كنا قد ذكرنا في مقالات سابقة العديد من خدمات المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام للغة العربية؛ والتي منها جمع قواعد وأساليب لم تعد مألوفة للقارئ العربي والمعاصر وإعادتها إلى الاستعمال إحياء للغة، والاقتباس والتناصُّ من التراث العربي القديم وتطعيم كتاباته وأشعاره به بعد الارتقاء به وبمعانيه لربط القديم بالحديث وتجديد اللغة مع المحافظة على أصالتها، وكذلك إعادة الاعتبار للغة العربية بتبيان مزاياها الفريدة والتأكيد على أنها أمُّ اللغات، وغير ذلك من الأمور. وبينَّا أن هذا كلَّه كان ثمرة التعليم الإعجازي لحضرته لأربعين ألفا من اللغات العربية في ليلة واحدة من الله تعالى؛ إذ أن كل ما ذكرنا إنما يندرج تحت “اللغات العربية” والتي تعني اللهجات والنحو والصرف والأساليب والبلاغة والبيان والشعر والنثر والتراث العربي وغير ذلك مما يتعلق باللغة. وهذا اقتضاه منصبه بصفته مجدد الدين الأخير ونائب النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته في البعثة الثانية للإسلام، فلا بد أن يجدد العربية ويعيدها إلى مصادرها ويعيد إليها اعتبارها لارتباطها الوثيق بالإسلام.
ومن الجوانب الإضافية لما سبق، والتي أبدع فيها حضرته أيضا، كان جانب المعاني العربية. فمعروف أن بعض المعاني في اللغات تضيع لأنها لا تعود قيد الاستعمال، وقد يمرُّ الزمان وتُنسى تماما، وليست العربية بدعا عن غيرها من اللغات في هذا الشأن، ومعلوم أيضا أن المعاني تحتاج إلى تجديد وتطوير لمواكبة ومواءمة العصر، فكان كان لا بد أن تخدم كتابات حضرته غرض المعاني، وهذا ما كان.
وبداية لا بد من التسليم أن المعاني المتوفرة لدينا حاليا والمحفوظة في المعاجم إنما هي جزء من المعاني العربية لا كلُّها، ولا يمكن للمعاجم أن تحيط بهذه المعاني لأسباب موضوعية عديدة. وقد انصرف عدد من العلماء واللغويين لجمع المعاني في العربية، وكان أضخم عمل وأشهره إنما هو عمل العلامة ابن منظور في معجمه “لسان العرب”، وقد جمعه من خمسة مصادر أخرى سابقة. ومع جهده المشكور وعمله الدءوب الذي جمع فيه ما يقارب ثمانين ألف مادة عربية إلا أنه بلا شك لم يستطع أن يحيط بمعاني العربية في معجمه، ولم يكن قادرا على ذلك ولم يدَّعِه، فقد اعترف بنفسه بأنه لم يفعل سوى الجمع من المصادر وتبرَّأ من أي إضافة أخرى. ومعلوم ومتفق عليه عند العلماء والمحققين أن زمنه لم يكن زمن إبداع لغوي (ت 711 هـ)، ولم يسمع هو بنفسه هذه المعاني من ألسنة العرب. وهذا شأن المعاجم الأخرى أيضا القديم منها والحديث. ولهذا، فلا بدَّ من الإدراك أن عددا لا بأس به من المعاني لا بد وأن تكون المعاجم قد أهملتها، مهما بذل العلماء من جهود، وخاصة فيما لم يعد مألوفا في زمن جمع المعاجم أو مصادرها السابقة، أو لم يعد قيد الاستعمال.
أما من الأسباب الأخرى الموضوعية لعدم إحاطة المعاجم بالمعاني العربية فإنما هو مرونة العربية الراجع إلى ميزتها العظيمة في كونها لغة اشتقاق إلا في قليل جدا من الجوامد. فمعرفة معاني الجذر تساعد كثيرا في فهم معاني المشتقات والتراكيب حتى ولو لم يسمع بها السامع من قبل. بل يمكن له أن يشتق بنفسه المفردات كاسم الفاعل واسم المفعول والمصدر واسم الزمان واسم المكان واسم الآلة وغير ذلك من مجرد معرفته للجذر. ولكن بمجرد أن يسمعه أحد فإنه يفهمه ويعرفه مدلوله. وقطعا هنالك مشتقات لم تعد مألوفة أو متداولة كثيرا لبعض الجذور أو هنالك مشتقات مستحدثة لم تحوها المعاجم القديمة وقد تحتويها المعاجم المتأخرة أو لا تحتويها كمثل “طائرة” أو “قطار” أو “إذاعة” أو “مطبعة”، ولكن بمجرد أن نسمعها وإن لم نسمع بها سابقا ندرك معناها ومدلوها، خاصة عندما نقرأها أو نسمعها في سياقها. فوجود هذه المعاني من عدمه في المعاجم لا يقدِّم ولا يؤخر في صحتها وعروبتها، فهل يمكن أن يعترض عاقل ويقول إن هذه المفردات ليست عربية أو ليست صحيحة بحجة أنها لم توجد في المعاجم القديمة؟
وعلى كل حال، فمع أن المعاجم لها دورها الهام في حفظ المعاني العربية إلا أن من حسن حظ العربية أن هذه المعاني لم تُحفظ بهذه الوسيلة فحسب. فمن وسائل هذا الحفظ وجوانبه فيما يخص المعاني هو أن بعض المعاني قد حُفظت في لغات ولهجات عربية قديمة أو حديثة، وبعضها أيضا حُفظ في اللغات الشرقية المتأثرة بالعربية كالأردية والفارسية مما كان معروفا وشائعا في الماضي وأصبح مهملا في الحاضر. وهذا في الواقع أحد أسرار وعد حفظ العربية التي هي لغة القرآن الذي وعد الله بحفظه فكان لا بد من حفظ اللغة أيضا. فمن العجيب والرائع احتواء كتابات حضرته مفردات ذات معانٍ قد لا توجد في القواميس ولكنها عربية أصيلة وتوجد في اللغات أو اللهجات العربية، بل وتوجد في كتب التراث أيضا في سوى المعاجم. كذلك فقد أعاد حضرته عددا من المفردات والمعاني العربية الأصيلة التي هاجرت إلى اللغات الشرقية ولم تكن المعاجم العربية قد حفظتها. وهكذا فقد ذكَّرنا حضرته عليه الصلاة والسلام في كتاباته بعديد من الكلمات والتعابير العربية الموجودة في الأردية والفارسية بمعاني لم تعد مألوفة أو تخلو منها القواميس، وبذلك فقد أعادها إلى أمِّها وخدم بذلك العربية خدمة جليلة. ومن الجدير بالانتباه إلى أن هذه التعابير بتلك المعاني قد دخلت في تلك اللغات جامدة غير مشتقة، وهذا بسبب أنها قد جاءت أصلا من العربية. ومن الطبيعي أنها دخلت بمعانيها العربية التي أصبحت مستخدمة حاليا في تلك اللغات، ولم يبتكر أهل تلك اللغات هذه المعاني، وإلا لاختاروا كلمات عربية أخرى تعبِّر عن المعاني التي يريدونها. فنسبة المعنى إلى تلك اللغة وإهمال أن المفردة والمعنى قد جاءا من العربية أصلا إليها، ومآلهما الطبيعي هو حضن العربية، إنما هو ظلم أو جهل.
ويجدر هنا القول أنه قد لا يلاحظ القارئ العربي هذه المفردات كثيرا وقد تمر عليه مستسيغا إياها فاهما معانيها المقصودة مستمتعا بها، وقد يستغرب فيما لو علم أنها قد لا توجد في المعاجم بهذا المعنى الذي فهمه بمجرد سماعه. ولكن عدم وجود هذه المعاني في المعاجم – مع أن كثيرا منها مستخدمة بمعانيها تلك في كتب التراث العربي أيضا وإن لم توجد في المعاجم – لا يقدِّم ولا يؤخِّر، بل الحقُّ أن وجود تلك المعاني في اللغات الشرقية واستخدامها من قبَل ملايين البشر يُعدُّ معجما حيَّا أكثر موثوقية مما هو مدوَّن في كتاب. ومن أمثلة هذه المفردات والمعاني لفظة “الخلوص” بمعنى الإخلاص والبراءة من أي شائبة، ولفظة “الإقبال” بمعنى الازدهار والانتصار والحظ السعيد، ولفظة “البخل” بمعنى لؤم الطبع. فهل يجد العربي في معانيهما أي غرابة؟
الخلاصة أنه قد تبين بأن حضرته عليه الصلاة والسلام قد خدم اللغة العربية في نطاق المعاني أيضا؛ إذ قد أعاد المعاني القديمة المهملة في القواميس إلى أمها وذلك بردِّها عليها من اللغات الشرقية المتأثرة بها ومن اللهجات واللغات العربية القديمة والحديثة، وهذا كله بتأثير الوحي الذي لازمه في كتاباته العربية الإعجازية فحقق هذا الغرض تلقائيا. وهذه الخدمة الجليلة أيضا التي سيره الله تعالى فيها تثبت التعليم الإعجازي لحضرته لأربعين ألفا من اللغات العربية في ليلة واحدة من لدنِّ حكيم عليم، هذه الآية المتجددة التي لا تنقضي عجائبها. والحمد لله رب العالمين