الله يدير عجلة التاريخ
تتوالى الأحداث يوما بعد يوم مشيرة إلى مدى بؤس الوضع الذي بلغته أمة يُفترض بها أنها خير أمة أخرجت للناس في هذا الزمان، وكان آخر هذه المؤشرات ما انبعث من الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” من إعلانه نقل سفارة بلاده إلى القدس الشرقية، باعتبارها عاصمة أبدية لدولة الكيان الصهيوني على حد ادعائه. إن موقف ترامب هذا لا يدعونا إلى الاستغراب بتاتا، فإنه ليس الأول من نوعه، بل إنه يبدو تكرارا لانبعاث سابق منذ مائة سنة بالتمام والكمال، حين قدم “بلفور” وعده المشؤوم بتقديم أرض فلسطين لتكون دولة تجمع أشتات اليهود من كافة أرجاء العالم. إن إعلان ترامب 2017م لا يختلف بحال عن وعد بلفور 1917م، فكلاهما كانا نموذجا حرفيا لعطاء من لا يملك لمن لا يستحق، ولكن، أترانا نحن بدورنا نستحق؟! وإن كنا لانستحق، فلِمَ؟! وبِمَ يكون الاستحقاق؟! هذا ما سندور في فلكه عبر السطور القليلة الآتية.
كما ذكرنا، فإعلان ترامب، المشؤوم كسلفه، ليس في حد ذاته أمرا مستغربا، ولا يحق لنا اعتباره صفعة باغتتنا على حين غرة، لا سيما وأن محور الصراع الجغرافي كان حول الاستحواذ على مدينة القدس منذ تاريخ النكبة في 1948م، فهذه إذًا النتيجة الطبيعة لسلسلة التخاذلات المستمرة التي مرت بها الأمة، وما زالت تمر، ويبدو أنها لن تبرحها إلى حين. الشيء المستغرب والذي ينبغي علينا التوقف عنده مليًّا هو المناسبة الزمنية بين الحدثين، فالفترة الزمنية بينهما والمحدودة بقرن تام، ألا تدعونا بحق إلى شيء من التأمل؟!
وكما أن الله تعالى يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد للأمة أمر دينها، فيبدو أيضا أحيانا أنه يحرك عجلة الأحداث كل مائة سنة بشكل مختلف يثير في الإنسان الطبيعي الوازع لقبول ذلك المجدد والذي ربما يكون قد قوبل بشيء من التجاهل، ناهيك عن سوء الأدب، الأمر الذي استدعى التنبيه. إن ترافق الأحداث للفت أنظار العقلاء مشهد طالما تكرر ورصده الكثيرون، نذكر مثلا أن ما بين وفاة المسيح الموعود (عليه الصلاة والاسلام) 1908م ونكبة فلسطين 1948م أربعون عاما، وهي نفس المدة بين مغادرة المسيح الناصري (عليه السلام) أورشليم 33م وحرقها على يد تيتوس الروماني 73م.. هذا التماثل حتى في المدد الزمنية بين الأحداث المتماثلة ينبغي ألا نمر به مرور الكرام، ففيه تنبيه خطير. والله تعالى هو المحرك الأول لعجلة التاريخ، ومن سنته القديمة تكرار الأحداث المفصلية فيما بات يعرفه علماء التاريخ بـ “الحتمية التاريخية”، وكلما تأخر استيعاب الدرس التاريخي، اشتدت معه قسوة التكرار، وقد جاوز الغباء الروحي لدى غالبية الأمة المدى، بحيث تطلب الأمر التكرار والتذكير أكثر من مرة.
فلسطين والمؤشر الروحاني
من نعم الله تعالى على المؤمنين أن علمهم سننه الثابتة تاركا لهم الخيار ما بين السير عليها أو إهمالها، ومن ثم عليهم تحمل النتائج، ومن ضمن سننه تلك جَعْلُهُ تلك الأرض المقدسة مؤشرا فعالا يبين مستوى الأمة الروحاني. والأمر ليس مقصورا على هذه الأمة الخاتمة، بل شمل كل الأمم التي تواجدت في تلك البقعة خلال زمان خلا، فقد قرر عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء 106)، كما قرر سبحانه وتعالى على لسان نبيه موسى (عليه السلام): {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأَعراف 129). فأرض فلسطين إذًا كانت منذ القدم وستظل، إلى أن يشاء الله تعالى، مؤشرا على مستوى صلاح الأمة المعنية، أفلا يدعونا هذا الأمر إلى البكاء والعويل؟! إن واقع الحال شاهد عيان على فساد أغلب المسلمين وإفسادهم في الأرض، لهذا، ولهذا فقط، سُلبت منهم تلك الأرض التي جُعِلت للصالحين حصرا. إننا لا نعني من هذا القول صلاح الطرف الغاصب، معاذ الله، وإن كنا نرجو للطرفين الصلاح والإصلاح، وإنما نقول أنه في حال تنافُسِ سيئين، فالغلبة تكون لأحسن السيئين، وأحلى المُرَّين.
وعبر تاريخ أمة النبي الخاتم (صلى الله عليه وسلم) لم تكن هذه المرة الأولى التي تُسلب فيها الأرض المقدسة، ولكنها سلبت أول مرة عام 1099م، ولم تُسْتَعَدْ إلا بعد مرور قرابة القرن، على يد صلاح الدين الأيوبي، حينها يبدو أن الأمة أخذت تستعيد شيئا من عافيتها الروحانية، بما أهلها لحيازة الأرض المقدسة مجددا.
نكبة القدس الأخيرة لم تبدأ اليوم
جميع المشكلات صحية كانت أو سياسية أو اقتصادية أو غيرها، تبدأ في الوقوع بحدوث أسبابها، وبالنظر إلى نكبة فلسطين التي اعتاد المسلمون سلبها منهم قطعة تلو قطعة، حتى بلغ الوضع من سوئه أن سلب القلب أيضا مؤخرا، وعلى الرغم من أن مدينة القدس عمليا هي تحت السيطرة الصهيونية في الواقع، حتى لو لم ينعق الناعق بإعلانه في الكونجرس، غير أن ذلك النعيق أرى الأمة ما بلغته من ذلة، وأمام تلك الذلة آن لنا أن ننظر إلى الخلف، لنعرف فيم فرطنا حتى نعاقب بهذه العقوبة القاسية!
إن هكذا بلاء لا ينزل إلا عقابا على إثم تم اقترافه، وعلى قدر عِظَمِ الإثم يكون عِظَمُ البلاء، وقد أرسل الله تعالى إلى الأمة موعودها فأعرضت عنه، فكان بعض الوجع لازما لعيادة الطبيب.. قد أرسل الله تعالى مسيحه الموعود، فأدى الأمانة كما هو حقها، حتى لقي رفيقه الأعلى في مايو / آيار 1908م، ولكيلا يظن الظانون أن بوفاة المبكت على الخطيئة ينقضي وقت التبكيت، ما زالت الأمة تتجرع مرارة إعراضها عن المسيح الموعود حتى بعد وفاة حضرته (عليه الصلاة والسلام)، وقد كانت أقذع جرعات المرارة تلك يوم إعلان قرار التقسيم الغاشم عام 1948م، والذي كان بكل أسف بمباركة بعض المحسوبين على الأمة الإسلامية..
تزامن آخر عجيب
من الثابت تاريخيا أن أولى موجات الهجرات اليهودية إلى فلسطين بدأت عام 1882م، ولا يغيبن عن الذهن أنه نفس العام الذي خرج فيه كتاب “البراهين الأحمدية” إلى النور، ألا يقودنا هذا التزامن بين الحدثين إلى شيء من الاقتناع بالفكرة؟! بلى، فما بين 1882م – 1891م كتب المسيح الموعود تنبيها للأمة كتابين اثنين: البراهين الأحمدية، وإزالة الأوهام، وفي الكتاب الأول مهد الله تعالى الطريق لمبعوثه وفتح له القلوب وأقام الحجة على المسلمين المعاصرين ومشايخهم في شبه القارة الهندية، وفي الكتاب الثاني أعلن حضرته كونه مبعوثا من الله تعالى لإصلاح الخلق، فما كان من أكثر المسلمين إلا أن كانوا أول المعرضين، فأخذهم الله تعالى بأولى حلقات العذاب، وهي اكتمال وصول أول موجة هجرة يهودية إلى فلسطين عام 1903م وقد اشتملت على 25,000 مهاجر يهودي.
قد يتساءل متسائل: “ما ذنبنا نحن العرب وقد كان المعرضون عن مسيح الزمان من مسلمي شبه القارة الهندية؟! أيعقل أن يؤاخذ الله تعالى بعضنا بذنب بعض؟!”. الأمر بالطبع ليس هكذا، فمبعث المسيح الموعود (عليه الصلاة والسلام) للأمة كافة، وخطابه للمسلمين جميعا، عربهم وعجمهم، لهذا نرى أن حضرته (عليه الصلاة والسلام) كتب سلسلة من الكتب العربية المتعاقبة خلال تلك الفترة على وجه الدقة، وكأنه يدق للعرب ناقوس الخطر ليركبوا سفينته فينجوا.. لقد كتب حضرته عام1893م رسالته إلى العرب، والموسومة بـ “حمامة البشرى”، وأتبعها عام 1894م بكتابه “نور الحق”، ثم عام 1896م كتب للعرب كذلك كتابه “مكتوب أحمد”، وكان رد الفعل العام من مشايخ العرب منذ ذلك الحين أن تلقوا خبر المسيح الموعود (عليه الصلاة والسلام) بأُذُنٍ من طين وأخرى من عجين، فحق على تلك الآذان أن يُضرب عليها في الكهف سنين عددا من الخزي والهوان.
العلاقة جد وثيقة بين رسائل المسيح الموعود (عليه الصلاة والسلام) إلى مشايخ العرب وتجاهلهم إياها من جانب، وبين حالة الذل العام والتي انتهت بنكبة فلسطين ثم توابعها من جانب آخر، فهل من عاقل يعي هذا الدرس؟!
والقائمة طويلة، ولو أننا أنفدنا بعض الوقت ننظر في تواريخ كتابة المسيح الموعود (عليه الصلاة والسلام) كتبه ورسائله، والموجهة إلى المسلمين العرب على وجه الخصوص، لرأينا بما لا يدع مجالا للشك أن تلك التأليفات المؤيدة من الله تعالى جاءت للوقاية من نكبات وقعت مؤخرا، وربما تزامنت معها، فهل في القوم رجل رشيد؟!