في كتابه “ضرورة الإمام” فسَّر الإمامُ المهدي ؏ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء 60) أن المقصود بولي الأمر من ناحية الدين هو الإمام، ومن ناحية الدنيا هو الحاكم، وأن الأمر الأساس المقصود في:{وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} هو أمر الدين، وأن الحاكم الذي لا يتدخل في الدين ويتيح لنا أن نمارس ديننا بحرية هو مساهم في أمر ديننا بصورة من الصور. فكيف بمن يدافع عن حريتنا الدينية ويكفلها لنا؟ هذا الحاكم سيكون مساهما بصورة أعظم في النظام الديني، وتعتبر مساهمته معروفا يوجب شكره والثناء عليه.
ولا عجب في اعتبار النظام السياسي وفقا لهذه الرؤية جزءًامن أمر الدين؛ وهذا لأن نظرة الإسلام إلى الدنيا إجمالا هي أنها بكل ما فيها ينبغي أن تكون خادمة للدين، وبهذه النظرة ينبغي أن يسلك المؤمن في شئون حياته. فكل ما يساعده في أمور حياته ومعاشه على القيام بواجباته الدينية يعتبر من الدين بالنسبة له.
وهكذا فإن هذه الرؤية تحصر المطلوب من النظام السياسي بتوفير الحرية الدينية وكفالة العدل والحريات والدفاع عنها. وبهذا يعُتبر النظام السياسي – أيًا كان ومهما كانت صورته وتركيبته وأهدافه – جزءًامن النظام الديني، مما يوجب له الولاء والطاعة والوفاء والإخلاص باعتباره جزءًامنه وليس مجرد طرف خارجي مُتفاهَمٍ معه.
هذه الرؤية التكاملية الرائعة بين النظامين الديني والسياسي لا تقدم النظام السياسي على النظام الديني ولا تجعله تابعا له، بل تكفل له تفوقه وأولويته وتجعل النظام السياسي محتوىً في النظام الديني كما ينبغي له أن يكون.
كذلك فإن من ميزات هذه الرؤية أنها تؤكد أن النظام الديني لا يحتاج إلى معونة من قبل النظام السياسي لكي يحقق أهدافه. فكل ما هو مطلوب من النظام السياسي هو توفير الحرية والعدل. وفي هذا المناخ سينمو النظام الديني ويزدهر ويحقق أهدافه كاملة غير منقوصة دون أي مساعدة من جانب النظام السياسي.
ثم إن هذه الرؤية تبين أن العلاقة بين النظام الديني والنظام السياسي هي علاقة تعاون لا علاقة تنافس أو تناقض. كما تبيِّن أن النظام الديني يتحلّى بحركية ومرونة تجعله قادرا على التعامل مع أي نظام سياسي، بل واعتباره جزءًامساهما فيه بشرط تحقيقه الحرية والعدل. وهذا يتيح مناخا سلسا للحركات السياسية الساعية للحكم لكي تتنافس في تقديم الحريات والعدل والرفاه لمواطنيها، ويجعلها متساوية بداية أمام النظام الديني الذي سيقدم دعمه لمن يتمسك بمبادئ الحريات والعدل.
وهذه الرؤية الإسلامية العظيمة ليست أمرا مستحدثا، بل هي الرؤية التي أعلنها الإسلام من اليوم الأول. فلم يكن النبي ﷺ ساعيا لعرش ولا لحكم، بل كان ساعيا لنشر الدين وتحقيق أهدافه، وهو متوكل على الله تعالى رب العرش العظيم، كما يقول تعالى:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } (التوبة 129). ولكن كثيرا من المسلمين قد استقرأوا السيرة بشكل خاطئ ووصلوا إلى نتائج مغلوطة تنسجم مع أفكارهم وطموحاتهم.
والحق أن السيرة تنسجم انسجاما تاما مع هذه الرؤية. فالنبي ﷺ لم يكن ساعيا للحكم كما قلنا، بل كل ما كان يريده هو الحرية لأجل نشوء جماعة المسلمين وتحقيق غاياتها السامية. ولكن الظروف التي سادت في ذلك الوقت فرضت الدمج بين النظام الديني والنظام السياسي إلى حين؛ حيث جمع النبي ﷺ الحكم والنبوة في المدينة ومن بعده الخلفاء الراشدون. وكان أهم العوامل لحصول هذا الدمج هو الاضطهاد العظيم والقسوة البالغة التي تعرض لها المسلمون. فكأن أعداء الإسلام هم من ساهموا في نشوء الدولة الإسلامية بصورة غير مباشرة.
ولكن هذا الجمع بين النظامين لم يدمج المنصبيْن ويجعل من المتعذر التفريق بين مسئولياتهما وواجباتهما، وإن وقع في هذا الفهم الخاطئ كثيرون. فمثلا عندما استقر النبي ﷺفي المدينة أعلن أن المدينة وكل من يسكنها من المسلمين واليهود وغيرهم هم: “أمة واحدة من دون الناس”؛ وهذا إعلان سياسي أعلنه ﷺ بصفته الحاكم للمدينة لا بصفته النبي. فلا شك أنه لم يقصد أنهم قد دخلوا جميعا في أمة الإسلام؛ أي في جماعة المسلمين! كذلك عندما قاتل أبو بكر t المرتدين فقد قاتلهم بصفته الحاكم السياسي لا الخليفة الإمام لجماعة المسلمين. لأنه لا يجوز أن يكره الناس على الزكاة التي هي واجب ديني. فعدم دفع الزكاة نُظر إليه كإعلان للعصيان والتمرد من جانب من ادعوا الإسلام وأبطنوا الكفر، أو من جانب المسلمين العصاة.
وعندما استقرت الأوضاع في جزيرة العرب كان واجبا على المسلمين أن يدافعوا عن أنفسهم مقابل الدول العظمى في ذلك الوقت التي أعلنت عداءها للإسلام وعزمها على تدمير المسلمين. وهذا قد ساهم في تعاظم قوة الدولة الإسلامية لكي تقف في وجههم ثم لتقضي على خطرهم في النهاية.
والحقيقة أن النظام الديني، رغم مسالمته ورغبته في عدم الاصطدام مع أية قوة أو تيار دنيوي، يتميز بقدر كبير من القوة ومن القدرة على التكيُّف في مواجهة كل الأخطار والصعوبات. وهذا بفضل التأييد والنصرة الإلهية العظيمة التي تظهر عندما لا يحسب النظام السياسي لها حسابا ولا يرى لها بوادر في الأفق. لذلك فإن الاضطهاد وكبت الحريات وتفشي الظلم، أو محاولة النظام السياسي استهداف النظام السياسي أو القضاء عليه يؤدي إلى تمزيق ذلك النظام السياسي في النهاية ودفع النظام الديني إلى آفاق جديدة من الازدهار والرقي والتقدم. وهذه سنة كونية.
والدمج بين النظام الديني والنظام السياسي ليس الحالة المثالية دائما. بل قد يشكّل هذا الدمج في بعض الأحيان عبئا عظيما على النظام الديني، خاصة بعد أن يصبح غالبية الخاضعين للنظام السياسي من غير الملتزمين بقوة بالنظام الديني. وعندها سيجد النظام الديني نفسه راغبا في تحقيق فك الارتباط لكي يستمر في التركيز على أهدافه السامية. وهذا ما حدث بعد فترة الخلافة الراشدة الأولى.
فما إن استقرت الأمور إلى حدّ ما بلاد المسلمين، وتضاءلت الأخطار الخارجية، حتى شاء الله تعالى، نتيجة ظروف متعددة داخلية وخارجية، إلى فك الارتباط بين النظام الديني والنظام السياسي برفع الخلافة الراشدة. ففي زمن خلافة عثمان t تزايد عدد الداخلين الجدد في الإسلام الذين لم يتربوا تربية الصحابة، كما لم تُتح لهم الفرصة كي يتربوا على أيدي الصحابة. وكان هؤلاء عرضة للتأثر بالفتن الداخلية والخارجية التي أدت إلى مقتل الخليفة t نفسه وتعريض النظام الديني إلى ما يشبه الانتكاسة. وهذا لأن النظام الديني قد تعامل معهم بقدر كبير من العفو والرحمة التي لم يكونوا يستحقونها.
لم تكن تلك الفترة فترة انتكاسة للإسلام في الحقيقة، بل كانت مرحلة جديدة كان يجب أن تساير الظروف الجديدة، وكان النبي ﷺ قد تنبأ عنها مسبقا. ونشأت الدولة الأموية التي كانت سلطنة سياسية دنيوية يديرها مسلمون يقدّرون النظام الديني ولكنهم ليسوا القائمين عليه. وقد نجحت هذه الدولة في النهاية في القضاء على الفتن، وكفت النظام الديني شر الفتانين، وأتاحت للنظام الديني الفرصة للازدهار من جديد في جوّ يتيح له الحرية. صحيح أن النظام الديني قد فقد المركزية بغياب الخلافة الراشدة، ولكن الاستخلاف بقي في الأمة بصورة غير مركزية من خلال العلماء والصلحاء والأولياء والمجددين الذين نهضوا بالنظام الديني وقاموا عليه لفترة قاربت أكثر من ألف عام.
إن الناظر إلى تاريخ الإسلام يدرك بكل سهولة أن الإسلام حقق أهدافه رغم الانتكاسات السياسية والأخطاء الكثيرة التي أرتكبتها الدول والممالك الإسلامية المتعاقبة؛ مما يدل على أن النظام الديني بقي عاملا خلال تلك المدة بشكل جيدٍ جدًا. حتى جاء وقت تطرق الضعف فيه إلى النظام الديني، وكان هذا بسبب عوامل داخلية بشكل رئيس، وليس بسبب قوة النظام السياسي أو ضعفه.
وهكذا كان واجبا وطبيعيا أن يتم إصلاح النظام الديني داخليا ببعثة الإمام المهدي والمسيح الموعود ؏، ويخطئ من ظن أن إصلاح النظام الديني يكون من خلال إصلاح النظام السياسي. وأصبح جليا بعد سنوات من التجارب في مختلف البلاد الإسلامية أن الحركات السياسية الدينية قد فشلت فشلا ذريعا في الإصلاح الديني وفي الإصلاح السياسي الذي أمّلت به الأمة، بل كانت في كثير من الأحيان سببا في إضعاف الحالة الدينية والسياسية في دولها بسبب عبثها في الدين ومحاولة تسخيره ليخدم أغراضها في تحقيق رغبتها العارمة في الحصول على السلطة.
باختصار، ينبغي أن يحرص أي نظام سياسي على الحريات والعدل، وبهذا فإنه سيطيل عمره، وسيجد النظام الديني الحق متعاونا معه ومصدر دعم ومؤازرة كبيرة له. كما ينبغي على المهتمين بالدين أن يبحثوا عن النظام الديني الحق ويلتحقوا به وألا ينخدعوا بشعارات الحركات السياسية التي تلبس لباسا دينيا. أقلّ ما يمكن أن يقال عن هذه الحركات أنها تسير على غير هدى؛ وهذا لأنها لا تفهم الدين ولا تعرف ما هي أهدافه وتخلط الحابل بالنابل. إنها تعتبر أن الحصول على السلطة السياسية هي الوسيلة المثلى لتحقيق النهضة الدينية! بينما في الحقيقة فإن تركيبة النظام الديني تجعله يفرّ من السلطة السياسية ولا يتولاها إلا مكرهًا، وينظر إليها كمسئوليةٍ إضافيةٍ وتكليفٍ لا هدفًا ساميًا وتشريفًا.
دائما مبدع اخي تميم جزاكم الله أحسن الجزاء