منشأ الفكرة
من دواعي الإعجاب جولات الخليفة الخامس المكوكية هنا وهناك، ولقاءاته المتواصلة بصناع القرار، ورسائله إلى القادة والزعماء، بغية ترسيخ السلام العالمي، وفي كل كلمات حضرته الحكيمة يركز خليفة المسيح الموعود على فكرة أن غياب مبدأي العدل والقسط عن أجواء التعاملات الدولية لهو المهدد الأول لسلام العالم.. فإن العدل والقسط لا يغيبان عن كيان اجتماعي إلا عمه الفساد، وبدأ عدَّه العكسي نحو هاوية الانهيار.. وهنا وقفة، لماذا نتحدث هاهنا عن العدل والقسط بصيغة المثنى؟! أوليس كلا اللفظين مرادفا للآخر، بحيث يمكن له أن يحل محله في أي تعبير؟! هذا ما سنتناوله بالطرح ضمن فسحتنا في رياض لغتنا العربية لهذا الشهر.
العدل في القرآن
وردت مادة “ع – د – ل” ومشتقاتها اللفظية في القرآن المجيد في بضعة وعشرين موضعا في سياقات تناولت مبدأ المعاملة الاجتماعية بالمثل، سواء على صعيد التعامل الثنائي بين فردين، أو على الصعيد الأسري أو الاجتماعي، أو حتى الصعيد العالمي على مستوى التعاملات بين الدول. فالمعاملة بالعدل بين طرفين تتمثل في معاملة كل منهما الآخر بما يحب أن يلقاه منه، يعني أن تسود المساواة جو العلاقة بينهما. والعدل بين طرفين يعني أن يقف طرف ثالث موقف الحياد بينهما، بمعنى أن يلتزم بالمسافة نفسها بينه وبين كلا الطرفين المختصمين. ومن جملة المواضع القرآنية ننتقي شيئا على سبيل الاختصار لضيق المقام، فعلى سبيل المثال يقول تعالى:
- {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 59)
- {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(النحل: 91)
- {…فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً…} (النساء: 4)
- {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}(النساء: 130)
- {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(المائدة: 9)
- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}(المائدة: 96)
مما سبق نلحظ قاسما مشتركا بين الآيات التي وردت فيها مادة “ع – د – ل” بأي من مشتقاتها اللفظية، فالعدل فيه إشارة صريحة إلى المساواة، سواء بين فردين أو فريقين يعدل كل منهما الآخر، أي يعادله ويساويه، أو فردين أو فريقين مختصمين يحتكمان إلى طرف ثالث يحكم بينهما، فيتوجب على ذلك الطرف الحاكم أن يقف على المسافة نفسها من كلا المختصمين المحتكمين إليه. العدل إذا في كافة السياقات القرآنية يتضمن فكرة التساوي والمساواة. والله تعالى يأمرنا بالعدل، بمعنى أنه يأمرنا بالحكم على أنفسنا بنفس المعيار الذي نحكم به على الآخرين، وأن نعاملهم بنفس المعاملة التي نحب أن نلقاها منهم.
القسط في القرآن
كذلك القسط في القرآن وردت مادته اللغوية “ق – س – ط” في بضعة وعشرين موضعا أيضا، ولكن في سياقات بعيدة نوعا ما عن مبدأ المساواة، ننتقي منها كذلك على سبيل الاختصار للإلمام بالفكرة الآيات الآتية:
- {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(آل عمران: 19)
- {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}(آل عمران: 22)
- {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ}(النساء: 128)
- {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}(الرحمن: 10)
والقسط في أبسط معانيه هو النصيب المحدد، وننقل من المعاجم مثلا: “الــقِسْطُ: الحِصَّةُ والنَّصِيبُ. يقال: أَخذ كل واحد من الشركاء قِسْطَــه، أَي حِصَّتَه” لسان العرب، لابن منظور، مادة “ق – س – ط”، ومن البديهي أن تختلف مقادير الحصص والأنصبة، كما في المواريث مثلا، فللذكر مثل حظ الأنثيين بوجه عام، وللأنثى المقبلة على الحياة أكثر من الذكر المدبر، كما في حالة توزيع الميراث بين الابنة والجد. فالحاصل أن المعاملة بالقسط لا تتضمن بالضرورة مبدأ المساواة، وإلا كانت منطوية على جور كبير. وفي بلاد ما بات يسمى بالعالم الثالث، طالما تنتاب شرائح واسعة من المجتمع نوبات امتعاض من سوء الوضع العام مقارنة بشرائح أخرى في المجتمع نفسه، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى ثورات ومطالبات فئوية. رأينا بأم أعيننا إضرابات عديدة قامت في بلدان الربيع العربي، مطالبة بالمساواة في الأجور، غاضة الطرف عن التفاوت في الأعباء أو الخبرات، فكان مآلها إلى الانهيار في النهاية، وما زالت تلك المجتمعات تعاني تبعات مثل تلك الإضرابات الفئوية المطالبة بحصص متعادلة من الأجور. وما مآل مجتمعات الثورات الشيوعية عنا بخافٍ. لقد وقفت هذه الثورات الجامحة عند مجرد المطالبة بالعدل بغض النظر عن القسط. لا نجد مجتمعا يتساوى فيه الناس من حيث مقدار الموارد إلا وينهار هذا المجتمع من تلقاء نفسه، حيث لن يكون اي من أفراده بحاجة إلى الآخر. فالمعاملة بالقسط بين الناس لا تعني أن يُعْطَى كل منهم النصيب نفسه، ولكن يُعطى كلٌّ ما يستحق وإن كان بأكثر مما يعطاه الطرف الآخر. لا يسوغ العقل مثلا أن تتساوى رواتب الموظفين على الرغم من اختلاف الأعباء والخبرات، فالتعامل بالعدل هنا في هذا الموقف هو الظلم بعينه، فلا مناص من التعامل بالقسط في مثل هذه المواقف.
العدل والقسط والشعرة الدقيقة
طالما وقعت الأكثرية من الناطقين بالعربية في خطأ غير مقصود، تمثل في الخلط بين العدل والقسط من حيث المعنى، لا سيما إن كانوا من أنصار الترادف لمجرد التنويع والتنميق. أما مصنفو المعاجم من أهل اللغة والمتبحرين فيها فلا يجرؤ على الانتقاص من مقامهم وجهودهم إلا جاحد، وإن لم تشفِ كثير من تصانيف المعاجم غليل كثيرين، لا لتقصير المصنفين، ولكن ربما لقصور فهم كثير من المتأخرين أمثالنا. فمثلا، ورد في معجم الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري فيما جاء في التمييز بين العدل والقسط: ” الفرق بين القسط والعدل: أن القسط هو العدل البين الظاهر ومنه سمي المكيال قسطا والميزان قسطا؛ لأنه يصور لك العدل في الوزن حتى تراه ظاهرا، وقد يكون من العدل ما يخفى ولهذا قلنا إن القسط هو النصيب الذي بيّنت وجوهه. وتقسط القوم الشيء تقاسموا بالقسط”معجم الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري، ” القسط والعدل”.. فالظاهر مما ذكره أبو هلال العسكري أنه لا يرى حرجا في القول بتطابق المعنى بين مفهومي العدل والقسط، وقصر التمييز على الظهور والخفاء، فالقسط عنده عدل ظاهر، والعدل كذلك عنده قسط خفي. ولكن برجوعنا إلى سرد الآيات القرآنية التي تناولت مادتي “ع – د – ل” و”ق – س – ط” نرى أن المسألة أعمق وأغنى.
كما أسلفنا، فإن الحكم بالعدل يتضمن معاملة الطرفين المحتكمين معاملة متساوية، والوقوف منهما على نفس المسافة، وكما نُسب لفاطمة الزهراء (رضي الله عنها) قولها: “يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ”صحيح مسلم, كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل عائشة رضي الله تعالى عنها.، أي يسألنك المعاملة بالتساوي، بغض النظر عن اختلاف الظروف، ولكن النبي الخاتم (صلى الله عليه وسلم) عامل أزواجه (رضي الله عنهن) بالقسط، والذي يراعي فيه المقسط مقتضى الحال، بحيث إن معاملة تتطلبها البكر الشابة تختلف عن تلك التي تتطلبها الثيب العجوز، والقول بوجوب التساوي في المعاملة في موقف كهذا يشبه القول بوضع جميع التلاميذ مهما اختلفت أعمارهم أو ميولهم أمام اختبار واحد دون مراعاة للفروق الفردية فيما بينهم. إن المعاملة بالقسط تتجلى حتى بين الأم وأولادها، حيث تُبدي أي أم قدرا أكبر من الاهتمام لولدها الصغير أو المريض، دون أن نصف فعلها هذا بالظالم، ذلك أنها توصف بالقسط في هذا المقام. الفيصل هنا هو أن المقسط يراعي مقتضى الحال.
خلاصة القول في الفرق بين العدل والقسط، أن العدل يتضمن المساواة بين جميع الأطراف، بينما القسط يحمل في طياته شيئا من المواساة وفق ما يقتضيه الحال. وبلغة العصر نقول أن العدل هو تطبيق نص القانون، بينما القسط يعني تطبيق روح القانون، فالفرق بين العدل والقسط يمكن إجماله في عبارة تقول أن “ما بين العدل والقسط مثلما بين المساواة والمواساة”.
عودة إلى الأم الأولى
إذا كان جُلُّ الناطقين بالعربية قد غفلوا عن الفرق الدقيق بين مفردتي “عدل” و”قسط” في العربية في الاستعمال العصري، فلا يحق لنا إلقاء اللوم على غير الناطقين بالعربية حين يغفلوا أو حتى يتغافلوا عن أصل اللفظة المرادفة لمعنى العدل أو القسط في لغاتهم..
إذا ما ألقينا نظرة غير متخصصة على ألفاظ اللغة الإنكليزية الدالة على العدل بشكل عام، والمتداولة في هذا العصر، نجد لفظة “justice”، فلا يتعذر علينا إدراك التشابه الكبير بينها وبين “قِسْط” العربية، ولكن أشهر المعاجم الإنكليزية التي تبحث في أصول الألفاظ نجدها تتهرب من هذه الحقيقة، عمدا أو سهوا، لا يمكننا البت الآن، ولكن على أية حال، فإن هذه المعاجم تُرجع المفردة “justice” إلى الأصل اللاتيني ” justus” ناسبة الولد إلى غير أمه وأبيه، مخالفة بهذا أبسط معاني القسط، ولعل في قول الله تعالى إشارة كافية {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}(الأحزاب: 6)، مع أن استيراد اللفظ في اللاتينية من العربية ليس مستبعدا كذلك، لا سيما وأنه قد بات من المعروف أن العربية هي نفسها اللغة التي نقلت علوم الإغريق والرومان بترجمتها، فحفظت تلك العلوم في وعاء العربية بينما ضاعت لغاتها الأم، من هنا نقول بملء الفم أنه مع حركة الترجمة الواسعة تلك استقرت ألفاظ عربية كثيرة في اللغة اللاتينية، ثم في اللغات الأوربية المتحدرة منها، كالإيطالية والفرنسية والكتلانية والرومانية والإسبانية والبرتغالية. علاوة على ما تقدم، فالفقر الاشتقاقي للإنكليزية واللاتينية بفروعها يدفعنا دفعا إلى القول بأن ” justice” الإنكليزية لا يمكن إلا أن تكون ابنة أو حفيدة “قِسْط” العربية، لا سيما إذا راجعنا معاني مفردة Just الإنكليزية المتداولة “Oxford Complex Dictionary, The Origin of the word “justice”. .والتي يذكر قاموس أكسفورد أنها أحد أسلاف مفردتنا “justice”. سنرى أن “just” نفسها تفيد معنى التقدير والضبط الذي تتضمنه معاني “قِسْط” العربية. هذا جانب من علو كعب العربية واستحقاقها المرتبة العظمى بين اللغات الحية وغير الحية، حتى أنها اللغة الوحيدة المؤهلة في تقدير المقسط سبحانه وتعالى لأن تحمل الوحي الكامل، لأنها لغة يتكلم بها العالم أجمع في هذا العصر، أدرك هذه الحقيقة أم غفل عنها.
بارك الله فيك اخي الكريم
مقال طيب جدا
جزاك الله خيرا علي مجهودك المبذول
جميل جدا ومقال ممتع
جزاكم الله أحسن الجزاء