يبين الله تعالى أن القرآن الكريم، الذي هو كلام الله النقي غير المختلط بكلام البشر، فيه آيات محكمات واضحات هن بمنزلة أم الكتاب، وفيه آيات أخرى متشابهات؛ أي أنها فيها نوع من الغموض، الذي بردِّه إلى المحكمات وربطه بها يتضح ويزول. وقد سماها القرآن الكريم بالمتشابهات إشارة إلى أنها في حقيقتها لا تختلف عن المحكمات، بل هي صور لها وتشبهها، والمحكمات إنما هي بمنزلة الأمهات للمتشابهات، والمتشابهات بمنزلة بناتها. ولكن التوفيق وإدراك الشبه لا ينكشف بسهولة، وإنما يحتاج جهدا وتفهيما إلهيا.
والواقع أن هذه الميزة هي التي تجعل القرآن الكريم لا تنقضي عجائبه، إذ يتولد من المتشابهات في كل حين كثير من المعاني التي تزيدنا علما ومعرفة وإدراكا، وتخاطبنا بما يتوافق مع واقعنا في كل زمن. وفي هذه الصورة البلاغية الجميلة إشارة إلى أن كلمات الله حية كالأم الولود، تتولد منه المعاني دوما وتتجدد.
ولنتأمل قوله تعالى في وصف القرآن الكريم:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ }
( آل عمران 8 )
وهكذا نرى أن الله تعالى، بعد أن بيَّن طبيعة كلامه الذي فيه المحكم والمتشابه، بيَّن أن هنالك فئتين من الناس ممن يسيئون التصرف مع هذه المتشابهات، وهما من يبتغون الفتنة من سيئي النية، وآخرون من ناقصي العلم الذين يظنون أن كلام الله يجب ألا يحتوي هذه المتشابهات، ويسعون لتأويله بمنطقهم الجاف وعلمهم الناقص، وكأنهم ينكرون أن هنالك أسرارا وأمورا لا بد أن تنكشف وتتولد في وقتها وزمانها. ولكن مسلكهم هذا خاطئ، وهو أصلا نابع عن زيغ في قلوبهم مثلهم كمثل الشياطين الذين يبتغون الفتنة. وكان الواجب على هذه الفئة أن يفوضوا ما لم يفهموه أو يدركوا كل جوانبه من هذه المتشابهات ويرتقبوا تأويله، لأن الله تعالى هو الذي سيأتي بهذا التأويل، إذ يقول تعالى:
{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
(الأَعراف 54)
ويبين الله تعالى أنه عند مجيء هذا التأويل سيندم الذين ضلوا بسبب هذه المتشابهات، ويتمنون لو أن الزمان يعود بهم ليعملوا غير الذي عملوه، إما من إنكار أو سوء تصرف أو افتراء بسبب تعسفهم واعتدادهم برأيهم.
أما الراسخون في العلم فإنهم يؤمنون بالكتاب كله، محكمِه ومتشابهِه، ويؤمنون أنه من الله تعالى، وأن هذه الطبيعة ليست عيبا ولا نقصا، بل هي ميزة كلام الله الحي، الذي يفتح المجال لأولي الألباب لإدراك المعاني المتنوعة والجوانب العديدة من كلام الله في كل حين. فالتشابه في كلام الله يراه الراسخون في العلم نعمة ومجالا واسعا لزيادة علمهم وإيمانهم.
والواقع أن هذه الطبيعة في الكلام الإلهي يجب ألا تكون سببا للحيرة أو الضلال، لأن في المحكمات ما يشفي الصدور ويطمئن القلب والعقل، والنظر في المتشابهات وإدراك مدى توافقها وتفرعها من المحكمات إنما يزيد المؤمن علما وإيمانا. فهذه الطريق إنما هي طريق للتقدم والترقي، وليست طريقا للتراجع والتخاذل.
ولا بد هنا من التنويه أن الراسخين في العلم هنا لا تعني كبار العلماء الربانيين فحسب، وإنما تعني من أدركوا العلم الصحيح ورسخوا فيه، حتى لو لم يكونوا من ذوي العلم، ولكنهم تلمسوا هذه الحقيقة وأدركوا أن المتشابهات وإن لم يعرفوا حقيقتها وتأويلها فهي لا تؤثر في إيمانهم ورسوخهم شيئا. فكبار العلماء الربانيين مهما تبحروا في العلوم فهم لن يحيطوا بكل المتشابهات ويدركوا علاقتها بالمحكمات، وهم يشتركون مع عامة المؤمنين الراسخين في التفويض أيضا.
والواقع أن الإنسان لا يمكن أن يرسخ في العلم ويكون محصنا من فتنة المتشابهات إلا بمعونة الله، والذين يغرقون في المتشابهات والشبهات ويتأثرون بها يكون مصيرهم الزيغ والانحراف والكفر في النهاية، لذلك وجَّه الله تعالى إلى ضرورة الدعاء بهذا الخصوص، إذ قال:
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}
(آل عمران 9)
وهكذا، وفيما يتعلق بدعوة الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، فهي قائمة على أسس قرآنية راسخة وتؤيدها السنة النبوية المتواترة ويؤكدها الواقع الذي هو بمنزلة التأويل للنبأ عندما كان متشابها، كما يثبتها صدق الأنباء التي جاء بها حضرته عليه الصلاة والسلام والتأييد الإلهي الذي كان معه ولا يزال مع جماعته. ولا شك أن هنالك أمورا متشابهة فرعية لا تتضح حقيقتها على كثير من الناس، ولكنها في الواقع متوافقة توافقا تاما مع المحكمات. وهذه المتشابهات أو ما تسمى بالشبهات هي مادة عظيمة لزيادة العلم والإيمان، ولكنها أيضا وسيلة لضلال الذين في قلوبهم زيغ من ناقصي العلم وأداة أيضا بيد الشياطين الذين يريدون الفتنة. ولكل أن يعمل على شاكلته ويعمل ما يوافق طبيعته، وبذلك يمتاز الراسخون في العلم المطمئنون المتقدمون في الإيمان من الذين في قلوبهم زيغ وتمادوا في غيهم والذين يردُّ الله عليهم بأنْ يضلهم ويجعلهم صم بكم عمي فهم لا يرجعون.
لذلك فالواجب على المؤمنين أن ينحازوا إلى فئة الراسخين في العلم، ويتمسكوا بالمحكمات، ويتدبروا في المتشابهات، ويفوضوا ما لم يفهموا وما لم يدركوا ويرتقبوا تأويله. أما الذين حقت عليهم الضلالة فلن نملك لهم من الله شيئا، ولن يضروا الله ورسله وجماعة المؤمنين شيئا ولكنهم أنفسهم يظلمون.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بارك الله فيكم على هذه الجهود وعلى هذه النقاط القيمة
بارك الله فيكم.