سنة، لكن رغم ذلك فقد حظر حضرته على جماعته التطعيمَ ضد الطاعون العلاج الوحيد الذي كان يوثَق به للاحتماء من هذا المرض الوبيل، وقد فعل ذلك بناءًا على وحي الله تعالى الذي أراد بذلك التأكيد على تأييده للمسيح الموعود عليه السلام وجماعته.
وإنها لأعجب آية تدعو أولي الألباب إلى طمأنينة واقتناع: فإن كبار الأطباء الذين كانوا يفرطون في الحيطة والحمية، لم ينجوا من هذا الوباء، كما أن القاطنين في قصور شاهقة منعزلة عن العمران أيضا أصيبوا به ولم يتخلصوا من بطشه. والمطعمون ضد الطاعون أيضا لم يكونوا من الناجين. لكن الساكنين بدار حضرته كانوا بمنجاة منه مع انعدام الأسباب الظاهرية ومع فقدان الأدوية الواقية والوسائل الصحية المواتية، ورغم لزومهم الدار غير هاربين عنها، ورغم أن عدد السكان كان كبيرا وفي زيادة مستمرة، بسبب تقاطر اللاجئين إليها كل يوم.
فلو لم يدخل الطاعون قاديان بتاتا، أو دخله ولم يحدث حول دار حضرته إصابات، فكان من الممكن أن يعزى ذلك إلى المصادفة، لكن تفشي الطاعون بقاديان، وحلوله بالبيوت المتجاورة، ونجاة سكان داره، بل الدواب اللاجئة إليها، بعد أن سبق أن نشر حضرته أن الملائكة تحفظه وتؤيده، لأقوى دليل على أن الملائكة كانت مأمورة بالانقياد لحضرته عليه السلام ومكلفة بحفظه وصيانته ونصرته.