من الظواهر التي انتشرت بكثرة مؤخرا، وخاصة بتأثير الإعلام، ظاهرة التائبين الذين يعلنون توبتهم، ثم يتصدَّرون الأحداث ويقدِّمون أنفسهم، بل يقدِّمهم السذَّج أيضا، ويصبحون دعاة ووعاظا وأئمة، بعد أن كانوا متورطين في السيئات وكانوا أئمة الفسق ودعاته.

من هؤلاء كان عدد من الراقصات، والمغنيات والممثلات اللاتي تورطن في ما هو أكثر من مجرد التمثيل والغناء، وكذلك الممثلون والمطربون باختلاف درجة تورطهم في الفسق.

ولا عيب في التوبة والارتجاع عن الباطل والفسق، بل هو أمر محمود بلا شك، وعلم النيات عند الله تعالى، ولكن الذي لا شك فيه هو أن الذي يميل إلى التقدُّم والوعظ والظهور بمظهر البطل والقدوة والواعظ فهو أبعد الناس عن التوبة الحقيقية، التي من أهم مظاهرها هو أن يتذكَّر الإنسان سيئاته ويبكي على خطيئته ويكثر من الاستغفار وطلب العفو من الله تعالى ويبتعد بشدة عما كان متورطا به، بل يميل إلى عدم ذكره أو الاقتراب منه. أما التظاهر وحبِّ الظهور والرغبة في تصدُّر المشهد فيدل على أن صاحبه لم يحظ بالتوبة أصلا، ولم يدرك مقدار الكارثة التي كان فيها، والتي يجب أن يقضي بقية حياته باكيا عليها مستغفرا منزويا.

وفي جماعتنا، يظهر بين فترة وأخرى، من مختلف الشعوب، مرتدون غالبيتهم قد طردوا مسبقا بسبب جرائمهم وسوء أخلاقهم، من يدّعون أنهم تابوا وتبرأوا من هذه الجماعة الكافرة! ويريدون أن يتصدروا المشهد ويحظوا بجمهور عريض من معارضي الجماعة، ويقدِّمون أنفسهم كوعاظ وخبراء ممن يعرفون الخبايا، ويهاجمون الجماعة ورموزها، ويُظهرون أنها هي الشر بعينه. وهؤلاء هم فئة أيضا من هؤلاء التائبين في هذا الزمان، وهذا يدل على أن الجماعة بالفعل متصدِّرة للمشهد الديني، ويدرك هؤلاء أن الشهرة مرتبطة إما بها أو بمعارضتها، فيرون في معارضة الجماعة تجارة يظنون أنها رائجة على حساب السذج وسيئي السلوك الذين يحبون محاربة الخير والحق والإيمان من أمثالهم، ممن يحترقون حسدا وكمدا وغيظا من الجماعة لأنهم بعيدون عن الطهارة والحق والأخلاق.

وبالمقارنة بين فئة التائبين من الراقصات والمطربين والمطربات والممثلين والممثلات وبين هؤلاء المرتدين، سنجد أن تلك الفئة أكثر شرفا وأقرب إلى الصدق من هؤلاء من المرتدين. فعلى الأقل فإن هؤلاء يكونون قد انسحبوا إلى حدٍّ كبير من السيئات وتركوها ولكن خطيئتهم هي حب الظهور والاتجار بهذه التوبة عند أكثرهم، علما أن منهم من تابوا وانزووا وندموا على تاريخهم السابق. أما المرتدون، فهؤلاء قد تبرأوا من الأخلاق والفضائل كلها بعد أن كانوا مضطرين للالتزام بها في جماعتنا –بسبب تعليمها ورقابتها على الأخلاق والسلوك القويم – واستخدموا السب والشتم والتنابز بالألقاب وأخسَّ الأساليب وأكثرها انحطاطا لمهاجمة الجماعة ومحاربتها من الاتهامات بالباطل والبهتانات بما يندى له الجبين. بينما لو كانوا صادقين، وكانوا يؤمنون حقا أنهم انتقلوا من الباطل إلى الحق، لقضوا ما تبقى من حياتهم نادمين مستغفرين منزويين يسألون الله تعالى العفو ويلومون أنفسهم لأنهم قد سقطوا في هذا الباطل.

ومن النقاط التي تسجَّل لفئة الفنانين التائبين هو أنهم يدعون الناس إلى الفضائل وإلى الالتزام الديني ويدعونهم إلى ترك السيئات والابتعاد عنها، ويذكرون السكينة والطمأنينة التي يحظون بها بعد أن تركوا السيئات، ولا تجدهم يدعون مثلا إلى قتل زملائهم السابقين وتدمير الاستوديوهات وإعدام الراقصات وإغلاق القنوات وملاحقة المنتجين وغير ذلك – مع أن ضرر هذه السيئات التي تخلصوا هم منها واضح وجلي على المجتمع بكامله- بل تجدهم يحتفظون بعلاقات طيبة مع زملائهم السابقين، وتجدهم يحاولون هدايتهم ويدعون لهم. أما المرتدون فتجدهم على النقيض لا همَّ لهم ولا رغبة سوى اجتثاث الجماعة والتحريض ضدها وضدَّ أفرادها والتضييق عليها، ولا يفعلون شيئا سوى انتقاد الجماعة وإظهار سيئاتها المزعومة ومهاجمة رموزها وزملائهم السابقين واتهامهم بأشنع التهم بالباطل والبهتان، بدعوى وبحجة أن هذه الجماعة هي شر مستطير لا بد من اجتثاثه وحماية الناس منه!

والواقع أن هذه الحجة داحضة وباطلة، لأن المعتقد الخاطئ جدلا ليس مشكلة بحدِّ ذاته، ولم يكلِّف الله أحدا بالتفتيش على معتقدات الناس ومحاسبتهم عليها، بل الذي يحاسب عليه القانون والعرف وتنبذه الأخلاق والفطرة الإنسانية الطيبة هو الجرائم المتنوعة والانحطاط الأخلاقي والهجمية. فلا يحق لأحد أن يحاسب أحدا على دينه أو اعتقاده، ولكن لا يحق لدين أو متعقد أو فرقة أو مذهب الترويج للجرائم أو ممارستها أو للانحطاط الأخلاقي أو للهجمية والقسوة، وهنا لا بد أن يتدخل القانون والمجتمع لإيقاف هذه السيئات ضمن صلاحياته ونطاقه. فبناء على ذلك، ما هي السيئات التي تنشرها الجماعة وما هي الجرائم التي تدعو إليها أو يمارسها أفرادها؟ وهل هناك جماعة أخرى في الإسلام تماثل الأحمدية في الالتزام بالقانون والمسالمة وحبِّ الأمن والابتعاد عن الجرائم والأخلاق والالتزام بها؟ أما الادعاء بالضلال في المعتقدات أو الادعاء بأنها تمارس الكذب والتزييف فهذا لو ثبت بالفعل فلا يحق لأحد أن يتدخل، لأن كل دين أو معتقد في الواقع يعتبر عمليا غيره ضالا ويمارس الكذب بصورة ما أو يتبع الكذب.

باختصار، التائبون هؤلاء ليسوا سوى صرعة تتناسب مع صرعة عامة نشرتها وسائل الإعلام، ولكن للأسف تبين بأن المرتدين هم شرار الناس ودعاة فتنة واضطراب، الذين كانوا متورطين في السيئات، وأن فئة الفنانين التائبين أصدق منهم وأقرب منهم إلى الأخلاق والإنسانية. وفي الحالتين، لا ينبغي أن يتصدر المشهد أي من التائبين، بل يجب على التائب الانزواء وتذكُّر خطيئته والبكاء عليها لو كان صادقا، ويترك الدعوة والوعظ لغيره.

About الأستاذ تميم أبو دقة

من مواليد عمَّان، الأردن سنة 1968 بدأ بتعلَّم القرآن الكريم وحفظ بعض سوره وفي تعليمه الديني في سنٍّ مبكرة وبدأ بتعليم القرآن في المساجد في الثانية عشرة من عمره. انضم إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية عام 1987 قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر وكان من أوائل الأحمديين العرب. يعمل في خدمة الجماعة في المكتب العربي المركزي وفي برامج القناة الإسلامية الأحمدية وفي خدمات التربية والتعليم لأفراد الجماعة وفي العديد من الأنشطة المركزية. أوفده الخليفة الخامس نصره الله تعالى ممثلا ومندوبا لحضرته إلى عدد من الدول، وكرَّمه الخليفة نصره الله بلقب “عالِم” في العديد من المناسبات. عضو مؤسس ومعدّ في فريق البرنامج الشهير “الحوار المباشر” الذي انطلق رسميا عام 2006 والذي دافع عن الإسلام ضد الهجمة المسيحية التي انطلقت على بعض القنوات في بداية الألفية وأخمدها، والذي أسهم في تعريف الجماعة الإسلامية الأحمدية إلى العالم العربي، والذي يبث الآن مترجما ترجمة فورية إلى العديد من اللغات. وهذا البرنامج أصبح نموذجا للعديد من البرامج المشابهة في اللغات الأخرى. شارك ويشارك في العديد من البرامج الأخرى وخاصة المباشرة في اللغة العربية وفي بعض البرامج باللغة الإنجليزية. عضو هيئة التحرير لمجلة “ريفيو أوف ريلجنز” الإنجليزية العريقة التي بدأ إصدارها في زمن الإمام المهدي والمسيح الموعود عام 1902م.

View all posts by الأستاذ تميم أبو دقة