معرفة اللغة، بل والاطلاع الواسع عليها، لا يكفي وحده لكي يصبح الشخص أديبا أو شاعرا أو كاتبا فذا، بل يحتاج الإنسان إلى تمرُّس في اللغة ومعايشة لأهلها، ودراسة معمقة ومطوَّلة لآدابهم المكتوبة والمسموعة. ولذلك فإنه من الضروري لمن يريد أن يمتلك ناصية اللغة ويكون من أدبائها وكتابها أن يعيش في بلاد أهل اللغة لسنوات طويلة.
وهذا يذكِّرني بقصة لأحد كبار علماء اللغة الفارسية في الهند، الذي تعلَّمها في الهند ولم يكن قد زار بلاد فارس من قبل، فعندما قرر الزيارة للتجول في تلك البلاد، كان في ضيافة إحدى العائلات، وصادف أن كان جالسا وبقربه قدر يغلي، ولم يكن أحد من أهل البيت قريبا منه، وأخذ ما في القدر يفور وينسكب ويحرِّك الغطاء، فأراد أن ينادي أهل البيت لتنبيههم، فوجد نفسه كالأبكم؛ إذ لم يعرف ماذا ينبغي أن يقول، وإذا بفتاة صغيرة تأتي وترى المشهد، ثم تنادي أمَّها بكلمات بسيطة أعجزت هذا العالم الكبير!
فاللغة ليست مفردات ولا قواعد ونحو وصرف فقط، بل هي أساليب وتراكيب ولهجات وتراث مكتوب ومسموع يشمل الأمثال والنكات وغيرها. وفي العربية تسمى هذه الجزئيات لغات، وهذا ما ورد بوضوح وكثرة في كتب التراث.
ونظرا إلى ما سبق، فقد كان المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام على اطلاع جيد جدا على اللغة العربية، وهذا مكَّنه من تدبُّر القرآن الكريم والحديث الشريف وكتب التراث الإسلامي بصورة معمَّقة، وهذا ما ظهر في دفاعه عن الإسلام الذي ابتدأه منذ عام 1872 في الردود على المسيحيين والهندوس وغيرهم، قبل مشروع البراهين الأحمدية. ثم تجلَّى ذلك في كتاب البراهين الأحمدية الذي بدأ مشروعه عام 1880 والذي قدَّم فيه الأدلة على صدق الإسلام وردَّ فيه على شبهات المسيحيين والهندوس والملحدين وغيرهم. بيد أن هذا الاطلاع لم يكن كافيا لكي يتمكن حضرته من كتابة الكتب العربية ونظم الأشعار، لأن هذا كان يتطلَّب معايشة واطلاعا واسعا على اللغات العربية.
كان المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام قد عُيِّن من الله تعالى في عام 1882مأمورا بكل وضوح، وكان يبدو أن مأموريته هي الدفاع عن الإسلام وتجديده، وكان مشروع البراهين الذي أُمر به من الله تعالى هو البداية الفعلية لهذه المأمورية التي كانت قد بدأت جزئيا من قبل. وفي عام 1889 أُمر من الله تعالى بتأسيس الجماعة، ثم أُخبر من الله تعالى في نهاية عام 1890 بأنه هو المسيح الموعود الذي تحدثت عنه الأنباء في القرآن الكريم والحديث الشريف حصرا، وأن عيسى عليه السلام قد توفي ولن يعود بنفسه. وقدَّم هذه الأدلة ابتداء من عام 1891 في كتابه “فتح الإسلام، توضيح المرام، إزالة الأوهام”، وبعد هذه الدعوى أصبح من المُلحِّ أن يبلِّغ الرسالة باللغة العربية، وهذا ما طالبه به الخصوم ثم ما رغَّبه فيه أصحابه أيضا. ولكن حضرته رأى أنه ليس بمقدوره أن يكتب الكتب بالعربية لأنه ليس متمكنا ذلك التمكُّن الذي يجعله قادرا على كتابة كُتب يضاهي فيها الكتاب والأدباء والشعراء العرب، بل ويتحداهم، وتكون هذه المقدرة أيضا آية من الله تعالى. فعندما وجد أن هنالك ضرورة وحاجة إلى ذلك، تضرَّع إلى الله تعالى، فكانت المعجزة العظيمة؛ إذ علَّمه في ليلة واحدة وهي ليلة 12/1/ 1893 الكثير جدا من اللغات العربية، وأُخبر من الله تعالى أن هذا التعليم كان أربعين ألفا من هذه اللغات. وهذه الأربعين تشمل كل ما يتعلق باللغة من جذور وأساليب وتراكيب وتراث أدبي متنوع من شعر وأمثال ونكات وغيرها، ثم بدأ بعد ذلك بكتابة سلسلة الكتب العربية التي بلغت زهاء اثنين وعشرين كتابا، وكانت في معظمها تحدِّيات ما زالت قائمة حتى اليوم، وما زال الخصوم عاجزين عن الإتيان بمثلها، واقتصر كلامهم منذ ذلك الوقت على مجرد انتقادات سخيفة، وعجزوا هم بأنفسهم أن يستجيبوا للتحدي ويأتوا بمثلها، فلم يفعلوا ولن يفعلوا.
أما كيف حدثت هذه المعجزة؟ فتفصيل ذلك ما يلي:
جاءت ذكر هذه الحادثة في كتاب “مكتوب أحمد”، إذ قال حضرته:
“إن كمالي في اللسان العربي، مع قلة جهدي وقصور طلبي، آية واضحة من ربي، ليُظهر على الناس علمي وأدبي. فهل من معارض في جموع المخالفين؟ وإني مع ذلك عُلّمت أربعين ألفا من اللغات العربية، وأُعطيتُ بسطة كاملة في العلوم الأدبية، مع اعتلالي في أكثر الأوقات، وقلّة الفترات، وهذا فضل ربّي أنه جعلني أبرع من بني الفُرات، وجعلني أعذب بيانا من الماء الفرات. وكما جعلني من الهادين المهديين، جعلني أفصح المتكلمين. فكم من مُلَحٍ أُعطِيتُها، وكم من عذراء عُلّمتُها، فمن كان من لسن العلماء، وحوى حسن البيان كالأدباء، فإني أستعرضه لو كان من المعارضين المنكرين.
وقد فُقت في النظم والنثر، وأُعطيت فيها نورًا كضوء الفجر، وما هذا فعل العبد، إنْ هذا إلاّ آية رب العالمين. فمن أبى بعد ذلك وانزوى، وما بارزني وما انبرى، فقد شهد على صدقي ولو كتم الشهادة وأخفى.” (مكتوب أحمد)
قد أشار حضرته إلى أن هذا التعليم قد حدث في ليله واحدة، وهي الليلة التي سبقت بدءه بكتابة كتاب التبليغ الذي كان المظهر الأول لهذا التعليم، فقد جاء في مقدمة كتاب التبليغ نفسه ذكرها، إذ قال حضرته:
“وكنتُ أنوي أن أكتب هذه الرسالة بالأردية ولكن علمتُ الليلة من بعض الإشارات الإلهامية أنه يجب أن أكتبها بالعربية“
وحول قصة هذه المعجزة، ورد في جريدة الحكم مما كتبه المولوي عبد الكريم السيالكوتي رضي الله عنه ما تعريبه:
“كنت أنا الدافع وراء تأليف الكتب باللغة العربية، ولقد ألقى الله تعالى في روعي قبل غيري الحماس بأن تُقدَّم هذه النعمة السماوية للعرب في قوالب عربية، وبناء على ذلك ألف حضرته أولا كتاب “التبليغ” الذي ضُمّ إلى كتاب مرآة كمالات الإسلام. وإن قلبي هو الأدرى بحالة التردد والحيرة التي طرأت على حضرته إثر التماسي هذا، لقد قال بكل براءة ونقاوة ودونما تصنع: رأيك صائب تمامًا، ولكنه عمل حساس وهو خارج عن قدرتي واستطاعتي. ثم فكّر مليًا فقال: حسنًا، سأجهز المسودة بالأردية أولا وبعد ذلك سنترجمه إلى العربية أنا وأنت والمولوي المحترم (أي المولوي نور الدين) متعاونين. كان الالتماس قد تمّ، فلما كانت الليلة تلقى حضرته من الله القادر الحكيم عز اسمه وحيًا بهذا الخصوص أن يكتب بالعربية، وطمأنه الله تعالى فورًا بأنه قد أُعطي القدرة على قدر كبير من اللغة العربية وستُجري روح القدس على لسانه وقلمه اللغات العربية عند الكتابة. وهذا ما حصل بالفعل، فأول ما ألف حضرته هو كتاب التبليغ الذي كنت معه طيلة فترة تأليفه وتشرفت بترجمته إلى الفارسية. وقد كتب لغة عربية فصيحة وبليغة بحيث كتب أحد الأدباء العرب بعد قراءته إلى المسيح الموعود عليه السلام: تمنيت بعد قراءة التبليغ أن آتي إلى قاديان ماشيًا على رأسي فرحًا ونشوة.
وكان المولوي محمد حسين البطالوي وأمثاله قد أقاموا من قبل ضجة أن حضرته (أي المسيح الموعود عليه السلام) لا يعرف صيغة واحدة من العربية وليس عنده أي إلمام بالصرف والنحو وغيرهما من العلوم العربية. وقبل إصداره فتوى التكفير بقليل قال في ثورة غضبه خلال جداله مع الحكيم حسام الدين في مسجدنا في سيالكوت: إن المرزا مجرد محرر بسيط يكتب بالأردية وأنّى له أن يعرف العربية، فلماذا تبالغون في مدحه وثنائه، وسأذهب حالا وأدبّر للقضاء على أمره في لمح البصر. وكانت نتيجة هذا التهديد والغضب أن أصدر لاحقًا فتوى التكفير تلك التي خرجت من قلمه بعد أيام قليلة.” (الحكم 3/3/1901م، ثم في كتيب واقعات صحيحة، مؤلفه ومرتبه: مفتي محمد صادق العثماني الأحمدي طبع في شهر تشرين الثاني 1901 ص 112-113)
وفي نهاية المقالة التي نُشرت في الحكم كُتب ما يلي:
“شرفٌ بالقبول: لقد أُعجب حضرة حجة الإسلام بشكل خاص بالرسالة السادسة مع التكملة للمولوي عبد الكريم السيالكوتي، وأمر حضرته بنشرها في صورة كتيب منفصل علاوة على جريدة “الحكم”. وسوف تطبع هذه الرسالة بصورة كتيب منفصل أيضا . الحمد لله على ذلك. المدير“
كذلك ورد ذكر هذه المعجزة في رواية لصحابي اسمه غلام نبي سيتهي رضي الله عنه، والتي أوردها حضرة مرزا بشير أحمد رضي الله عنه، فقد جاء فيها:
قال لي مِيان غلام نبي السيتهي صاحب: “مرة كنت في قاديان وكان المسيح الموعود عليه السلام يقوم بتأليف “مرآة كمالات الإسلام”، فاستشار الجماعةَ في كيفية تبليغ العلماء والمتصوفين من أصحاب الزوايا، فبدأ تبادُل الآراء بهذا الشأن، فقال المسيح الموعود عليه السلام: يجب كتابة كتاب بالعربية من أجلهم، ولكن المشكلة أني لا أجيدها. غير أني سأكتب بالأردية ونترجمه معا. ثم دخل حضرته بيته، ولما عاد جاء بشيء مما كتبه بالعربية، فلما رآه المولوي نور الدين والمولوي عبد الكريم ذُهلا لدرجة أن المولوي عبد الكريم قال إنني قرأت الكثير من العربية، ولكني لم أرَ مثل هذه العربية الرائعة. فقال المسيح الموعود عليه السلام: لقد كنت دعوت الله بهذا الصدد، فعُلِّمتُ منه 40 ألف مادة من العربية“. (سيرة المهدي، الرواية رقم 346، ج1، ص315)
كذلك جاء ذكر هذه المعجزة في رواية لصحابي آخر وهو الحافظ صوفي غلام محمد رضي الله عنه، إذ جاء فيها:
“قال حضرته إن الله علمني أربعين ألفا من مواد اللغة العربية في ليلة واحدة.” (سجل روايات الصحابة، المجلد السابع، رواية رقم 89)
وهكذا، فقد كانت هذه المعجزة ولا زالت من أكثر معجزات حضرته تأثيرا إلى قيام الساعة، وكان قد سبق النبأ عنها في الحديث الشريف أيضا من ضمن معاني “يصلحه الله في ليلة“، وهي في الواقع ظلٌّ لمعجزة القرآن الكريم الذي لا تنقضي عجائبه، والذي لا زال يدمغ رؤوس المنكرين الكاذبين ويبكتهم.