ما هو المعنى الحقيقي للنبي الأمي؟
يخطئ كثير من الناس فهم معنى “النبي الأمي” الذي هو لقب الرسول صلى الله عليه وسلم، ويظنون أن المقصود هو النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب! مع أنه لقب عظيم شامل لجوانب كثيرة. فمن أهم جوانب معاني هذا اللقب ما يلي:
1) أميّ نسبة إلى الأمم من غير بني إسرائيل. ووفقا لقواعد النسبة في صرف اللغة العربية، فإن النسبة تكون للمفرد لا للجمع بحذف التاء المربوطة إن وجدت وإضافة الياء. فلا يجوز القول “نبي أممي” فهذا غير مقبول لغويا. والمعنى هنا: أي هو النبي الذي يخرج من غير بني إسرائيل. وقد استخدم الكتاب المقدس هذه التسمية كما استخدمها القرآن الكريم لتعني من هم ليسوا من بني إسرائيل أو من أهل الكتاب جميعا حيث يقول تعالى:
“وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ” آل عمران 21
كما قالت اليهود لتبرير ارتكابهم الخيانة في حق غيرهم ما سجله القرآن الكريم حيث يقول تعالى :
“وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” آل عمران 76
2) نسبة إلى مكة والتي اسمها “أم القرى”. وحسب قواعد النسبة فإن الاسم المركب تركيبا إضافيا ينسب إلى شطره الأول. وهنا تعني النبي المكي، أي الذي من مكة.
3) نسبة إلى “أمة” المفردة، وعندها يعني ذلك هو النبي الذي ينشئ أمة جديدة واحدة متميزة فريدة. وهذا ما حدث بظهوره صلى الله عليه وسلم وظهور الإسلام.
4) نسبة إلى “الأم” أي الفطرة الإنسانية الأصيلة الصافية النقية. وذلك كما يقال اللسان الأم أو اللغة الأم والوطن الأم وغيرها.
أما عدم معرفته صلى الله عليه وسلم بالقراءة والكتابة فلم يكن متفردا في هذا بين العرب، بل كانت عدم معرفة القراءة شائعة، وكان لذلك خلفية لا بد من فهمهما. فلقد كان العرب يقيمون وزنا عظيما للأدب الشفوي، وكانوا يتميزون بصفاء الذهن بحيث كان بعضهم قادرا على حفظ مئات الأبيات من الشعر لمجرد سماعه. ورغم ذلك فقد كانت الكتابة معروفة عندهم، فقد ابتكروا الأبجدية العربية المتطورة وعرفت الحروف العربية منذ آلاف السنين بأشكال متنوعة متقاربة سواء في الجنوب في حمير أو في الشمال في بلاد الشام. وتوجد آثار قديمة تحمل نقوشا بهذه الحروف ما زالت ماثلة للعيان. وكما هو معروف، فقد علقوا في الجاهلية قصائد مميزة على جدار الكعبة تقديرا لجودتها؛ فلو لم يكن هنالك من يقرؤها، فماذا كان معنى وجودها. ولقد كانت الكتابة والقراءة أمرين متيسرين ليس من الصعب تعلمهما، بل كان يسهل تعلمهما في أيام معدودات. لذلك لم يكن كثير من الناس يشعرون بالحاجة إلى تعلمهما.
ومن الأدلة على يسر تعلم القراءة والكتابة هو ما جعله الرسول صلى الله عليه وسلم من وسيلة لكي يفتدي بعض أسرى بدر أنفسهم؛ وذلك بأن يعلِّم كل من يعرف القراءة والكتابة منهم عشرة من المسلمين. فلولا أن الأمر كان سهلا متيسرا، لكانت مهمة التعليم تتطلب شهورا من العمل المضني، وخاصة من جانب كبار السن الذين لا يسهل تعليمهم، أو لكانت تلك مهمة مستحيلة.
كذلك فقد كانت الحروف العربية في السابق غير مشكلة ولا منقوطة وتم إضافة ذلك فيما بعد في العصور الإسلامية. وهذا لأن العرب كانوا قادرين على التمييز بين الحروف المختلفة في اللفظ المتشابهة في الرسم دون تمييزها بنقاط، كما كانوا قادرين على لفظها بشكل صحيح دون تشكيل. وعدم الحاجة للتشكيل والتنقيط دليل آخر على مدى سهولة تعلم القراءة والكتابة في ذلك الوقت، وهذا لأن القارئ العربي كان يفهم النص ولا يحتاج إلا إلى أدنى حد من الرسم لكي يعي المكتوب ويقرأه.
هل كان رسول الله ﷺ يعرف القراءة والكتابة؟
أما بخصوص عدم معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم للقراءة والكتابة، فهي إن صح تسميتها بالأمية فهذا نسبة إلى صفاء الفطرة ونقائها وسلامتها وعدم اختلاطها بما يعكرها، ولم يستخدم القرآن هذا التعبير (أي الأمي) لتبيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرف القراءة والكتابة، حيث يقول تعالى:
“وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ” (العنكبوت 49)
لذلك يجب الحذر من هذا التعبير، فلا يصح تسمية مجرد عدم معرفة القراءة والكتابة بالأمية، فقد لا يستحق كثير ممن لا يعرف القراءة والكتابة هذه الصفة الراقية. فهذا التعبير يحكم على نقاء فطرة المرء وصفاء ذهنه، لا على عدم امتلاكه هاتين المهارتين.
ولقد استعار العرب مؤخرا لفظة “أمي” كمصطلح لعدم معرفة القراءة والكتابة من باب تكريم غير القارئين والكاتبين وتشجيعهم على التعلم. وهذا مستحسن بشكل عام ومقبول لغويا.
المهم، أن صفة الأمي للرسول صلى الله عليه وسلم تشير إلى معانٍ عظيمة كما أسلفنا، وهي صفات مدح وكمال لا نقص. فهو نبي الأمم المؤسس لأمة عظيمة جديدة وهو النبي الذي ليس من بني إسرائيل ولا من أهل الكتاب والذي هو نبي لهم أيضا ليجمعهم في أمته الواحدة، وهو النبي الفطري الذي جاء بدين الفطرة، وهو النبي المكي صلى الله عليه وسلم الذي جاء في أم القرى لكل القرى، وغير ذلك من المعاني الأخرى التي قد لا أكون ذكرتها في هذا الرد.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف القراءة والكتابة بالفعل، وقد بينت في ردي السابق أن هذه قرينة هامة استخدمها القرآن الكريم لدفع الريبة عن كونه قد نقل من كتب أو من فلسفات أخرى. ولقد وضحت أيضا أنه لم وحيدا بين العرب في عدم معرفته القراءة والكتابة، بل كان هذا الأمر شائعا عند العرب لسببين: أولا اعتمادهم على الأدب الشفوي ونقاء أذهانهم وصفاؤها بحيث كانوا يتناقلون الشعر وغيره من صروف الأدب بالرواية، وثانيا السهولة النسبية في تعلم القراءة والكتابة، وقد قدمت بعض الأدلة على ذلك.
وعلى كل حال، فقد كانت عدم معرفة القراءة والكتابة شائعة عند كل شعوب الأرض في ذلك الوقت، وقد اقتصرت على فئات محددة، ولم يصبح التعليم شعبيا ومنتشرا إلا مؤخرا بعد إنشاء نظم تعليمية شاملة ترعاها الدول.
وقد ميزت في إجابتي السابقة بين عدم معرفة القراءة والكتابة وبين الأمية؛ حيث إن أحد جوانب معنى “النبي الأمي” أي نبي الفطرة الإنسانية النقية التي لم تختلط بما يلوثها، كما بينت أن هذا اللقب هو لقب تشريف. وعلى كل حال، فكيف يمكن نسب الجهل إلى من جاء بتعاليم نهضت بالعالم وما زالت تشكل قوة ثقافية وأخلاقية لم يختفِ تأثيرها حتى في أحلك الظروف، بل ما زال الإسلام يمشي بخطى واثقة نحو مستقبل الانتشار الواسع وفقا لكل المؤشرات، وهذا ما يلهب قلوب أعدائه ويدفعهم لمهاجمته.
إن القيمة العلمية والثقافية والحضارية لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هي ما دفعتهم إلى محاولة اتهامه بالنقل من كتب وفلسفات أخرى، وهذا بحد ذاته اعتراف ضمني بهذه القيمة العظيمة.
أما القول بالجهل، فهو تهمة سخيفة لم يجرؤ أحد من معارضيه صلى الله عليه وسلم على إطلاقها في زمن بعثته وما بعدها، لأنهم لم يكونوا بهذا الجهل ليدعوا هذا الادعاء السخيف! وهي تهمة لا يمكن أن يقبل التمسك بها إلا المستجدين من الجهلة والمتعصبين الذين لا يرون كل هذه الحقائق الماثلة أمام أعين العالم منذ بعثته صلى الله عليه وسلم والمستمرة إلى يوم القيامة.
خطة إلهية محكمة
يجدر هنا أيضا التأكيد أن لعدم معرفة النبي صلى الله عليه وسلم القراءة والكتابة صلة قوية بمعجزة ثبوت أن القرآن الكريم إنما هو من عند الله ولا يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مؤلفه، وهذا لأن المؤلف يحتاج إلى أن يخط بيمينة وأن يحتفظ بمسودات وأن يعدِّل ويغير ويقدِّم ويؤخر، ولكن كل هذا الترف الذي يتوفر للمؤلفين لم يكن متوفرا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فبمجرد نزول الآيات القرآنية كان يدعو الكتاب فيكتبونها ويحتفظون بما كتبوا عندهم ويحتفظ حضرته بنسخة عنده لأحد الكتَّاب، ثم يحفظه الجميع السامعون عن ظهر قلب، ويكون قد أعطاهم النص النهائي وفقا لترتيبه في المصحف.
فكيف يمكن لشخص يعتمد على الذاكرة أن يقوم بهذا العمل مهما كانت ذاكرته جبارة، وكيف يمكن أن يخرج المصحف بهذه الصورة النهائية منسجما مع بعضه ومرتبا هذا الترتيب الجميل مع أن الآيات كانت تنزل مفرقة ومنجمة وتوافق أحداثا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؟
ثم عندما توفي النبي صلى الله عليه وسلم لم يقدِّم للناس نسخته لتكون النسخة النهائية، بل اجتمعت لجنة بأمر الخليفة وأشهدت كل من كتب القرآن وسمعه وحفظه على أن هذا ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ثم كتبوه واحتفظوا به وكانوا يقرأونه في صلواتهم وفي مناسبات أخرى. فهذا كان ضروريا لثبوت تواتر القرآن الكريم وعدم حدوث أي تغيير أو تبديل أو تحريف فيه، وهي خطة إلهية محكمة لكي لا يكون هنالك أدنى ريب في القرآن الكريم.
وإلى هذه الخطة المحكمة كانت الإشارة في قوله تعالى:
“وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ” (العنكبوت 49)
وبفضل الله تعالى، وقف أعداء الإسلام عاجزين أمام قوة ثبوت نص القرآن الكريم وعدم إمكانية تحريفه مهما بذلوا من جهود وخارت قواهم وأقروا مرغمين بهذه الحقيقة.
ولكن بالتمعن أيضا في جزئيات هذا الأمر فإن هذا سيقدِّم دليلا قويا واضحا على صدق النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، لا على ثبوت نص القرآن فحسب. وللعاقل سعيد الفطرة أن يتأمل