الحَمدُ للهِ الَذي خلَقَ الخلائِق وقسَّم الرِّزقَ بينَ النَّاسِ وبين الخَلائِق، والصَّلاةُ والسَّلامُ على المَبعُوث بالخَير، نورُ الحقائِقِ ومُنتَهى الطَّرائق سيِّدي المُصطفى المَوصوف بالجنَّة بين الحَدائق .
أمَّا بعد فقد بيَّن الله سبحانه وتعالى ما مرَّ في الأُمَم السَّابِقة، وحذَّرَنا من الوقوعِ بِهِ في قُرآنه الكريم، ولو قلَّبت سورة البقرة التي تمنَح المتدبِّر فيها عينَ من يبقَر بواطِن العِلم الإلهيِّ المَكنون فيها لرأيتَ أنَّها تتحدَّث عن ثُنائيَّتَين مُختلِفَتَين منبَعهُما في الأصل واحِدٌ وتلك الثُّنائيَّتين تتمثَّلان باليهوديَّة والنَّصرانيَّة وكان يُخاطِبهُما في تلك السُّورة بـ (اليَهود والنَّصارى) مع أنَّهما من (أهلِ الكتاب) أو (بني إِسْرَائِيلَ) وتلك الفئتين أو المَجموعتين من بني إِسْرَائِيلَ شريعتهما واحدةٌ وهي التَّوراة ونبيُّهم التَّشريعيِّ واحدٌ هو سيِّدُنا موسَى عليه السَّلام إلا أنَّ الفئتين تقاتَلتَا بعد أن آمن طيفٌ من بني إِسْرَائِيلَ بعيسَى والطَّيف الآخَر لم يؤمِن به، وتطوَّر الصِّراع ليُفضِي إلى اقتتالٍ كبيرٍ بين المَجموعتين وقد أورَد الله سُبحانَه وتعالى ذِكرهما في أوَّل سورَةٍ في القرآن الكريمِ بعد الفاتِحة التي علَّمَنا الله تعالى فيها أعظَم الدُّعاء هو دُعاء نيلِ مقامِ المُنعَم عليهِم من الأنبياء والصدِّيقين والشُّهداء والصُّالحين من غيرِ من غضِبَ الله عليهم من اليَهود ومن الذين ضلُّوا من النَّصارى وهي نُبُوءة تدلُّ على أنَّ ما أصَاب الأمَم السَّابقة سيُصِيب الأُمَّة المحمَّديَّة وستظهَر فئةٌ من اليَهود والنَّصارى في هذه الأمَّة فجاء القرآن الكريم في سورةِ البقرة ليقصَّ علينا نبأ اختلافِهم لنتَّعظ منه فقَالَ
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }البقرة113
وَقَالَ أيضاً واصِفاً مدَى عُمقِ خلافاتِهم ونبذِهِم لكلِّ منهَجٍ ممَّا سواهُم فقَالَ في سورة البقرة أيضاً
{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }البقرة120
وقد بيَّن الله تعالى عن عدَمِ رِضَاه على انقسامهم فعادَ ليُخاطِبَهم كَمِلَّةٍ واحدَةٍ ويُذكِّرُهم بإنعامِه عليهم فقَالَ لهم
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ }البقرة40
وبعد أن يُذكِّرَهم بآلاءِ الله تعالى عليهِم يعودُ إلى الوَرَاء ليَروِي لنا بعضاً من قصَّة إِبْرَاهِيمَ عليه السَّلام الأبِ الرُّوحيِّ والطِّينيِّ لبني إِسْرَائِيلَ النبيِّ المًرسل بشريعةِ نوحٍ عليه السَّلام
{وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ }الصافات83
فقَالَ في سورة البقرة عن سيِّدنا إِبْرَاهِيمَ
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }البقرة124
نافيَاً في سورةٍ أُخرى أن يكونَ إِبْرَاهِيمَ عليه السَّلام يهوديَّاً أو نصرانِيَّاً فقَالَ
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمَ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }آل عمران67
وَقَالَ أيضاً
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }آل عمران65
وذلك لتبرِئة إِبْرَاهِيمَ عليه السَّلام مِمّا يَنسِبهُ إليه اليهودُ والنَّصارى وليفضِ القُرآن الكريم الآواصِرَ التي يريد اليهود والنصارى إقامتها بينهم وبين إِبْرَاهِيمَ عليه السَّلام زوراً وبُهتاناً بعد أن ترَكوا هديَ الله، مُخاطبَاً إيَّاهم بالقول
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }البقرة113
حيثً وضعهُم الله سُبحانه وتعالى في مَقامٍ واحدٍ مَعَ المُشرِكين مِمن كانوا لا يَعْلَمُونَ
وَلَكِن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نفى أيضاً أمرا مُهماً هو أن يكون سبب اختلافهم هو التَّفسير الخاطِئ للتوراة أو للوحي المُقدس عند بني إِسْرَائِيلَ فقَالَ
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }البقرة176
وَقَالَ أيضاً
{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }البقرة213
وَقَالَ
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }البقرة253
فما كان اختلافُهم إلا من بعدِ ما جاءَتهم البيِّنات وبعد أن أنارَ الله لهم طريق الهداية فتعامَوا عنه مُهْطِعِينَ نحو الفِتنَة لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ إيمانهُمْ ولو طرفَة وأفئدتُهم من التَّقوى خلاء .
فهم آمنوا ببعضٍ من الكتابِ ونبذوا البعضَ منه، ولو حكَّموه فيما بينهم لرأوا أنَّ الله تعالى كرَّه لهم الفُرقة، و حَبَّبَ إليهم الْإِيمَانَ والوحدة ولكنَّهم اتَّخذوه عَضِين
{ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }البقرة85
هذا هو باختصارٍ شديدٍ ما وقَع بين أبناء الملَّة الواحِدة ملَّة أهل الكتاب وما شجَرَ بينَهم، فهل ستقع أمَّة الحبيب بما وقعَت به سابقاتها؟!
يقول الله سبحانه وتعالى واصفاً النَّبيِّ محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام بأنَّه الشَّاهِد الذي يُشابِه سَيِّدنا موسى مع فرعون فقَالَ
{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً }المزمل15
وكما قلنا أنَّ القرآن الكريم تنبَّأ بانقسام الأمَّة إلى فئتين هما (المَغضُوبِ عليهم) و(الضَّالين) وأمَرَنا بالدُّعاء وطلَبِ الهِدايَة من ربِّ العزَّة كي لا نكون مِن أيٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ .
وَقَالَ أيضا مُشيراً إلى انقِسَام الأمَّة كانقِسَام أمَّة بني إِسْرَائِيلَ
رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً{2} فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ{3} وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ{4}
وَقَالَ أيضا الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام عن اقتداء أمَّته باليَهود والنَّصارى في الحديث الذي رواه البخاري
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ”
هذا هو الحالُ الذي وصَلَت إليه الأمَّة بالأمسِ واليوم وحدَثَ الخِلافُ والاقِتَتال بين طائفتين عَظِيمتَين في الأمَّة المحمَّديَّة هما السُّنَّة والشِّيعة وأشار إلى ذلك القرآن الكريم إشارةً لطيفةً في قوله
{إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ }التحريم4
وظاهرُ الآية يذهَب إلى اثنتين من أمَّهات المُؤمِنين عليهنَّ السَّلام وباطِنُهما ينصرِف، باعتبار أنَّ كلمَة أزواجٍ تضمُّ الأتبَاعَ، إلى فئتين من أمَّتِه ستتظاهرَان عليه كتظاهُر اليَهود والنَّصارى فكانَ لا بُدَّ للقرآن الكريم أن يوضِّح منهَجَ النَّجاة في ذلك الزَّمان الذي سيُعمِل السَّيف بين تلك الفئتين ويبقَى النَّاس بين هَرَجِهِم ومَرَجِهِم حائرين يَلتَمِسون بصيصاً من الأمل ويتلمَّسون طَرَف خيطٍ للنَّجاة من هذه الفتنَة العظيمة .
وفي المَخرج من الفتنة روَى الإمامُ عليٌّ عليه السَّلام عن النَّبيِّ الأكرم قوله:
أمَّا إنّي قد سمِعت رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: (ستكُون فِتَنٌ، قلت: وما المَخرج منها؟ قَالَ: كتابَ الله, كتابُ الله فيه نبأُ ما قبلَكم وخَبَرُ ما بعدَكم، وحَكَمٌ ما بينكم. هو الفَصل ليس بالهَزل، هو الّذي من تَرَكَه من جَبّار قصَمَهُ الله، ومن ابتَغى الهُدى في غيرِه أضَلّه الله، فهو حَبلُ الله المَتِين، وهو الذِّكر الحَكيم، وهو الصِّراط المستقيم” )
لذلك كان من المُهِمِّ أن يرجِع النَّاس إلى القُرآن الكريم وخصوصاً أهل السُّنَّة والشِّيعة وهم الذين يُغلِّبون الرِّواية والحديث على كتابِ الله تعالى، فها هو حديثٌ واضحٌ جليٌّ أمامهم متَّفقَين عليه، فيه بيانٌ للفِتنَة التي ستَقَع في الأمَّة وكيفيَّة الخروجِ منها أو السَّلامة منها حيث لا مَنجَى منها إلَّا بكتاب الله العزيز العظيم، وإذا ما عُدنا إلى كتابِ الله سنَجِدُ بعد أن يَذكُرُ الله سبحانه وتعالى تصَارُعَ اليهُود والنَّصارى يأتِي بتعظيمِ سيِّدنا إِبْرَاهِيمَ عليه السَّلام فقَالَ الحقُّ سُبحَانه وتعالى مقَالَته الفَصل بشأنِ تصارَع تِلكُما الفئتَين
{وَقَالَواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }البقرة135
فقَالَ إنَّ ملَّة إِبْرَاهِيمَ عليه السَّلام الحنيفَة غير المُشرِكة بالله هي عنوان الهِدايَة وسنام الوِلاية فلماذا كان إِبْرَاهِيمَ عليه السَّلام من دونِ الأنبياء عنوانا للأمَّة الوسط ومناراً للحنفيَّة في ظلِّ الفَوضَى التي تُصِيب الأمَّتين الموسويَّة والمحمَّديَّة ؟!
إنَّ مكانة سيِّدنا إِبْرَاهِيمَ عليه السَّلام مكانةً عاليةً فهو خليلُ الله تعالى
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً }النساء125
وقد أًمَرَ النَّبيُّ محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام باتباع منهَج إِبْرَاهِيمَ عليه السَّلام حيث قَالَ الله تعالى له
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }النحل123
وأمرَه أيضا أن يتبرَّأ ممَّن سيفرِّقون دينَهم من الطَّوائف والأحزَاب ويتَّبع المنهَج الإِبْرَاهِيمَيِّ فقَالَ الحقُّ في كتابِه الكريم
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ{159} مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ{160} قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ{161}
فما هي الميِّزات التي تُميِّزُ بها المَنهَج الإِبْرَاهِيمَيِّ التي ذكَرَها القُرآن التي على المؤمِن أن يبحث عنها في الجماعات الإسلاميَّة ليتَّبعها ؟
إنَّ المنهَج الإِبْرَاهِيمَيِّ للوصولِ إلى الله تعالى كان عن طريقِ إعمَال العقل والتَّدبر في ألاء الله تعالى والتَّفَكُّر في خلقِه وعدَمِ التقيُّد بالتَّقليد الأعمَى الذي يُفضِي إلى التعصُّب والهلاك دائماً، فكان إعلانُ إِبْرَاهِيمَ لنهجِه الحنفيِّ يُعِيدَ تَفّكُر وتَدبُّرْ ومُحاجَجةٍ عقليَّةٍ مُفحِمَةٍ للكافرين فقَالَ الله تعالى على لسان إِبْرَاهِيمَ عليه السَّلام في سورة الأنعام
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ{76} فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ{77} فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ{78} إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ{79}
لاحِظوا النَّهج الإِبْرَاهِيمَيَّ الذي يتدبَّر ويتفكَّر ولا يتقيَّد بالتَّقليد الأعمى فهذه أوَّلُ سِمةٍ من سِمَات المؤمِنين المتَّقين، يقول الحقُّ سبحانه عنهُم مفصِّلا في أحوالهم
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }آل عمران191
كان سيِّدُنا إِبْرَاهِيمَ عليه السَّلام أمَّة لوحدِه قانِتا لله يتفكَّر في خَلقِ الله تعالى ولا ينجَرُّ إلى التَّقليد الأعمى الذي هو علامَة الكافرين
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالَواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }البقرة170
فهذا هو النَّهج الحقُّ وَهوَ التَّدبُّر وطلَبُ الله تعالى والجِهادُ من أجل الوصول إليه وليس الارتكان إلى ما آلفَه المرء من آبائه
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }العنكبوت69
لقد علَّمنا سيِّدُنا إِبْرَاهِيمَ عليه السَّلام ألَّا نكون مقلِّدين منصَاعِين للعَقل الجمعِي الحاكِم على المُجتمعات الذي تَسبَّب في مُحارَبَةِ جميعِ الأنبياء ورفضِ دعواتِهم بل وحتى قتالهم هذا هو إِبْرَاهِيمَ عليه السَّلام وهكذا هو نهجُه القويم لذلك استحقَّ أن يرفَع القَواعِد من البيت بعد أن اندَثَر في وادِي غير ذي زَرعٍ فزمزم الله ببرَكَتِه المَاء وأحيا هذا الوادِي ببركَتِه وبرَكَة ذريَّته وجعَلَ أفئِدة من النَّاس تهوِي إليه بعد أن كان مُقفِراً منهم .
ليترُك بعدَه فرعَين متوازِيين ينتشِران في الأرض في جميع جِهاتها الأربع ويُحيَى هذان الفرعان ضَعفا (تكثِير وضَعف) فتنالُ ذريَّتَه أربع إحياءات وستكون تلك الإحياءات في أريع مناسَبات بعثةُ موسى وبعثةُ عيسى وبعثةُ محمَّد وبعثةُ المَهدي عليهم الصَّلاة والسَّلام .
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمَ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }البقرة260
لذلك سنَّ الله تعالى في السِّنين أربعةَ أشهرٍ حُرُمٍ تخليداً لتلك الإِحياءات
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }التوبة36
وإلى جانب التدبر العقلي فالنماء الروحي والتطهر والتزكي مطلوب ولاحِظِوا كيف أنَّ الله تعالى أمرَ سيِّدَنا إِبْرَاهِيمَ أن يأخُذ أربعَةً من الطَّير ويضعُ كلَّ واحِدَةٍ منها فوق جبلٍ فالطَّير هنا هو الكِنايَة عن الطُّيور الرُّوحانيَّة التي ستتزكَّى ببرَكَتِه والتي ستجُوب سمَاء الرُّوحانيَّة فتطِير لتقترِب من مواقع النُّجوم التي هي مكنوناتُ المَعَانِي في القرآن الكَريمِ فالمُطهَّرون هم الطُّيور الرُّوحانيَّة التي تستطيع مسَّ سَماء معانِي القرآن الكريم
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ{75} وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ{76} إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ{77} فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ{78} لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ{79} تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ{80}
والجبلُ هو رمزٌ للمَكان الذي يتنزَّل عليه القرآن الكريم فقَالَ
{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }الحشر21
وهو الطُّور الذي سيلجأ إليه أتبَاعُ الإمام المَهديِّ والمَسيح الموعود في مواجَهَتِهِم ليأجوج ومأجوج بوحيٍ من الله تعالى كما ذكره صحيحُ مسلِم في أنَّه سيتلَقَّى وحياً يقول له ( أن حرز عبادي الى الطور)
فهذه الجَماعَة هي من سيَكون سلاحُها القرآن الكريم في حين ستَهجُر باقي الأمَّة القُرآن الكريم حتى يقولُ الرَّسول مشتكياً لله تعالى
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }الفرقان30
فالجَمَاعَة الحقَّة هي التي ستُبدِعُ في تأويلِه وتفسيرِه ويكون لها تفسيراً كبيراً له أشارَ الله تعالى له
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }الأعراف53
و مِن سِمات المِلَّةِ الإِبْرَاهِيمَيَّة هي ارتباطها باسم إِبْرَاهِيمَ في حين أنَّ اليهود والنَّصارى لم ينتسِبا إلى موسى أو عيسى بالاسم فلم يَذكر الله تعالى ملَّة موسى أو ملَّة عيسى أبدا ! فلماذا ؟
إنَّ جواب هذا السُّؤال يتلخَّص بآيةٍ قُرآنيَّةً عظيمةً قَالَ الحقُ فيها
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }البقرة124
فكان إِبْرَاهِيمَ عليه السَّلام إماماً للنَّاس ومُقدّماً عليهم وجعل الإمامَة في عقِبه فقط ولكِن لن ينالَها الظَّلَمَة منهم
ولنلاحِظ أين بقيَت الإمامة التي هي العلامَة والسِّمة الثَّانية للملَّة الإِبْرَاهِيمَيَّة ؟
الجواب سيكون واضِحٌ من خِلالِ تتَبُّع الآيات في سورة البقرة
حيث قَالَ الحق على لسانِ إِبْرَاهِيمَ وابنه
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ }البقرة129
فكانت دَعوتُهما أن يبعَث الله إمامَ الرُّسل في ذراريهِما كي يبيّن النَّهج القويم والدِّين السَّليم
فأوضَح الله تعالى هذا الأمرَ بياناً وتفصيلاً في سورة الجُمُعة فقَالَ
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ{2} وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{3} ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ{4}
فكانت الإمامة في الذريَّة الإسماعيلية تتجدَّد مرَّتين فقَالَ (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) فسَأل الصَّحابة النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام من هُمْ الآخرين فأجاب بحسَب الرِّواية التَّالية التي ورَدَت في التَّفاسير السِّنيَّة والشِّيعيِّة على حدٍّ سواء وبطُرُقٍ وأسانيدٍ مختَلفَة (فبينما كان الصَّحابة جلوساً عندَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فنزلَت عليه سورة الجمعة، فلمَّا قرأ: { وآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ } قَالَ رجلٌ: من هؤلاء يا رسُول الله؟ قَالَ: فلم يُراجِعه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتى سألَه مرّة أو مرّتين أو ثلاثاً، قَالَ: وفينا سلمانِ الفارسيّ، فوضَع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم يدُه على سلمان فقَالَ: ” لَوْ كانَ الْإِيمَانَ عنْدَ الثُّرَيَّا لَنالَهُ رِجالٌ مِنْ هَؤلاءِ ” )
هذه الآية وهذه الرِّواية تُفسِّرَان حَدِيثا مرويَّاً عند السُّنة والشِّيعة للنَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام بشأن الاقتتال الذي سيحدُثُ بين طوائِفٍ من أمَّته يقول فيه
(افترقَت اليهود على إحدى وسَبعين فرقة، وافترقَت النَّصارى على اثنتين وسبعِين فرقَة، وستفترِق هذه الأمَّة على ثلاثٍ وسبعِين فرقةً كلُّها في النَّار إلّا واحدة، قيل: من هيَ يا رسولَ الله؟ قَالَ: من كانت على مِثل ما أنا عليه وأصحابي.)
لنلاحِظ أمراً مهمَّاً فيه ومحوريٍّ وهو أنَّ معيارَة النَّجاة من نارِ الحُروب التي ستندَلِع بين طوائفِ الأمَّة المحمَّديَّة هو ليس اقتفاءَ أثرِ الصَّحابة، فالصَّحابةُ رضوانُ الله تعالى عنهُم قد دبَّ الخِلاف بينَهم وأقتتَلوا فيما بينَهم فلا يصحُّ الاقتداء بهم على طولِ الخطِّ وخاصَّة في أمورِ النَّجاة من الفِتنة فالصَّحابة طرَفُ معادَلةٍ لا تستقِيم إلا بوجود الشقِّ الرئيسيِّ فيها وهو وجود النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام فقَالَ ( أنا وأصحابي) فالبِعثَتَين للنَّبيِّ محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام المذكورة في سُورَة الجُمعَة ستكونان الطرف العِدل للجماعة، لتكتمل مُستَلزمات النجاة، وهي تتمثلً بالإمامة حيث ستُخلِّفان بخلافة يكون فيه ممثِّل النَّبيِّ حاضِرا فيكونُ إمامُ الجماعةِ إماماً حاضِرا متصدِّرا لجماعة المُؤمِنين وهو إمامُهم المُطاع .
فعن حذيفَة بن اليمان رضي الله عنهما قَالَ: كان النَّاس يسألون رسول الله صلَّى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشَّرِّ مخافَة أن يدرِكني، فقلت: يا رسُول الله إنَّا كنَّا في جاهليَّةٍ وشرٍّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شرٌّ؟ قَالَ: ((نعم)) فقلت: هل بعد ذلك الشَّرِّ من خير؟.
قَالَ: ((نعم وفيه دَخَن)) قلتُ: وما دَخَنُه؟ قَالَ: ((قوم يستنُّون بغير سنَّتي ويهدُون بغير هَديي، تعرف منهم وتُنكر)) فقلت: هل بعد ذلك الخير من شرٍّ؟.
قَالَ: ((نعم دُعاةٌ على أبوابِ جهنَّم، من أجابَهم إليها قذفوه فيها))، فقلت: يا رسولَ الله صِفهُم لنا، فقَالَ: ((نعم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)) قلت: يا رسُول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟.
قَالَ: ((تلزَم جماعَةَ المُسلِمين وإمامَهم)) فقلتُ: فإن لم تكُن لهُم جماعة ولا إمام؟.
قَالَ: ((فاعتزِل تلك الفِرَق كلّها، ولو أن تعضَّ على أصلِ شجرةٍ حتى يُدركك الموت وأنت على ذلك)). متَّفق عليه .لنلاحِظ هنا أنَّ في نصيحة النَّبيَّ عليه الصلاة والسَّلام أمران مُهمَّان هما وجُود جماعة بإمام … وهو معيارُ تفضِيلِ الملَّة الإِبْرَاهِيمَيَّة وإلا فاعتزال كل تلك الفرق .
وفي حديثِ النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام ونُصحِه لحذيفَة إشارةٌ واضحَة إلى أنَّ الجَماعة التي نَصَحَ النَّبيُّ حذيفَة باتِّباعها هي جماعةُ الإمام المهديِّ والمسيح الموعودِ عليه السَّلام حيثُ هو ( رجلٌ من فارِس) حيث سيكون الإمامُ هو المُنجِي من الفِتَنِ وهو سَفِينة نوحٍ في طوفَان الفِتَن
فقَالَ عن الإمام وضَرورَته
(يقتَتِل عندَ كنزِكُم هذا ثلاثة ، كلُّهم ابن خليفةٍ ، ثم لا يَصِلُ إلى واحدٍ منهم ، ثم تقبل الرَّايات السُّود من قِبَلِ المَشرِق ، فيقتلونَكم قتلاً لم يقتُله قوم – ثم ذكر شيئا – فإذا رأيتُمُوه فبايِعُوه ولو حبواً على الثَّلج ، فإنَّه خليفةُ الله المهدي )
فَتِلك هي جماعةُ المُسلمِين وإمامُهم التي نَصَح سيِّدنا محَمَّد حذيفَة باتِّباعِها عند تموُّج الفِتَن وطلَبِها ولو حبواً على الثَّلج فهي جماعةٌ ستظهَرُ من الشَّرق وسيكون إمامُهَا فارسيَّاً وأئمَّتها يخلفون البعثة الثَّانية للنَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام .
فقَالَ حذيفَة: قَالَ رسُول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: تكون النبوَّة فيكُم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفَعُها الله إذا شاء أن يرفَعَها، ثمَّ تكون خلافةٌ على مِنهَاج النبوَّة فتكون ما شاء الله أن تَكون، ثم يرفَعها الله إذا شاء أن يرفَعَها، ثم تكون مُلكًا عاضًّا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعُها إذا شاء الله أن يرفعَها، ثم تكون مُلكًا جبريَّة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعُها الله إذا شاء أن يرفعَها، ثم تكون خلافة على منهاجِ النُّبوَّة، ثم سكت
فهي الخلافة التي ستعقُب البِعثة الثَّانية للنَّبيِّ محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام المشار إليها في سورة الجمعة في جماعة (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) فهي التي ستُحقِّق الإمامَة التي ستفقِدها كلُّ الطوائف الإسلاميَّة الأُخرى .
أمَّا السِّمة الأخرى للملَّة الإِبْرَاهِيمَيَّة المخلَّدة هي القنوتُ لله تعالى فقَالَ الحقُّ سبحانه وتعالى عن سيِّدنا إِبْرَاهِيمَ
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }النحل120
والقنوت هو منتَهى الطَّاعة لله سبحانه وتعالى وقتلِ أهواءِ النَّفس وملذَّاتها فقد ترك إِبْرَاهِيمَ زوجتَه وابنه في وادِي غير ذي زرعٍ امتثالاً لأمرِ الله تعالى ولم يَعتَرِض لا هو ولا أهلُه، وأُمِر أن يُذبَح ابنه فامتَثل أيضاً وامتثَل ابنه الذي شجَّعه فقَالَ
(يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)
إنَّها تلك الجَماعة التي تتمثَّل لأمرِ الله تعالى بلا إبطاءٍ وتتحلَّى بفيوضِ التَّزكية النَّبويَّة الشَّريفة وتُقتَل النَّفس والأهواء في سبيلِ الله تعالى وانظُر إلى أعظمِ هبةٍ سيهبُها الله تعالى لتلكَ الجَماعة المُمتَثِلة لأوامِره والتي ستكون هي انعكاس الملَّة الإِبْرَاهِيمَيَّة في الملَّة المحمَّديَّة حيث ورَد في سورة الأنعَام بعد محاورَة سيِّدنا إِبْرَاهِيمَ لقومِه ومحاجَجَته في عبادَة الله تعالى قوله تعالى
وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ{80} وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{81} الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ{82}
فهذِه الجَماعة ستنالُ الأمنَ والهِداية بفَضلِ من الله تعالى في حين تتقاتَل كلُّ تلك الطَّوائِف الإسلاميَّة فيما بينَها وشعارُها سيكونُ دائِماً وأبداً
المحبَّة للجميع ولا كراهيَّة لأحدٍ .
هذه الجماعة هي التي فقط ستنجُو من نارِ فتنةِ الحروبِ والاقتِتالِ بين طوائِفِ الأمَّة التي أشار إليها حديث الــ (73) فرقة، تماماً كما نجَّى الله تعالى سيِّدَنا إِبْرَاهِيمَ عليه السَّلام عندما ألقيَ في النَّار
{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ }الأنبياء69
فهذه الأمَّة ستَنَال ببركَة اتِّباعِها لإمَامِها إِبْرَاهِيمَ بَردَ اليَقين وسلامَة النَّفس والْإِيمَانَ ولن تُكوَى بنارِ الحِقدِ التي ستضطَّرم بين المِلل والنِّحل الإسلاميَّة
فدُلُّونِي بربِّكم على جماعَةٍ أو طائفةٍ إسلاميَّةٍ لم تُقتَل أو لم تُقاتِل يوماً من الأيَّام فيما بينها ؟ واعرِفوا من هي تلك الجَماعَة النَّاجيَة التي سيشنُّ الكلُّ الحربَ عليها وتكفَّر من قبل (72) طائفةٍ ورغمَ ذلك ستظلُّ ترفَعُ شعارَ المحبَّة واللاكراهيَّة وتُحقِّق الأمنَ في نفوسِ أبنائِها وفي المُجتَمعات التي تتواجَد وتنتَشِر فيها وتُحقِّق مرَّة ثانِيَة دَعوة النَّبيِّ إِبْرَاهِيمَ عليه السَّلام بأن يعُمَّ الأمنُ في أرضِ الله تعالى
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمَ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }البقرة126
إنَّ هذه الملَّة الإِبْرَاهِيمَيَّة ملَّة تتفوَّق في المناظَرات والمجادَلات تماماً كما تفوَّق سيِّدنا إِبْرَاهِيمَ الذي حاوَر أعتَى ملوكِ الأرضِ بهدوءِ الواثِق بالله تعالى غير الآبِه بجبروتِ المُحَاوِر فقَالَ
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمَ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }البقرة258
ومن سمَات تلك الجَمَاعَة أنَّها جماعَة فتيَّة تنشَط كالنَّحل تماماً كما كان إِبْرَاهِيمَ فتيَّاً فقَالَ الله تعالى عنه
{قَالَوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمَ }الأنبياء60
وهم الفِتيَة الذين سيَدخُلون الكَهف والرَّقيم
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالَوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً }الكهف10
فهي الفِئة التي ستلجأ الى كَهفِ الله تعالى تماماً كما لجأ أصحابُ عيسى عليه السَّلام فِراراً بِدِينِهم من أعداءِ الله تعالى .
وهي تلك الفئة التي سيتبَرَّأ أبنائِها من كلِّ أهلِهم الذين كفَّروهم وطردُوهم وسيُقِيمُون الصِّلات بالله تعالى فقط وفيما بينَهم تماماً كما تبرَّأ إِبْرَاهِيمَ عليه السَّلام من قومِه ومن أبيه فقَالَ
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالَوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }الممتحنة4
والذي لن يَجِد في الطَّائفة أو الجَماعَة التي ينتَمِي إليها الآن كلُّ تلك السِّمات مُجتَمِعة وباقي السِّمات التي تُميِّز سيدنا إِبْرَاهِيمَ عليه السلام والذي يستطيع كل مؤمن ان يتتبعها في كتاب الله فليعلَم أنَّ قولَ الله تعالى قد حقَّ فيه
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ }البقرة130