يتوجَّه حضرة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام إلى الله تعالى بدعاء في غاية الجمال نقتبس منه:
“ربِّ أرِني كيف تُحيي الموتى. أرِني وُجوهًا ذوي الشمائل الإيمانية، ونفوساً ذوي الحكمة اليمانية، وعيونًا باكيةً من خوفك، وقلوبًا مقشعِـرّةً عند ذكرك، وأصلاً نقيًّا يرجع إلى الحق والصواب، ويتفيّأُ ظِلالَ المجاذيب والأقطاب، وأرِني عرائِكَ ساعيةً إلى المتاب والإعداد للمآب.” (مرآة كمالات الإسلام 1893م)
ما أجمله من دعاء علمّناه الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام أن نسأل اللهَ تعالى على الدوام ليعلّمنا كيف نصبح مؤثرين إيجابياً فِيمن حولنا من خلال أقوالنا وأسوتنا الحسنة ونأخذ بأيديهم بعيداً عن ظلام الغضب وقسوة القلب إلى نور الإيمان وتقوى وسلام الله تبارك وتعالى.
هذا الدعاء لم يكن يعرفه الناس رغم وجوده في القُرآن الكَرِيم حتى بَعَثَ اللهُ تعالى المسيحَ الموعود عَلَيهِ السَلام فاتّخذه دعاء عظيماً معناه الخضوع التام لله ﷻ وطلب التعليم والإرشاد منه سبحانه في كل أمر من أمور حياتنا وهو أن نجذب إلينا النفوس الصافية ونُحيي بتعليم الله تعالى الموتى بتأثير الدعاء.
بالتأكيد لم ينفي المسيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام الوجه الظاهري للآية وهي أن طيوراً قد فرّقها سيدنا إِبْرَاهِيمَ ؑ إلى أربعة أجزاء ووضع كل جزء منها على جبلٍ وطلبها ولتعوّدها عليه عادت إليه بتأثير نفسي مغناطيسي نتيجة فن التربية وفيه درسٌ أنَّ الإنسان الذي تربّيه على الخير فلن ينساك مهما ابتعدَ وانشغل في حياته وسوف يعود إليك أو يتصل بك وإنْ حادت بينك وبينه الجبال. فما دامت الطيور تتصف بهذه الخصال الطبعية التي تنتج عن فنون أرضية في علوم التربية، فما بالك بالبشر ذوي الألباب والتأثير الروحي ! يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:
“واعلموا أنَّ ما ورَدَ في القرآن الكريم أنَّ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ جُعِلتَْ أجزاء ووُضعتْ على أربعة جبال منفصلة ثم أتت عندما نُوديتْ ففي ذلك أيضاً إشارةٌ إلى عمل التِّرب، لأن تجارب هذا العِلم توحي أنَّ الإنسان يملك قوةً مغناطيسيةً قادرة على جذب جميع كائنات الأرض إلى نفسه. ويمكن أن تتطور قوة الإنسان المغناطيسية لدرجة يتمكن بواسطتها من جذب طيرٍ أو دابّة إلى نفسه، وذلك بمجرّد التركيز عليها، فتدبّر ولا تغفل.” (إزالة الأوهام)
فالدعاء الذي علّمناه الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام هو خلاصة هذه الآية؛ أنْ يا رَبَّ أرنا كيف تُحيي الموتى وتجذب لنا النفوس الصالحة السعيدة فنحن دون تعليمك لا شيء ولا فائدة في عِلْمنا ومالنا ولا نفعل شيئاً إلا بعد أن ترينا أنت سبحانك كيفية عمله وتُحيي من خلالنا أنفساً ميتة القلوب فتصبح بنعمتك مثل طيور إِبْرَاهِيمَ عَلَيهِ السَلام التي مهما تحلّق عالياً تعود عاجلاً أم آجلاً إلى حضن دينك الذي نتعلّمه كالصغار على يديك سبحانك.
ويواصل حضرة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام شرح الآية مؤكداً هذه الحقيقة:
“إنَّ إبراهيم طلبَ الارتقاء في الإيمان وَلَمْ يُنكر، وَلَمْ يقترح أيضاً شيئاً بل سأل كيفية إحياء الموتى وفوّض الأمر إلى الله تعالى وَلَمْ يقل: أرِني إحياء الموتى عملياً، أو افعَلْ كذا وكذا. وما ردّ به اللهُ عليه هو أيضاً عجيب ولطيف للغاية. لقد قال الله تعالى: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}. ومِن الخطأ القول بأنه طُلب منه أن يذبحها لأنه لم ترِد كلمة الذبح بل وردت “صُرهن إليك”، كما يربّي النَّاسُ السماني أو البلابل مثلاً ويروضونها معهم فتسمع صوت مربيها وتأتي إليه عندما يناديها. كذلك لَمْ ينكر إبراهيم إحياء الموتى بل أراد أن يرى كيف يسمع الموتى صوت ربهم. وفهم من ذلك أنَّ كُلّ شيء خاضعٌ لله ويطيعه من حيث طبيعته وفطرته.” (الحكم، مجلد7، رقم 8، عدد28/ 2/1903م، ص3)
فلا وجود لتقطيع أو فرم الطيور إلى قطع لحم ووضعها على الجبال كما تقول بعض التفاسير بل وضْع أجزاء من الأربعة أي طير واحد من الأربعة في مكان على حدة. ويواصل عَلَيهِ السَلام قائلاً:
“السؤال: ما الذي قصدَ إبراهيمُ عليه السلام من قوله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} البقرة: 261؟ الجواب: إنما القصد الإلهي من ذلك الذي ينبغي أن يُعَدّ سرًاً إلهيّاً، أنّ كُلّ شيء يسمع نداءه. فَلَمْ يشكّ إبراهيمُ عليه السلام قطّ في إحياء الموتى، فنحن نشاهد كُلّ يوم ولادة الحيوانات من الماء الآسن والأغذية العفنة. أفلا يكون الولد الذي يولَدُ في البطن ميتًا أول الأمر؟ إذن فالذي ينُكر الوقائع أحمقٌ جدًّا. أما إبراهيم عليه السلام فكان يريد أن يطّلع على السرّ الحقيقي، فقال الله سبحانه وتعالى إنَّ كُلّ شيء يسمع ندائي. فمثلما تندفع إليك الطيور بسماع ندائك، كذلك كُلّ شيء يسمع ندائي ويندفع إليَّ فوراً، حتى إنَّ الأدوية والأغذية التي تدخل بطن الإنسان وكلّ ذرة تسمع ندائي، فهنا أراد الله سبحانه وتعالى أن يؤكد الإيمان والمعرفة. ومن هنا يتبين أنَّ للمخلوق انجذاباً لطيفاً إلى الخالق.” (الملفوظات، المجلد 5)
ففي المقتبس الأول فنَّد المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام مسألة الذبح للطيور بالإضافة للشرح الجميل، وفي الثانی وضّح عَلَيهِ السَلام الحقیقة أيضاً، ومن هذه الأصول جاء تفسير الخليفة الثاني المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقد شرحَ المُصْلِحُ المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هذا الموضوع بكلِّ روعة كما يلي:
“كان إبراهيم ؑ مؤمناً بأن اللهَ قادرٌ على إحياء الموتى، ولكنه كان يريد أن يزول اضطرابه ويطمئن أنَّ اللهَ سوف يتجلّى بقدرة الإحياء على قومه، ويحييهم مَرّةً أخرى من فضله. فقال الله له: خذ أربعةً من الطير، وعامِلْها بتودّد حتى تألفك، ثم ضعْ جزءاً منها على كل جبل، ثم ادعها فتسرع إليك. واعلم أن الله غالب وذو حكمة.” (التفسير الكبير، سورة البقرة)
فهو كما قال المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام دعاء لله تعالى أن يريه كيف يمكنه أن يُحيي موتى القلوب من الناس، فهذه هي مهمّة الأنبياء ؑ. ثم يبيِّنُ المُصْلِحُ المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ المغزى من هذا المثال التعليمي للطيور الأربعة بأنه فترات أربعة ستأتي على أربعة أنبياء من أولاد إبراهيم عَلَيهِ السَلام حتى تكتمل عملية التربية الروحية للناس وهي التي تشمل بني إسرائيل بالرؤوس الثلاثة لأسباطها الإثني عشر وبني إسماعيل عليهم السَلام:
“لقد دعا إبراهيمُ: يا رَبَّ، لقد عهدتَ إليَّ بمهمّة إحياء الموتى، فحقِّق لي هذه المهمة، وأرِني كيف تنفخ الروح في قومي. لقد أصبحتُ شيخاً كبيراً، والمهمة ضخمة. فقال اللهُ: ما دُمنا قد وعدناك فلسوف يتحقّق هذا الوعد. قال إبراهيمُ: أعلمُ أنَّ هذا سوف يتحقق، ولكن أسألك على سبيل الاطمئنان، كيف تتغير هذه الأحوال غير المواتية؟ قال اللهُ: عليك بتربية أربعة من أولادك، ليلبّوا نداءك، ويكملوا مهمتك من إحياء القوم. وهؤلاء الطيور الأربعة الروحانيون هم: إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف عليهم السلام. لقد تمّت تربية اثنين منهم على يد إبراهيم مباشرة، وتربية اثنين بطريق غير مباشر، والمراد من وضعهم على الجبل أن يربيهم في مستوى رفيع. وفي هذا أيضاً إشارة إلى أنهم ذوو درجات عالية، ويبلغون الذُّرى في الروحانية. والمراد من وضع كل واحد منهم على جبل منفصل .. أن هذا الإحياء لأمته سوف يتم على فترات أربعة منفصلة، وبذلك كشف الله له صورة للإحياء القومي الذي كان سيتم قريباً من بعده. كما أشير فيه أيضا إلى أربعة أدوار من الرقي تأتي على قوم إبراهيم ؑ على المدى البعيد.” (التفسير الكبير)
وهكذا يتجلّى جمال القُرآن الكَرِيم على يد المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام وابنه وخليفته المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في تصحيح المفاهيم ورفع شأن المسلمين.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
شكرا جزيلا شكرا جزيلا
شكر ا جزيلا شكرا جزيلا