كنا قد بينَّا سابقا في العديد من المقالات أنه كان من مهام بعثة المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام إحياء اللغة في عصر كانت قد بدأت اللغة فيه تذوي ويهجرها أهلها، بل إن بعض الملحدين من المتغرِّبين من الكتاب والأدباء العرب في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أرادوا تسطيح اللغة وقطع صلتها بتراثها وجذورها وأصالتها وتجريدها من جمالياتها التي ازدانت بها على مدى عصورها. هؤلاء لم يكونوا يؤمنون بأن العربية هي اللغة الأسمى والأعظم بل التي تمتاز بكونها لغة إلهامية اختارها الله تعالى وفضَّلها على سائر اللغات، وكان يرون أن القضاء على الإسلام يتطلب القضاء على العربية كما أن القضاء على العربية سيؤدي إلى قصم ظهر الإسلام وبداية اندثاره. وفي هذا الزمن بعث الله المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام ليحيي اللغة ويعيدها إلى مجدها لتكون كما كانت دوما عنصرا مهما في نهضة الإسلام وتقدمه.
بينَّا في السابق أن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام كان قد تعلَّم أربعين ألفا من اللغات العربية في ليلة واحدة، وهذه اللغات تعني الجذور والأساليب والنحو والصرف والتراث والأدب العربي والشعر وكذلك مختلف اللهجات العربية القديمة الأصيلة، وهذا ما يتضمنه معنى كلمة “لغات” التي كانت تستخدم بهذه المعاني في كتب التراث. وقد بينَّا أن تعلُّمه للأساليب والتراث ظهر في تناصِّه ومعارضته الشعرية والنثرية للشعر الجاهلي ومقامات الحريري وغيرها، وكيف أنه ارتقى بالنصوص وأخرجها من أغراضها التي كانت بسيطة وتافهة أو تدعو إلى الفسق والفجور إلى أغراض خدمة الإسلام وتعاليمه وأخلاقياته وقيمه السامية، وقدَّمنا الأمثلة على ذلك.
كذلك بينَّا بأنه عليه السلام قد استحيا الجذور المهجورة التي لم يعد يألفها القارئ العربي المعاصر، وأدخلها في نصوصه، وكان من أهم مظاهر ذلك كتابه “سيرة الأبدال”، إضافة إلى ما ورد في الكتب الأخرى.
أما الجانب الآخر من استحياء اللغة فهو استحياء القواعد والأساليب غير المألوفة في العربية للقارئ العربي المعاصر، والتي هي من صميم العربية، وهذا لكي يردُّ حضرته القارئ العربي إلى التراث ويعيد هذه الأساليب وهذه القواعد إلى الحياة بعد أن هجرها المعاصرون عموما وكرهها وعافها التسطيحيون الملحدون أعداء اللغة. وعندما كنا ندقق الكتب العربية لحضرته فقد لفت نظرنا عدد من الأساليب والقواعد التي كانت تبدو غير مألوفة، ولكن بعد البحث تبيَّن بأنها صحيحة كلها، بل وقررنا البحث عن أمثلتها في القرآن الكريم أولا ثم الحديث الشريف ثم غير ذلك من كتب الأدب والتراث، وقد وفقنا الله تعالى للعثور على أمثلتها. وقد أثبتنا ذلك في مقدمات الطبعات الحديثة من كتب حضرته العربية التي بدأنا بإصدارها مع أواخر التسعينات. وأنقل هنا نموذجا من كتاب التبليغ من هذه التنبيهات التي وضعناها للفت انتباه القارئ العربي وفي ذيله بعض النقاط التي وردت في مقدمات أخرى:
“مهلاً أيها القارئ العزيز!
لقد ورد في هذا الكتاب كلمات وتعابير قد تبدو لأول وهلة غريبةً لقارئ العربية المعاصر، ولكنها من صميم العربية، كما سيتضح لاحقًا من خلال الشواهد التي سقناها من القرآن الكريم والسنة الشريفة وكتب التراث. ولربما كان المسيح الموعود عليه السلام قد استخدمها ليُظهر بعض ما حباه الله به من كنوز هذه اللغة المقدسة، إفحامًا للمشايخ الذين نعتوه بالجهل التام بهذه اللغة المباركة. ومن هذه التعابير والأساليب على سبيل المثال لا الحصر:
أولا: تركُ ظاهر اللفظ وحملُه على المعنى، وهو كثير، كقوله عليه السلام:
– يا أهل أرض النبوة وجيرانَ بيت الله العظمى (ص 33) أي الكعبة العظمى.
– أجد قلبي مائلا إلى القرآن ودقائقها (ص 103) أي إلى صحيفة القرآن ودقائقها.
والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن الكريم منها قول الله تعالى:
– تلك القرى أهلكناهم لما ظلموا (الكهف:60)
ويقول الثعالبي: “من سنن العرب تركُ حكمِ ظاهرِ اللفظ وحملُه على معناه كما يقولون: ثلاثة أنفس، والنفس مؤنثة، وإنما حملوه على معنى الإنسان أو معنى الشخص…. وقال الله تعالى {السماء منفطر به} فذكّر السماءَ وهي مؤنثة، لأنه حمل الكلام على السقف”. (فقه اللغة وأسرار العربية ص 368 و369، المطبعة العصرية، بيروت 1999)
ونقل السيوطي عن خصائص ابن جني: “اعلمْ أن هذا النوع غَورٌ من العربية بعيد، ومذهب نازح فسيح، وقد ورد به القرآن وفصيح الكلام منثورًا أو منظومًا، كتأنيث المذكر وتذكير المؤنث وتصوُّر معنى الواحد في الجماعة، والجماعةِ في الواحد. فمن تذكير المؤنث قوله تعالى {فلما رأى الشمس بازغةً قال هذا ربي}.. أي هذا الشخص (أو الجِرم)” (الأشباه والنظائر في النحو، للسيوطي، الجزء الثاني، ص 102 الطبعة الأولى، مؤسسة الرسالة بيروت 1985).
ثانيًا: تخفيف الهمزة وقلبُها، وهو كثير جدًّا، كقوله:
– فنحن بريّون منها (ص 14) أي بريئون جمعُ بريءٍ.
– الذين يصيبون في استقراء المسالك ولا يُخطون (ص 88) أي لا يخطئون.
ولتخفيف الهمزة وقلبها أشكال وقواعد كثيرة في العربية (انظر جامع الدروس العربية للشيخ مصطفى الغلاييني، المجلد الثاني ص 121 طبعة 1994)
ثالثًا: ورود الأفعال النادرة الاستعمال، ومثاله قوله :
– “إن الله ربكم الرب الكريم الذي أعطاكم من كل نوادر الأرض وأملأ بيوتكم منها…” (ص 65)
ومثاله في التراث:
عن سيف بن عميرة قال: حدثني من سمع أبا عبد الله يقول: من كظم غيظا ولو شاء أن يُمضيه أمضاه أملأ الله قلبه يوم القيامة رضاه. (الكافي، لثقة الإسلام الكليني، الجزء الثاني، كتاب الإيمان والكفر باب كظم الغيظ. دار الكتب الإسلامية طهران، الطبعة الرابعة، 1365 هش)
رابعًا: دخول “ال” على العَلم، ومثاله قوله عليه السلام:
– أهذا الذي سُفك له دماءُ سراة العرب وعظائمِ القريش ببدرٍ (صفحة 118).
ومن نظائره في التراث:
“… فبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن زمعة وسهيل بن عمرو قد جمعوا جماعة من القريش والأحابيش بالخندمة، ليقاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم…” (ثقات ابن حيان، سنة 8، دخوله مكة، الطبعة الأولى 1395هـ مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الهند، الجزء الثاني صفحة 49)
وأيضًا: “وأما الزبير بن عبد المطلب فكنيته أبو الطاهر، مِن أجلّة القريش وفرسانها…” (المرجع السابق، السنة العاشرة: أولاد عبد المطلب صفحة 135)
خامسًا: جواز التذكير والتأنيث في المؤنث المجازي كقوله :
يا سماء! لم لا تنشق لجسارتهم؟ ويا أرض! لم لا تتزلزل لجريمتهم؟ (ص 65)
ونظيره في القرآن الكريم:
{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} (الأَنعام 79)
{السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ } (المزمل 19)
وقال الشاعر:
فَلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا وَلا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَها
(الخصائص لابن جني، ج2 ص 411 فصل في الحمل على المعنى، عالم الكتب بيروت)“
وهذه ليست سوى نماذج من كتابين أو ثلاثة، ويمكن للقارئ الرجوع إلى كتب حضرته العربية ومراجعة هذه المقدمات التي أوردت أمثلة من كل كتاب وقواعدها ومثيلها في القرآن الكريم أو الحديث أو كتب التراث.
وبالطبع، فإن هذه الأمور لا يعرفها إلإ المتعمقون في اللغة العربية الذين قد أصبحوا قلَّة الآن، ولكن من خلال كتابات المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام ستصبح هذه الأساليب وهذه القواعد غير المألوفة مستخدمةً من جديد وستؤدي إلى تلك الثورة الإحيائية المستهدفة بعناصرها المختلفة.
وهكذا، فقد يرى التسطيحيون الملحدون لجهلهم أن هذه الأساليب المخالفة للمألوف؛ كالتذكير والتأنيث، وترك ظاهر اللفظ وحمله على المعنى، وتلزيم المتعدي وتعدية اللازم في الأفعال، وقطع النعت لتقوية المعنى، ومخالفة المألوف في قواعد العدد، وجواز رفع اسم إن، وجواز إثبات حرف العلة في الاسم المنقوص عند الرفع والجر، قد يرونها أخطاء ويرفعون عقيرتهم معترضين، ولكن هذا إنما يدل على جهلهم من ناحية وعلى رغبتهم بوأد اللغة وقطعها من تراثها الذي سجلته أمهات الكتب واحتفظت به.
إن استحياء هذه الأساليب والقواعد هو جانب من تلك اللغات العربية التي علِّمها حضرته من الأربعين ألفا، وكان واجبا أن تظهر، وقد ظهرت في هذا الجانب أيضا كما ظهرت في الجوانب الأخرى من قبل لتدمغ المنكرين.