من أهم الإنجازات الفكرية للمصلح الموعود رضي الله عنه كان تبرئة الصحابة من أحداث الفتنة بصورة رائعة في زمن سيدنا عثمان رضي الله عنه الذي تبعه زمن علي رضي الله عنه وعدم اشتراكهم فيها، بل بيَّن بأن طاعتهم المطلقة لسيدنا عثمان وإعطاءهم إياه ما كانوا يعطون النبي صلى الله عليه وسلم من الطاعة والامتثال كان آية عظيمة، ثم إنهم كلما أتيح لهم قدموا التضحيات الجسيمة في سبيل الخلافة والحفاظ على الإسلام. وهذا الدفاع الرائع متضمن في كتابه “بداية الخلافات في الإسلام”، والذي لم يكن مجرد دفاع عاطفي بل كان مزودا بالحجج القوية القاطعة تكشف النقاب عن الأحداث الحقيقية وخلفياتها.
وبين حضرته بأن الفتنة قد نشأت من فئة من غالبية الداخلين الجدد في الإسلام الذين لم يتربوا على يد النبي صلى الله عليه وسلم ولا على يد الصحابة بل كانوا يحسدون الصحابة ولا يقدِّرون مكانة الخلافة حق قدرها، لذلك رفع الله تعالى الخلافة بما أن هذه الأغلبية لا تدرك قيمة تلك الخلافة التي كانت نظاما دينيا ونظاما حاكما، فرفعها الله تعالى وفقا للنبأ وأبدلها بنظام ملوكي صالح أيضا – وإن كان لهؤلاء الملوك بعض الأخطاء- وكانت دوحة الإسلام الوارفة ما زالت في أوجها، وشهدت القرون الأولى الثلاثة ابتداء من القرن الأول هذا الازدهار العظيم للإسلام، وقدَّم المسلمون نماذج رائعة في كل مجالات الحياة ومنها نظم الحكم العادل الرشيد.
ومما قاله حضرته رضي الله عنه في الكتاب للتأكيد على أن الصحابة لم يفسدوا في ذلك الوقت وأن اتهامهم بذلك هو اتهام للإسلام:
“اعلموا جيدا أنه من الخطأ تماما القولُ إن بعض الصحابة الكبار كانوا هم السبب وراء الفتن في الإسلام. وإذا ألقينا نظرة شاملةً على أحوالهم لما أمكننا أن نتصور على الإطلاق أنهم حاولوا تدمير الإسلام من أجل أهدافهم أو منافعهم الشخصية. ولقد أخطأ الذين حاولوا البحث عن أسباب ظهور الشقاق والفُرقة بين الصحابة خطأ كبيرا. والحق أن أسباب الفتنة أطلت برأسها من مكان آخر، ولا يُرجى الوصول إلى نتيجة سليمة إلا إذا حاولنا البحث عنها في ذلك المكان فقط. لو اعتبرنا الروايات الخاطئة التي رُوِّجت عن ذلك العصر صحيحةً لما بقي صحابي واحد لم يشترك في تلك الفتنة، ولن نجد واحدا منهم تمسك بأهداب التقوى والأمانة؛ وهذا هجوم سافر خسيس على صدق الإسلام يستأصل شأفته. يقول المسيح الناصري – عليه السلام – إن الشجرة تُعرف بأثمارها. ولو اعتمدنا على تلك الروايات لوجِدتْ ثمراتُ الإسلام مُرّة ما تكبد أحد عناء الحصول عليها ولو مجانا دونك بذل أي شيء لاقتنائها.
ولكن هل لأحد اطَّلَعَ – ولو قليلا – على قوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – القدسية أن يقبل ذلك؟ كلا! ثم كلا! من غير المعقول تماما التصورُ أن الذين تربوا في صحبة النبي – صلى الله عليه وسلم – وكانوا أصحابه الأجِّلاء وأخلص المخلصين له وكانوا جاهزين دائما للتضحية بنفوسهم من أجله – صلى الله عليه وسلم -، وكانوا من أقربهم إليه – فسدوا كلهم وجميع الصحابة الآخرين أيضا دون استثناء في غضون بضعة أعوام حتى وقعوا – من أجل أهدافهم الشخصية وليس من أجل الدين- في خلافات هزت جذور الإسلام.” (بداية الخلافات في الإسلام)
وأدعو الجميع إلى قراءة هذا الكتاب العظيم الذي يجدونه على الموقع، والذي يطهر الصحابة جميعا ويبرئهم من أحداث الفتنة، ويبين أن ما نُسب إليهم في تلك الفترة كان محض افتراء من خصوم الإسلام وأعدائه ودسِّهم.
والعجيب أن المعترض المرتد عن جماعتنا الذي احترف الكذب والتدليس والتحريف جاء بنصوص تدين هذه الغالبية من الداخلين الجدد التي لم تقدِّر الصحابة حق قدرهم ليقول إن المصلح الموعود الخليفة الثاني رضي الله عنه يتهم الصحابة بأنهم قد فسدوا، مع أن هذه النصوص تتحدث عن الغالبية التي كان الصحابة ضحيتها. ومما لا شك فيه أنه كان هنالك تابعون تربوا على يد الصحابة وكانوا على درجة عالية من التقوى والتحقوا بالصحابة بإحسان، ولكن هؤلاء أيضا كانوا فئة قليلة.
وباختصار، فإن رفع الخلافة بعد زمن علي رضي الله عنه لم يكن غضبا إلهيا على الأمة، ولم يكن إدانة للصحابة أو التابعين قط، بل كان ضروريا ليتلاءم مع طبيعة المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت الذي لم يكن غالبيته من أولئك الداخلين الجدد يدركون حقيقة الخلافة وأهمية طاعتها سياسيا ومكانة الصحابة وما يحظون به من احترام وإعزاز دنيوي أيضا. فكان النظام الملوكي هو الأنسب بمشيئة الله تعالى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أنبأ به أصلا من قبل.
ولا شك أنَّ رفع الخلافة هو نوع من الانحطاط النسبي الذي لحق بالأمة عموما، ولكن هذا الانحطاط ليس انحطاطا حقيقا أو كبيرا في حقيقته، وهو أشبه مثلا بأن ينزل أحد من رتبة عالية جدا إلى رتبة أدنى قليلا ويبقى في نفس الوقت من ذوي الرتب العظمى التي لا يدانيه فيها أحد. ووفقا لذلك يجب فهم النصوص الأخرى التي جاء بها ذلك المعترض المرتد، والتي تخلو تماما من إدانة الصحابة أو التابعين بل الغالبية من الأمة آنذاك، ولكن ماذا نقول لمن أصبح الكذب والافتراء والتحريف والتزوير حرفته وطعامه اليومي؟
لقراءة كتاب بداية الخلافات في الإسلام نرجو النقر هنا