كنا قد ذكرنا سابقا أن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام قد بُعث في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، في وقت لم يكن الإسلام في حالة مزرية للغاية فحسب، بل كانت اللغة العربية تعاني معاناة شديدة وبدا وكأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة؛ إذ أخذ أهلها يهجرونها وينظرون إليها بازدراء. وكان هذا مصاحبا لموجة الإلحاد التي ضربت العالم العربي والإسلامي إثر انحطاط الأمة الإسلامية وهزيمتها العسكرية في كل مكان ووقوع المسلمين تحت حكم غيرهم، مما جعل كثيرا منهم يفقدون الثقة في الدين وفي التراث ويرون أن النهضة مرتبطة الآن بنفض هذا التراث بعيدا واستبداله بتراث الأمم الغربية المنتصرة.
وقد بينَّا بأن حضرته قد قدَّم شعرا ونثرا عربيا رائعا عظيما غنيًّا بالمعاني السامية لقيم الإسلام وأخلاقه ودلائل صدقه وحاجة البشرية إليه في قالب أسلوبي رائع مرتبط بالتراث ومطعَّمٍ به؛ فأعاد التعابير والمصطلحات التي كان أعداء اللغة من الملحدين يرونها متكلَّفة وعفا عليها الزمن ولا بد من هجرها، واستخدم التناصَّ والأساليب العريقة في الأدب العربي كالمعارضة الشعرية بل وابتكر أيضا المعارضة النثرية في بعض النصوص، فأصبح القارئ يستمتع بنصٍّ لذيذ غني بالمعاني يرتقي بروحه وبإيمانه ويشعره كأنه يتجوَّل في تاريخ الأدب العربي وتراثه، ويوصل ماضي العربية بحاضرها.
وكنا قد ذكرنا بأن ارتباط أعماله العربية من شعر ونثر ببعثته إنما يعني أن هذه الحركة التجديدية التأصيلية في العربية المتجذرة في التراث والمتفرعة منه ستنتشر بانتشار دعوته، وقد أدت وتؤدي إلى مزيد من الاهتمام والتعزيز للعربية ودورها وتواصلها مع تراثها إلى أن تصل إلى اللغة الأولى في العالم مجددا كما قدَّر الله تعالى لها. وأن العالم بكامله سيساهم في هذه الحركة النهضوية للعربية، سواء آمن بحضرته أو عارضه.
ولكن خدمته للعربية لم تقتصر على ما سبق، بل قد أعلن حضرته إعلانا هاما وهو أن الله تعالى قد أخبره بأن العربية إنما هي أم الألسنة، وكل اللغات إنما قد تفرَّعت منها، وأنها لغة إعجازية إلهامية علَّمها الله الإنسان بعد اكتمال خلْقِه وحيثما خلقه منذ ملايين السنين، ثم حدث التبديل والتغيير مع الزمن أيضا بمشيئة الله حسب المكان والمناخ وطبائع البشر واختلافاتهم. وقد علَّمها الله تعالى للبشر بمجرد اكتمال خلقهم ودخولهم مرحلة الوعي، فوجدوا أنفسهم ينطقون بها، ولا صحة للظن بأنهم قضوا فترة يصدرون أصواتا كالحيوانات ثم بعد ذلك قننوها واخترعوا اللغات. وعلى كل حال هذا النظرية قد نقضها علماء اللسانيات حديثا، بل قد وصلوا إلى نتيجة هي أن اللغات لا بد أن يكون أصلها واحد، وإن لم يتفقوا على هذا الأصل، وبهذا توافق بحثهم مع إعلان حضرته الذي كان مصدره الوحي من الله تعالى العليم الحكيم.
وعلى كل حال، فلم يكن إعلانه بأن العربية هي أم اللغات مجرد إعلان عاطفي مبني على الإيمان دون قرائن وأدلة، بل قد عزَّزه بالأدلة الدامغة من القرآن الكريم والحديث الشريف بل وحتى الكتاب المقدَّس وغيره من الأدلة الأخرى الخارجية، ثم طفق تحديثا بمزايا اللغة العربية التي تحتوي مزايا اللغات كلها مما يدلُّ حقا على أنها أمها، وبيَّن بأنها مع قدرتها الفائقة على استيعاب المعاني وتقديمها بكل وضوح ودِقَّة إلا أنها أيضا تتمتع بإيجاز مذهل، حتى إن بعض جملها قد تكون حرفا واحدا كمثل “رَ” والتي تعني “انظر”،وهي تحتوي فعلا وفاعلا! وكيف أن الكلمة الواحدة تستعيض عن جملة في اللغات الأخرى بإضافة الضمائر إليها. هذا فضلا عن أمور تفصيلية أخرى كثيرة.
ولقد ضمَّن هذا البحث في كتابه “منن الرحمن”، والذي احتوى جزءًا عربيا وجزءًا أرديا، وقدَّم الجانب العربي أيضا بأسلوبه العربي الرائع المعهود.
لقد كان مما قاله حضرته في هذا الكتاب تبيانا للفارق بين العربية وغيرها من اللغات هو أنها أشبه بالشخص الذكي اللماح الذي يمكن أن يعبر عن نفسه بالكلمات والإشارات والإيماءات بينما اللغات الأخرى أشبه بأصمَّ وأبكم العاجز عن التعبير إلا بشقِّ الأنفس، ولذلك سُمي العرب عربا بسبب فصاحة هذه اللغة وسُمي غيرهم عجما لأنهم عاجزون عن التعبير بالكمال الذي يتوفر في العربية. ولهذا فقد اختارها الله تعالى لتكون لغة كتابه الأخير الذي هو للبشرية جمعاء. واختيارها لغة للقرآن الكريم الذي سُمي أيضا بأم الكتاب هو من أهم الأدلة على أنها أم اللغات والتي ينبغي على البشرية أن تعود إليها كما يعود الابن الضال إلى أمِّه. وفي الكتاب كثير من التفاصيل الرائعة والأدلة الدامغة التي لا يغني هذا الإيجاز في بيانها.
ولقد كان حضرته عليه الصلاة والسلام أيضا عاشقا للغة العربية ومتحمسا له حماسا شديدا لا تجد نظيره في العرب حتى في المتعصبين منهم؛ وقطعا لم يكن مرجع ذلك العصبية، بل كان مرجعه حبه العظيم للإسلام وللنبي صلى الله عليه وسلم. وكان حضرته يؤمن إيمانا جازما أن رفعة الإسلام وعزته منوطة بإعادة اللغة العربية إلى مكانتها الصحيحة عند المسلمين، وعاب على ملوك المسلمين ترويجهم للغاتهم كالفارسية والهندية التركية وغيرها وهجرتهم للعربية، وقال إن العربية لو انتشرت في الشعوب الإسلامية فستقرِّبهم إلى القرآن الكريم وستكون عاملا لتوحيد الأمة أيضا، وأن إبعاد الشعوب الإسلامية عن العربية إنما هو إبعاد لهم عن الإسلام، وحمل على الذي يفضِّل لغة أخرى على العربية ووصفه كمن يترك اللحم الطيب وينكبُّ على عظام الخنزير يتمششها.
والواقع أن النظر في خدمة حضرته للعربية بطرق عديدة كما أوضحنا، وفي حماسه الشديد لها، دليلا قويا على أنه بالفعل ذلك الإمام المهدي والمسيح الموعود الذي بعثه الله تعالى نائبا للنبي صلى الله عليه وسلم في البعثة الثانية الموعودة للإسلام التي جاء النبأ عنها في سورة الجمعة في قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ } (الجمعة 4)، فالعربية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالإسلام، فهي تزدهر معه وتتراجع معه، فلا يمكن لمن يريد النهوض بالإسلام أن يهملها. ولعلَّ هذا يصلح معيارا لمعرفة أهل الحق من أهل الباطل، فمن تباعد من العربية أو أنكر فضلها أو حاول قطعها عن تراثها أو لم يقدِّر أهميتها فهذا بلا شك عدو الإسلام و أو من الذين يميلون إلى الإلحاد أو هو من الملحدين. وليس أدلَّ من ذلك إلا أن الهجوم على العربية كان رواده الملحدون من أدعياء الدعوة إلى النهضة إعجابا بالغرب وتقليدا له وكفرا بقدرة الإسلام على إصلاح الأمة وإعادتها إلى مجدها. ولكن المشيئة العربية قد تداركت الإسلام وتداركت العربية، وليس هذا خاصا باللغة أيضا، بل سيدرك العرب يوما أن هذه الدعوة هي التي ستصون الأمة العربية من الضياع والتشتت عندما سيؤمن العرب بها، فعندها فقط سيتوحدون تحت رايته وسينالون المكانة المرموقة بين الأمم التي قدَّرها الله لهم بأن اختار النبي صلى الله عليه وسلم منهم. وهذا ما أكد عليه المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام من فضل للعرب لا يمكن أن يدانيهم فيه أي أمة أخرى.
يرجى الضغط على الرابط للحصول على كتاب “منن الرحمن” لمزيد من التفصيل