أقدم لكم ملخصاً له كما يلي:

جرى هذا الحوار الشيق في قاعة “وايتهول” بلندن وكان من تقديم أستاذ القانون في جامعة لندن السيد “جوناثان بتروورث” استضاف فيه كلاً من البروفيسور “ريموند تاليس” (الفيلسوف الإنكليزي الشهير والعالم المعروف في مجال النقد الثقافي والروائي والمفكر ذي المؤلفات المهمة في مجال الإنسانية والفلسفة الفكرية وتحليلها والذي يعمل أستاذاً في جامعة مانشستر وله شهادات عليا عديدة في مختلف المجالات العلمية والثقافية) وبين السيد “جهانغير خان” (رئيس المكتب الفرنسي وباحث مقارنة الأديان في الجماعة الإسلامية الأحمدية).

موضوع الحوار هو:

هل يستطيع “فكر الإنسانية” (الذي يقول بإمكانية التعايش الإنساني بسلام بدون الحاجة لوجود الله والدين) هل يستطيع أن يحل محل الدين؟

وقد دار الحوار باختصار من طرف البروفيسور تاليس مركِّزاً على إمكانية العيش بسلام وتآلف دون الحاجة لله والدين والحياة الآخرة، وضرب أمثلة على اختلاف فكر الإنسانية عن الفكر الإلحادي والحركات التابعة له والذي يركز على محو الدين والقضاء عَلَيهِ بأنها أي الإنسانية لا تهدف إلى ذلك بل تحترم اختيار الناس جميعا ولا تشبه فكر اللادينية من حيث الحيرة حول الإله ومدى سيطرته وتدخله في حياة الإنسان بأنها أي الإنسانية تنفي وجود الإله من الأصل ولكنها لا تمنع غيرها من الاعتقاد بما يشاء ولا تسعى إلى إلغاء الآخر بأي شكل بل يمكن أن تتعاون مع المتدينين من أجل السَلام، وضرب البروفيسور أمثلة بعض الدول الأوربية كالسويد والدنمارك وغيرها التي تعيش بدون الله والدين بكل سعادة وسلام وتكاد الجريمة تقترب إلى الصفر في تلك البلاد فيما تعيش الدول المتدينة كالسعودية وباكستان وإيران وغيرها في انتهاك واضح لحقوق الإنسان والمرأة واضطراب سياسي صريح وصراعات سلطوية وظلم وتعاسة ! ثم خلص إلى أن الإنسانية كحركة وفكر لا تسعى للظلم بل تترك الآخرين أحراراً في اختيارهم لا تتدخل في شؤونهم ولا تفرض الخير ولا الشر وأن عدم اتخاذ الإنسان إلها كقدوة من شأنه أن يحرر الإنسان من التقليد الأعمى والانغلاق والكساد الفكري والخلاصة أن الإنسان حر يفعل ما يشاء بدون قيود من السماء.

 

كان جواب السيد “جهانغير خان” من طرف الجماعة الإسلامية الأحمدية بأن الدين هو أسلوب حياة وهو عبارة عن فكرة يؤمن بها الإنسان مهما اختلف هذا الدين ومنهجه، وهنا يوجد اتفاق كبير بين الإسلام وبين فكر الإنسانية مؤكداً على أن الإنسانية -أي التعايش بسلام وعدم فرض الرأي واحترام الآخر- هي من جوهر تعاليم الإسلام في الحقيقة، وهكذا فالإسلام يقدم كل ذلك وأكثر ولكن في إطار الاقتداء والتخلق بصفات الله تعالى الكاملة والتي تشرحها بإعجاز سورة الفاتحة في القرآن الكريم، وقد قدم الله تعالى على ذلك دليلاً حياً لتحقيق هذا المستوى الراقي من الأخلاق الإنسانية وذلك في شخص طبَّق ذلك التعليم الرباني في حياته بشكل عظيم حتى صار قدوة للجميع وهو النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي حوّل الملايين من أهل البادية الذين كانوا يعيشون على الانتقام والقتل والضلال والتخلف بكافة صوره حوَّلهم إلى أناس في غاية الجمال الأخلاقي والمعرفي والإنساني وضرب الأستاذ جهانغير أمثلة على ذلك من حياة النبي ﷺ وصحابته  ؓ.

فالقدوة هي في الحقيقة مسعى وحاجة إنسانية فطرية لا يمكن إلغائها والتنكر لها بل حتى الملحد نفسه يؤمن بالله بشكل أو بآخر، فلا يوجد اليوم من لا يضع أمامه هدفاً في الحياة يريد الوصول إليه ويسير وفق خطى مرسومة للنجاح رسمها أناس قبله وصلوا إلى قمة النجاح العلمي والإنساني ومنهم من يضع عالماً معيناً كقدوة للوصول إلى نجاحه، كما أن أكثر الشباب بل وحتى الكبار يقلدون نجوم الفن والرياضة والعلم في أساليب حياتهم وطريقة كلامهم وتسريحات شعورهم وملابسهم والخ. فالملحد هنا قد اتخذ لنفسه إلهاً دون أن يدرك ذلك في سريرته.

وهذا هو مبدأ سورة الفاتحة التي تبدأ بسم الله الرحمن الرحيم وحمْد رب العالمين أي أن هنالك عوالماً أخرى غير عالمنا هذا وأن نبدأ حياتنا كلها مقتدين بإلهنا الرحمن الرحيم الذي هو الرحمة بكامل صورها ووجوهها ومعانيها، ثم أخذ السيد جهانغير يفصّل في تفسير سورة الفاتحة بطريقة تخلب الألباب وتتكامل مع الإنسانية وتزيد عليها في التقدم بالأخلاق التي لا تتوقف كما يقول البروفيسور على ترك الآخرين أحراراً فقط بل تسعى لتحقيق العدل بأرقى من ذلك حيث أن هنالك درجة الإحسان وهو العطاء والتضحية من أجل الآخرين وحرياتهم الدينية والفكرية، وأخيراً درجة إيتاء ذي القربى التي تعني التضحية بكل شيء ومن بين ذلك التضحية بالنفس للآخرين ولكن بدون أي مبادرة من الآخر أو حتى انتظار مقابل منه كما تعطي الأم لوليدها وذلك لتحقيق العدل الأقصى على الأرض.

أما عن الدول الأوربية فهي تعاني وفق احصائيات ثابتة من حالات كبرى كالإكتئاب والانتحار والمخدرات والبطالة إلى درجة خطيرة، ولكن على فرض وجود السعادة المطلقة في الدول الأوربية تلك فهي ليست بسبب كونها منكرة لله ولكن بسبب القوانين الناجحة التي أدت إلى ذلك وليس بسبب إنكار وجود الله بكل تأكيد وهكذا دواليك السعودية وغيرها فهي لا تنتهك الحقوق بسبب وجود الله ولكنها تفعل بسبب الأطماع الإنسانية فقط. فكل دولة في العالم اليوم لا تعيش بدون قوانين، ويشعر الإنسان بشكل عام بأنه مراقب من قبل جهات حكومية عبر كاميرات مراقبة في الطريق والأسواق فيؤدي ذلك به للقيام بفعل الصحيح وتجنب المخالفة وذلك ليقينه أن هنالك من يراقبه ويحاسبه، وهكذا الله تعالى يراقب الإنسان في كل مكان فيشعر المؤمن بوجود الله تعالى حوله فيقوم بفعل الصواب ومحاسبة النفس مما ينعكس على أخلاقه والتزامه بالولاء لبلده وإنسانيته.

أما العلم والمعرفة فالإسلام يحث في كافة الآيات على التفكر في الوجود والكون من حولنا وكيف بدأ الخلق ونشأت الحياة والتدبر فيها وتحليلها وبذلك يتكامل الدين مع العلم ولا يصطدم معه على الإطلاق ومثاله بروز علماء مسلمين كابن الهيثم وغيره والذين يُعتَبرون هم أصحاب العلم الذي ندرسه اليوم ولم يكن لإنكار وجود الله في ذلك من أثر بل العكس هو الصحيح. ثم خلص الأستاذ “جهانغير خان” إلى أن كل ما قدمه في هذه المحاورة هو مجرد تفسير سريع ومختصر لسورة الفاتحة التي يبدأ بها القرآن الكريم وهو من تفسير حضرة مرزا غلام أحمد المسيح الموعود مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية عَلَيهِ السَلام.

وقد برهن الأستاذ خان على وجود الله تعالى من خلال هذه السورة بشكل لطيف وقوي في آن واحد من خلال تقديمه تفسير المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام بالإضافة إلى الأدلة الحية على وجود الله تعالى عبر الرؤى والإلهامات التي يتلقاها جميع من جاء إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية ورأى المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام في منامه دون أن يعلم من يكون أو حتى رؤية أي صورة له وفي مختلف أنحاء العالم عدى الكلمات الواضحة التي يراها الأحمديون من الله تعالى وتلعب دوراً مهماً في معرفة الحق وأن غير الأحمديين أيضاً يتلقون مثل ذلك ولكن ليس بشكل وموضوع موحّد كالذي في الجماعة الإسلامية الأحمدية حيث لا يمكن أن يتنبأ الإنسان بشيء ثم يحدث في الوقت المحدد ولا أن يرى جمع من الناس شخصاً في المنام لم يروه من قبل ثم يكتشفون فيما بعد بأنه هو مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية.

ثم دعى الأستاذ جهانغير البروفيسور وجميع الحاضرين لتجربة التحدث مع الله تعالى وتلقي الإلهامات والرؤى من خلال الانضمام والتعايش مع الجماعة الإسلامية الأحمدية لفترة وجيزة ولمس ذلك بأنفسهم بدون أدنى شك.

وقد ضرب الأستاذ جهانغير مثالاً علمياً يبين كيف يؤثر الإيمان بالله تعالى على العلماء أنفسهم حين يقف الجميع بدون تفسير معقول عند حدوث ظاهرة وراثية معينة ونادرة، فهنا يكون موقف العالم المسلم هو البحث والإصرار على الوصول إلى الهدف وذلك ليقينه بأن الخالق لا يصنع شيئا بدون معنى ولا هدف فيكون ذلك حافزاً للمسلم لمواصلة البحث بأمل كبير ودافع حقيقي للحصول على نتيجة إيجابية، بينما الملحد أو المنكر لله سوف يعتبر ذلك مجرد تشوه جيني أو موت خلوي فيُنهي أي سبيل للتحليل والدراسة الإيجابية وهذا القرار السلبي راجع لعدم وجود الله.

وهذا غيض من فيض بالإضافة لكون المسلم ينظر إلى الحياة بأنها معبر أو طريق متكامل مع الآخرة يجعل منه في سباق مع الزمن لتحقيق كل المهمات الملقاة على عاتقه لخدمة الإنسانية ومواساتها بكل ما يستطيع لكي يصل كطفل سليم إلى الحياة الآخرة فينال الرضوان والحياة الطيبة بينما الملحد والمنكر لله لن يعيش على أمل وقد يدفعه ذلك لليأس المبكر وهو الذي يحصل بالفعل في العالم المادي وبشكل كبير.

كما أجاب الأستاذ جهانغير على سؤال الجمهور حول الاعتراف بالديانات الأخرى والعذاب في نار جهنم حيث بيّن وجهة نظر الإسلام عند الجماعة الإسلامية الأحمدية حول كون جميع الديانات صحيحة في أصلها وقد تغيرت فيما بعد على يد الأتباع لا أكثر وهي مع ذلك تلتقي مع بعضها في أماكن أساسية ومهمة وان جهنم ليست دائمة بل هي مشفى لمعالجة الجنين الذي تشوه بسبب عدم صحة البيئة التي تربى عليها في الدنيا وهذا العلاج قد يكون قاسياً جداً للحصول على الشفاء التام ودخول النعيم الأبدي، وهذا كله يعطي الإنسان دافعاً قوياً للعيش والإبداع والتدبر وطلب العلوم والمعارف المختلفة وصب ذلك كله في بوتقة خدمة الإنسانية والبيئة من حولنا بأمل وسعادة.

نقدم لكم الحوار كاملا هنا:

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد

One Comment on “حوار بين الدين والإلحاد: هل يمكن للإنسانية أن تحل محل الدين”

Comments are closed.