يقول تعالى:
{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} (الإسراء 60)
مع الاحتفاظ طبعاً بالتفسير المعروف وهو أنَّ الآيات المخوفة لم يمنع نزولها الآن أي زمن نزول القُرآن الكَرِيم (إلا) أي أنَّ المانع هو تكذيب السابقين من الأقوام لهذه الآيات، لكننا نقدِّم تفسيرًاً ينسجم مع سياق الآيات وتأكيد القُرآن الكَرِيم على استمرار نزول الآيات المخوفة للعبرة والدرس ليعود الظالم عن ظلمه والغافلين عن غفلته، فتؤيده سياقات الموضوع في القُرآن الكَرِيم والسنَّة واللغة والواقع. هذا التفسير قدّمه حضرة المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وسنتناوله بعد بيان معنى الآية بسرعة وإيجاز.
المعنى
جاء قوله تعالى (وَمَا مَنَعَنَا) بمعنى أي لم يمنعنا، حيث (ما) للنفي، ثم (أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) أي لم يمنعنا تكذيب الأولين قبلكم أن نرسل بالآيات المخوفة، فجاءت أداة (إلا) للاستدراك بمعنى (لكن). يقول الدكتور سعيد الأفغاني في كتابه “الموجز في قواعد اللغة العربية ” ما يلي:
“هذا وقد تكون (إلا) أحياناً حرف استدراك بمعنى (لكن) تماماً، فلا تعمل، مثل: {ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى، إِلاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى}. فليست (تذكرة) مستثناة من (لتشقى)، وإنما الكلام استدراك و(تذكرةً) مفعول لأجله عامله محذوف والتقدير: (لكن أَنزلناه تذكرةً لمن يخشى).” أهـ
وقد جاء الاستدراك على تكذيب السابقين للآيات قبل أن يقول تعالى {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} أي أنَّ إرسال الآيات لم ينقطع بل هي للتخويف لعل الناس ترجع عن الكفر والشرك والفساد. ثم جاء بعد ذلك في الآية التالية مباشرة قوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ۚ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} أي أنَّ من هذه الآيات التخويفية المستمرة هو الرؤيا التي أراها اللهُ تعالى للنبي ﷺ في الإسراء والمعراج التي كانت فتنة أي اختباراً للناس، ولكنها لم تزدهم إلا طغياناً واستكبارا. فلم يمنعنا تكذيب الأولين للآيات التخويفية أن نرسلها الآن أيضاً لعلها تكون عبرة للغافلين والمكذّبين. وفي بيان ذلك يقول المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
“يقول الله تعالى هنا: يجب ألا يظنَّنَّ أهلُ أي زمن أنَّ ظهور المعجزات السماوية قد انقطع الآن. وهذا النصح موجَّهٌ إلى المسلمين خاصة، إِذْ كان هناك خطر أن يتغافلوا عن الله تعالى، فيُحرَموا من رؤية آياته المتجددة، فيظنوا أنَّ الآيات لا يمكن أن تظهر الآن. فنبّههم الله تعالى ألا تنتابهم مثل هذه الظنون، لأنه تعالى يُري آياتِه دائمًا، ليتجدد الإيمان في قلوب العباد.
وقد دلّل الله عز وجل على ظهور آياته دومًا بما يلي:
- غايةُ ما يمكن أن يُقال في تأييد انقطاع آيات الله هو: متى استفاد الأولون من هذه الآيات حتى ينتفع بها الناس الآن؟ والجواب أنه لو كانت هذه الحجة مقبولة لما ظهرت أيّةُ آية أبدًا من عند الله بعد بعث أول الأنبياء. ولكن الله تعالى لم يفعل ذلك، بل ما زال يرسل بالآيات رغم الإنكار المستمر لها من قبل أعداء الأنبياء. فلا يمكن أن تتوقف الآيات الإلهية من الظهور جرّاء إنكار المنكرين في أي زمن. لقد أظهر اللهُ الآياتِ في زمن آدم، وأيضًا في زمن نوح، كما أظهرها لأمة ثمود التي كانت بعدهما.
لقد خصَّ الله سبحانه وتعالى قومَ ثمود بالذكر هنا لأن هذا الشعب كان من العرب، وكانت آثارهم الباقية ماثلةً أمام العرب كلهم، سواء كانوا مشركين أو يهودًا أو نصارى، وكان بإمكان هذه الفئات كلها أن تأخذ العبرة من حالات قوم ثمود. - وساق الدليل الثاني قائلاً: إنَّ ظهور الآيات ضروري قبل إنزال العذاب، لكي يُنقَذ من العذاب مَن يمكن إنقاذه. وما دمنا ننبّئ بحلول العذاب الشديد في المستقبل بحيث لن تنجو أيةُ قرية في العالم من النوازل والبلايا، فيجب أنَّ يدرك المسلمون من ذلك أن لا بد عندها من ظهور الآيات السماوية أيضًا، لأن إنزال العذاب بدون إنذار وتخويف يتنافى مع سنتنا.” (التفسير الكبير)
فلن يمنعنا تكذيب المكذّبين سابقاً من إرسال الآيات باستمرار لعل الناس يتّقون.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ