يقول المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام عن علاقة الإيمان بحسن الظن:

الثواب كله يترتب على الإيمان. والمراد من الإيمان هو ما كان في حجب الغيب ويُقبَل بناء على القرائن المرجحة. بمعنى أن يتأكّد المرءُ أن أوجه الصدق غالبة على أوجه الكذب، وأن القرائن الموجودة على كون ذلك الشخص صادقا أكثر بكثير من كونه كاذبا. هذا هو حد الإيمان، ولكن الذي يطلب الآيات أكثر من هذا الحد فهو فاسق عند الله، وبحقه يقول الله جل شأنه في القرآن الكريم بأنه لن ينفعه إيمانه بعد رؤية الآية. يمكن للمرء أن يفهم بكل سهولة وبأدنى تدبر لماذا ينال الإنسان رضا الله تعالى نتيجة الإيمان؟ السبب في ذلك أن الأمور التي نقبلها إيمانا لا تكون مكشوفة علينا من كل الوجوه، فمثلا إن الإنسان يؤمن بالله تعالى دون أن يراه، ويؤمن بالملائكة ولم يرهم أيضا، ويؤمن بالجنة والنار مع أنهما غائبتان عن الأنظار، فيؤمن نتيجة حسن الظن فقط فيُعَدّ صادقا عند الله، وصدقه هذا يكون سببا لنجاته. وإلا من الواضح أن الجنة والنار والملائكة ليسوا إلا خلقا من خلق الله فما علاقة الإيمان بها بالنجاة؟ فإذا كان هناك شيء موجودا في الحقيقة ووجوده ظاهر وبديهي ثم نقرّ بوجوده فأيّ أجرٍ نستحقه نتيجة الاعتراف بوجوده؟ فمثلا لو قلنا بأننا نؤمن بأن الشمس موجودة ونؤمن بأن الأرض والقمر أيضا موجودان ونؤمن أيضا بأن الحمير والأحصنة والبغال والثيران وأنواع الطيور موجودة في العالم، فهل نتوقع ثوابا نتيجة هذا الإيمان؟ لماذا نُعَدّ عند الله مؤمنين ونستحق ثوابا عندما نؤمن بالملائكة، وعندما نؤمن بوجود الحيوانات كلها التي نراها بأم أعيننا على الأرض لا ننال مثقال ذرة من الثواب مع أن الملائكة والأشياء الأخرى أيضا خلق الله؟ فالسبب في ذلك أن الملائكة في حجب الغيب أما الأشياء الأخرى كلها فنعلمها على وجه اليقين. ولهذا السبب لن يُقبل الإيمان ممن يؤمن يوم القيامة.” (مرآة كمالات الإسلام)

والواقع أن سوء الظن لا يبعد الإنسان من الإيمان فحسب، بل هو جنون أو مقدِّمة الجنون، فالذي يستولي عليه سوء الظن لا شك بأنه سيفقد عقله ويدمِّر حياته كلها قبل أن يدمِّر إيمانه. يقول المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام حول ذلك:

إن حسن الظن قوة طبيعية أُودعت فطرة الإنسان، وإن استخدامها ميزة طبعية في الإنسان ما لم يكن هناك سبب جوهري لسوء الظن. ولو عطّل أحد هذه القوة دونما سبب واتخذ من سوء الظن عادة له لسُمِّي مجنونا أو أسير الأوهام أو مسلوب الحواس. ومَثَله كمثل الذي لا يأكل الحلوى أو الخبز وغيرهما من السوق متوهّما أن الخبازين أو صُنّاعها قد دسّوا السمّ فيها، أو كالذي يشك في حالة السفر بكلِّ مَن يدلّه على الطريق زاعما أنه قد يخدعه في ذلك، أو يخاف الحلاقَ خشية أن يقتله بموسه. فكل هذه الأفكار إنما هي مقدمات الجنون والهلوسة. عندما يكون أحد على وشك الإصابة بالجنون تنشأ أولا في قلبه أفكار فاسدة مثلها، ثم يجنّ جنونه رويدا رويدا .. فثبت من ذلك أن إساءة الظن دون سبب معقول شعبة من شعب الجنون، وعلى كل عاقل فطين أن يجتنبه في كل الأحوال. والحكمة في إيداع الله تعالى قوة حسن الظن في فطرة الإنسان هي أن الصدق والسداد أيضا هي فعلا قوة فطرية في بني آدم، فلا يريد الإنسان أن يكذب ما لم يُكرِهه قاهرٌ، ولا يجيز لنفسه ارتكاب أيّ سيئةٍ أخرى. ولو لم يُعطَ الإنسان قوة حسن الظن لضاعت جميع المنافع التي ينالها الناس بعضهم من بعض بقوة الصدق والسداد التي هي عماد مهمات التمدّن والتعايش، وتعتمد عليها إدارة البيوت والبلاد، ولحرِم الناس جميعا من الفوائد التي تترتب على استخدام القوة المذكورة. فمثلا؛ من بركات حسن الظن أن الأولاد الصغار يتعلمون الكلام والحديث بسهولة ويعرفون آباءهم. ولو أساؤوا الظن لما تعلّموا شيئا، ولقالوا في نفوسهم: لعل معلّمينا يقصدون من وراء ذلك شيئا آخر. فلو كانوا كذلك لظلوا بُكمًا ظانين ظن السوء، ولشكّوا في أمر آبائهم أيضا، أهُم آباؤهم فعلا أم لا” (البراهين الأحمدية)

والواقع أن سوء الظن لا يدل على فساد العقل فحسب بل يؤدي أيضا إلى فساد القلب. فالذي يسيء الظن عموما يكون قلبه فاسدا جدا، بل يكون مستعدا لارتكاب كل ما يشك بأن الآخرين فعلوه أو سيفعلونه أو يكون قد ارتكبه فعلا، لذا يتوقع منهم السوء لأنه يراه ممكنا ومقبولا بالنسبة له. أما المؤمنون فلا ينجرُّون وراء سوء الظن، بل ينظرون في أنفسهم فيعرفون أن غيرهم ممن هو خير منهم لا يمكن أن يقوم بما يأنفونه هم بأنفسهم ولا يمكن أن يقوموا به. لذلك قال تعالى عن حال المؤمنين عند سماعهم لحادثة الإفك:

{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ }
(النور 13)

فكان حسن ظنهم كافيا وحده ليبرئهم وينجيهم من فتنة الإفك.

وأخيرا، يقول المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام مبينا أن المبايع لا يمكن أن يكون مبايعا حقيقيا وينجو إلا إذا تبرأ كليا من سوء الظن:

ولكن ليس المراد من البيعة البيعة باللسان فقط مع بقاء القلب غافلا بل معرضا عنها.. بل معنى البيعة هو البيع. فأقول صدقا وحقا بأن الذي لا يبيع حياته وماله وشرفه في الحقيقة في هذا السبيل لا يدخل البيعة عند الله. بل أرى أن هناك كثيرا ممن بايعوا ظاهريا ولكن لم تكتمل فيهم عاطفة حسن الظن، فيتعثّرون كطفل ضعيف عند كل ابتلاء. وهناك بعض من سيئي الحظ الذين يتأثرون بكلام الأشرار فورا ويسعون إلى سوء الظن سعيَ الكلب إلى الجيفة. فأنّى لي أن أقول بأنهم داخلون في البيعة حقيقةً؟! إنني أُعطى بين حين وآخر علمًا بهؤلاء ولكن لا يؤذَن لي أن أخبرهم بذلك. كم من المحتقَرين سيعظَّمون، وكم من العظماء سيُحقَّرون! فهذا مقام خوف وعبرة.” (البراهين الأحمدية، الجزء الخامس)

وهذا ما كنا ولا زلنا نراه دوما؛ أن محسني الظن كانوا دائما يتقدمون في الإيمان، بينما سيئو الظن دائما كانوا يسقطون ويستحوذ عليهم الشيطان فيخسرون الدنيا والآخرة.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المحسنين في كل شيء دوما، آمين.

About الأستاذ تميم أبو دقة

من مواليد عمَّان، الأردن سنة 1968 بدأ بتعلَّم القرآن الكريم وحفظ بعض سوره وفي تعليمه الديني في سنٍّ مبكرة وبدأ بتعليم القرآن في المساجد في الثانية عشرة من عمره. انضم إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية عام 1987 قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر وكان من أوائل الأحمديين العرب. يعمل في خدمة الجماعة في المكتب العربي المركزي وفي برامج القناة الإسلامية الأحمدية وفي خدمات التربية والتعليم لأفراد الجماعة وفي العديد من الأنشطة المركزية. أوفده الخليفة الخامس نصره الله تعالى ممثلا ومندوبا لحضرته إلى عدد من الدول، وكرَّمه الخليفة نصره الله بلقب “عالِم” في العديد من المناسبات. عضو مؤسس ومعدّ في فريق البرنامج الشهير “الحوار المباشر” الذي انطلق رسميا عام 2006 والذي دافع عن الإسلام ضد الهجمة المسيحية التي انطلقت على بعض القنوات في بداية الألفية وأخمدها، والذي أسهم في تعريف الجماعة الإسلامية الأحمدية إلى العالم العربي، والذي يبث الآن مترجما ترجمة فورية إلى العديد من اللغات. وهذا البرنامج أصبح نموذجا للعديد من البرامج المشابهة في اللغات الأخرى. شارك ويشارك في العديد من البرامج الأخرى وخاصة المباشرة في اللغة العربية وفي بعض البرامج باللغة الإنجليزية. عضو هيئة التحرير لمجلة “ريفيو أوف ريلجنز” الإنجليزية العريقة التي بدأ إصدارها في زمن الإمام المهدي والمسيح الموعود عام 1902م.

View all posts by الأستاذ تميم أبو دقة