في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كانت اللغة العربية تبدو وكأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، وبدأت موجة بين المثقفين العرب تنادي بهجرة اللغة العربية وعدم السعي لتطويرها واستبقائها مدَّعين بأنها لا تصلح للعلوم الحديثة، وأنها صعبة التعلُّم والتعليم، وقد انتهى دورها، وأصبح واجبا استبدالها بصورة ما، سواء باستخدام اللهجات العربية وتقنينها أو باعتماد اللغات الأجنبية خاصة في العلم والتعليم.
كانت هذه الموجة في الواقع ليست إلا جانبا لموجة الإلحاد التي بدأت تسود العالم العربي والإسلامي، وبسبب ارتباط العربية بالإسلام فأصبح واجبا التخلص من العربية أو القضاء عليها أو قطع الصلة مع جذورها لخدمة هذه الموجة، لأن بقاء الإسلام مرتبط بالعربية وبقاء العربية مرتبط بالإسلام.
ولا شك أن عددا من الأدباء والشعراء العرب كانوا ضدَّ هذه الموجة، وكان منهم الشاعر الكبير حافظ إبراهيم الذي كتب قصيدة مؤثِّرة على لسان العربية قال فيها:
رَجَعْتُ لنفْسِي فاتَّهمتُ حَصاتِي ———— وناديْتُ قَوْمِي فاحْتَسَبْتُ حياتِي
رَمَوني بعُقمٍ في الشَّبابِ وليتَني ———— عَقِمتُ فلم أجزَعْ لقَولِ عِداتي
وَلَدتُ ولمَّا لم أجِدْ لعرائسي ———— رِجالاً وأَكفاءً وَأَدْتُ بناتِي
وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية ً ———— وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلة ٍ ———— وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
أنا البحر في أحشائه الدر كامن ———— فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
فيا وَيحَكُم أبلى وتَبلى مَحاسِني ———— ومنْكمْ وإنْ عَزَّ الدّواءُ أساتِي
فلا تَكِلُوني للزّمانِ فإنّني ———— أخافُ عليكم أن تَحينَ وَفاتي
أرى لرِجالِ الغَربِ عِزّاً ومَنعَة ً ———— وكم عَزَّ أقوامٌ بعِزِّ لُغاتِ
أتَوْا أهلَهُم بالمُعجِزاتِ تَفَنُّناً ———— فيا ليتَكُمْ تأتونَ بالكلِمَاتِ
أيُطرِبُكُم من جانِبِ الغَربِ ناعِبٌ ———— يُنادي بِوَأدي في رَبيعِ حَياتي
ولو تَزْجُرونَ الطَّيرَ يوماً عَلِمتُمُ ———— بما تحتَه مِنْ عَثْرَة ٍ وشَتاتِ
سقَى اللهُ في بَطْنِ الجزِيرة ِ أَعْظُماً ———— يَعِزُّ عليها أن تلينَ قَناتِي
حَفِظْنَ وِدادِي في البِلى وحَفِظْتُه ———— لهُنّ بقلبٍ دائمِ الحَسَراتِ
وفاخَرْتُ أَهلَ الغَرْبِ والشرقُ مُطْرِقٌ ———— حَياءً بتلكَ الأَعْظُمِ النَّخِراتِ
أرى كلَّ يومٍ بالجَرائِدِ مَزْلَقاً ———— مِنَ القبرِ يدنينِي بغيرِ أناة ِ
وأسمَعُ للكُتّابِ في مِصرَ ضَجّة ً ———— فأعلَمُ أنّ الصَّائحِين نُعاتي
أَيهجُرنِي قومِي-عفا الله عنهمُ ———— إلى لغة ٍ لمْ تتّصلِ برواة ِ
سَرَتْ لُوثَة ُ الافْرَنجِ فيها كمَا سَرَى ———— لُعابُ الأفاعي في مَسيلِ فُراتِ
فجاءَتْ كثَوْبٍ ضَمَّ سبعين رُقْعة ً ———— مشكَّلة َ الأَلوانِ مُختلفاتِ
إلى مَعشَرِ الكُتّابِ والجَمعُ حافِلٌ ———— بَسَطْتُ رجائِي بَعدَ بَسْطِ شَكاتِي
فإمّا حَياة ٌ تبعثُ المَيْتَ في البِلى ———— وتُنبِتُ في تلك الرُّمُوسِ رُفاتي
وإمّا مَماتٌ لا قيامَة َ بَعدَهُ ———— مماتٌ لَعَمْرِي لمْ يُقَسْ بمماتِ
ولكن المعركة كانت حامية الوطيس، وللأسف، قد حُسمت نسبيا لمصلحة أعداء اللغة والتراث من الملحدين أو الذين يضمرون الإلحاد، وأصبحوا ممجَّدين الآن، مع أنهم كانوا عناصر تخريب سيكتشف الناس يوما ما فعلوه وينبذونهم.
من هؤلاء كان المدعو طه حسين، الذي لا يضرُّه أنه كان ضريرا، بل ما يضرُّه أنه كان ملحدا أعمى بصيرة، وقد تجرَّأ إلى درجة أن أصدر كتابا بعنوان “في الشعر الجاهلي” شكك فيه في الإسلام والأنبياء وتاريخ العربية وعدَّ أن النبوة كذبة كبيرة وأن الشعر الجاهلي لم يكن سوى أكذوبة اخترعت لاحقا من المسلمين في العصر الأموي وما بعده، وقدَّم بعض القرائن التي تدل على انحراف نفسي فادح أقرب إلى الجنون نتيجة استيلاء سوء الظن عليه. وقد ثارت ضجة في ذلك الحين، وتعرَّض للمحاكمة، ثم اضطر لتعديل الكتاب وأصبح بعنوان “في الأدب الجاهلي”، ولكن تياره الإلحادي المشكك في الإسلام والداعي إلى نبذ التراث العربي باعتباره ليس إلا مجرد أكاذيب، ثم أسلوبه في الكتابة الخالي من الجمال والقوة والجزالة والمنقطع عن تراث العربية قد ساد، وأصبح يسمى ظلما وعدوانا من تياره بـ “عميد الأدب العربي”! بصفته مبتدع الكتابة العربية المعاصرة الخالية من القوة والجزالة والمحسِّنات اللفظية والبديعية التي أصبحت بنظره ونظر تابعيه أمورا تافهة ممجوجة مملة. ثم أدى هذا التيار إلى التباعد عن العربية شيئا فشيئا إلى أن وصل الحال إلى ما هو عليه الآن، بحيث أصبح من النادر أن تجد عربيا يتكلم أو يكتب بعربية صحيحة سليمة قويمة، بحيث تشعر عندما تقرأ له أو تسمع بأنه استمرار للتراث والأدب العربي وتشمَّ في أدبه نسائم الأصالة والعراقة.
وفي ظل هذه الظروف، وفي حلكة هذا الزمان، شاء الله تعالى أن يحيي الإسلام ويحيي العربية معه، فأرسل المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام لينفخ روحا في الإسلام ويعيده إلى مجده وقوته، وتعلو حجته الدامغة وتظهر على الإلحاد والأديان والفلسفات كلِّها، وسلَّحه بعربية إعجازية رائعة بديعة أعادت ربط الأدب العربي بالتراث، فكتب شعرا ونثرا حاكى فيه بدائع الأدب العربي، وقدَّمه في خدمة الرسالة الإسلامية بعد أن جرَّده من اللغو والدعوة إلى اتّباع الهوى والتحريض على العنف والفاحشة والاستغراق في الدنيا وملذاتها الأمر الذي كان موضوع أكثر أدب التراث. وبذلك فقد قام بحركة تجديدية إحيائية في العربية تلقائيا.
وبما أن نصوصه العربية مرتبطة بدعوته، فأصبح لازما على من يؤمن به وينضم إلى جماعته أن يرقِّي لغته ويتعلم من علومه، وبذلك فقد أحدث نهضة في أتباعه بحيث أخذوا يتقدمون ويتطورون في العربية، وأثَّر أيضا في معارضيه الذين اضطروا إلى مراجعة نصوصه ومحاولة نقدها مما يوجِّه الأنظار إليها. والنتيجة النهائية هي أن العربية وتراثها قد أصبحت من جديد في قلب الحدث، وازداد الاهتمام بها سواء ممن آمن به واتبعه أو ممن يعارضه. وهذه هي سنة الله تعالى، الذي له جنود السماوات والأرض، بحيث يستخدم خلْقه مهما كانت نياتهم وتوجهاتهم لخدمة مشيئته ويسيرهم عليها طوعا أو كرها.
وبفضل الله تعالى، فإننا نرى في الجماعة الإسلامية الأحمدية أن العرب قد طوروا لغتهم كثيرا وتفجرت فيهم ينابيع الشعر والأدب، وكذلك قد تطور العجم وعادوا مرة أخرى للاهتمام بالعربية والحرص على تعلُّمها والرغبة العارمة في أن يصبحوا متبحرين بها متمكنين منها، بعد أن كانت موجة الإلحاد أيضا قد دفعتهم للاستهانة بها والإعراض عنها.
وستمضي الأيام وسيتلمَّس الناس هذه النهضة الجديدة للغة العربية ويدركونها ويقرِّون بها، وستزداد نسبة المتقنين للعربية سواء من الأحمديين أو المعارضين، وسنشهد مزيدا من النصوص والأشعار والآداب العربية الرائعة الجميلة التي تحاكي التراث وتماثله في قوته وجزالته. أما لو بقي الحال على ما هو عليه فربما لم يكن ليأتي قرن آخر إلا ولم يبق من العربية إلا القشور، ولأصبحت اللهجات العربية لغات، ولضاعت العربية إلى الأبد.
وأقول أخيرا لحافظ إبراهيم وللشرفاء من أدباء العرب وشعرائهم ممن كان يحزنهم حال العربية في زمنهم، قرُّوا عينا وارقدوا بسلام، فالعربية بخير، وستعود لتكون لغة العالم الأولى في يوم من الأيام مجددا.
فالحمد لله رب العالمين على فضله ومننه.
استاذ تميم ابو دقة
الله يعزك ويبارك لك