كما هم الأنبياء دوما، فهم يكونون سابقين لعصورهم، ويلفت الله انتباههم ليس إلى الأمراض التي تفتك بأممهم فحسب، بل إلى ما سينشأ في المستقبل، والذي لم يكن خاطرا ببال.
وهكذا كان المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، إذ قد التفت إلى أهم الأمراض الروحانية والذنوب والآثام التي كانت تفتك بالمسلمين، والتفت أيضا إلى الأفكار التي كانت تمكنت من المسلمين وكان منظورا أن تفتك بهم في المستقبل كفكرة الجهاد العدواني التي لم تكن آثارها قد ظهرت في عصره، والآن، وبعد وفاته بأكثر من مئة عام، بدأ يظهر للعيان مدى خطورتها وتأثيرها على المسلمين وما أدت إليه من سفك الدماء وتضييع لجهود المسلمين ومقدَّراتهم. ولذلك لم يجد كثير من المفكرين المسلمين والمشايخ بُدًّا من تبني فكرة حضرته مضطرين، بعد أن رأوا آثار الفكرة المغلوطة عمليا. وهذا وحده يجب أن يكون دليلا دامغا على صدقه لو كانوا يعقلون أو يتفكرون.
ولم يكن حضرته سابقا لعصره على هذا الصعيد فقط، بل كان أيضا مطلعا على أدق تفاصيل العلوم والاكتشافات العلمية في ذلك العصر الذي كان من الصعب على المثقف المثابر أن يحصل فيه على هذه المعلومات الواسعة والدقيقة، وهذا يدل على أن حضرته كان مثقفا من طراز فريد لن تجد له نظيرا في ذلك العصر.
في أثناء عملية مراجعة كتب حضرته كنت قد عثرت على بعض هذه النقاط التي تحدث عنها، وذُهلت، بعد البحث، من أن ما قاله حضرته في ذلك الوقت، وكان لا يعدو كونه نظريات تحتاج إلى إثبات، إذا بها الآن تثبت وتصبح حقائق علمية نتيجة للاكتشافات الحديثة. وكنت قلت بأنني أفكر في يوم من الأيام أن أجمع هذه النقاط في كتاب أو كتيب، وأسأل الله تعالى أن يعينني على ذلك إذا شاء.
إن قراءة كتب حضرته عليه الصلاة والسلام هي جنة في هذه الحياة الدنيا، يجد من يطالعها بحسن النية نفسه محلقا في الروحانية والعلم، ويجد أن حب الله وحب رسوله وحب الإسلام ينغرس في قلبه ويؤثر في كل جوارحه.
إن الذي يتحلى بشيء من نبل الأخلاق سينجذب تلقائيا إلى هذا الصادق الأمين المصدوق الذي هو ظل لسيده ومطاعه النبي صلى الله عليه وسلم. أما ذرية أبي جهل وأبي لهب وعبد الله بن أبي بن سلول ومسيلمة الكذاب المرتد، فهم كما لم ينتفعوا من معاصرة النبي صلى الله عليه وسلم، فلن ينتفع هؤلاء من البعثة الثانية للنبي صلى الله عليه وسلم في شخص خادمه ومحبه الصادق.