مع أن الله تعالى قد أكَّد في القرآن الكريم أنه سيتولى بنفسه أمر من سيفتري عليه الكذب، وسيجتثه ويقطع وتينه ويفشل خطته، كما في قوله تعالى:
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } (الحاقة 45-48)
ومع أن المفسرين قد أجمعوا على أن المعنى هو أن الله تعالى سيهلك المفتري بيد قدرته القوية ويبدد دعوته، وليس بينهم خلاف إلا في أن هذه الآية خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم أم أنها عامة وتطبق على كل مفترٍ، ومع خطأ الفريق الذي يخصصها بالنبي صلى الله عليه وسلم وغفلته عن أن المعنى لا يستقيم إلا إذا كانت هذه سنة الله تعالى العامة التي كانت في الماضي والتي ستستمر في المستقبل وإلا فلا تصلح دليلا، إلا أن القرآن الكريم قد أغلق القضية أيضا بإزالة أي احتمال لتحريف هذه الآية عن معانيها أو محاولة التقليل من هذا المعيار أو الدليل القاطع على صدق المدِّعي الصادق، إذ يقول تعالى:
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (الشورى 25)
فالله تعالى يقول هنا إن قولهم بأنك افتريت على الله كذبا لا يستقيم مع إيمانهم بي، فلو كنت تفتري عليَّ كذبا فإنني يمكن أن أختم على قلبك فتفقد قواك العقلية والفكرية وتتوقف رغما عنك، وبذلك سأزيل افتراءك وأمحوه. ولكن النتيجة الحتمية على كل حال هي أنني سأمحو الباطل وأجتثه ولن تبقى للكاذب جماعةٌ كبيرة فاعلة تنشر أكاذيبه وافتراءاته بل سأدمِّرها تدميرا وأمحوها عن صفحة الوجود، وسأحقُّ الحق بكلماتي التي تعني فيما تعنيه ما سأحققه على أرض الواقع بأمري من تثبيت للحق والصدق.
وهذا الدليل الذي يقدِّمه الله تعالى إنما هو دليل يصلح لكل من يعلن إيمانه بالله؛ إذ لو آمن بالله فإنه سيؤمن بقدرته وبتحقيقه لوعوده ووعيده، أما الذي يستخفُّ بهذا الوعيد في هذه الآيات فإنه بلا شك يصطدم مع الله تعالى ويعلن إلحاده به بصورة غير مباشرة، هذا إن لم يكن ملحدا أصلا ويتستُّر بالإيمان. فمن كان يؤمن بالله حقا فلا بد أن يطمئن قلبه ويرتاح باله حيال المفترين مدعي الوحي أو النبوة أو المبعوثيِّة الكاذبة، لأنه سيؤمن من صميم قلبه أن الله تعالى بنفسه من سيتولى أمر هؤلاء.
والواقع أن هذا ما يتوافق مع فعل الله تعالى. فلن تجد اليوم جماعة أسسها في الأصل متنبئ كاذب، بل ستجد أن مصير المتنبئين الكاذبين كان الاجتثاث السريع ومحو جماعاتهم من صفحة الوجود. أما الانحرافات في جماعات الأنبياء على يد بعض المندسين والمنافقين كما حدث مع تحريف المسيحية على يد بولس، أو تأسيس ما يشبه بالجمعية التي يلتف حولها قلة من الناس على أساس ادعاء شخص بمعتقدات عجيبة كالألوهية كما في حالة البهاء، فهذا أمر آخر، وهذه الحالات قد أفشلها الله تعالى بأسلوب آخر. ولكن الله تعالى في هذه الآيات قد توعَّد من يدَّعي النبوة أو الإرسال من الله تعالى على نهج النبوة، وهي السنة التي بدأت مع بدء الخليقة واعتاد الناس على أن يأتي من خلالها الأنبياء الصادقون.
أخيرا، لا يمكن أن يجتمع الإيمان بالله تعالى مع الاعتقاد بأن الله تعالى لم يهلك مفتريا كاذبا أخذ يفتري عليه لسنوات طويلة امتدت لما يزيد على 35 عاما، ثم لم يكتفِ الله تعالى بهذا فحسب، بل أبقى جماعته وأجرى فيها سلسلة استخلاف مستمرة إلى يومنا هذا تدعي أنها الخلافة الثانية الموعودة في الإسلام، بل وجعلها تستمر في الانتشار والازدهار في العالم رغم المعارضة الشديدة والظروف غير المؤاتية، ولم يمحها وفقا لوعده. فمن كان يؤمن بالله حقا ويؤمن بأنه قيوم هذه الدنيا فلا بد أن تخضع رقبته لهذا الدليل ويأتي إلى الحق مذعنا. أما الذي ختم الله على قلبه وسمعه وبصره وأضله الله تعالى فلن تجد له سبيلا. والحمد لله رب العالمين.