بيَّن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام أصلا هاما ينبغي أن يلتفت إليه المخالفون من الداخل والخارج؛ وهو أن الخلاف مع الأنبياء والمبعوثين في التفسير يجب أن يُحسم بالأخذ بتفسيراتهم في أي مسألة يقدمونها وترك ما سواه، حتى ولو بدت غير منطقية أو بعيدة عن القياس للبعض. وهذا لأن احتمال الوقوع في الخطأ في الاجتهاد هو احتمال كبير، بينما يكون تفسير النبي والمبعوث مبنيا على الوحي، وهو الذي يبعثه الله مرجعا وحكما في الخلافات، وينبغي أن ينقطع الخلاف عنده لا أن يُخالَف هو بنفسه. فالواجب على الذين يتحلَّون بالتقوى أن يتركوا آراءهم وتفسيراتهم ويقبلوا تفسير النبي والمبعوث.
يقول حضرته حول ذلك:
“لقد ركز القرآن الكريم على الأمر بالتحلي بالتقوى والورع أكثر من أي حُكم آخر، لأن التقوى تمنح المرء قوة لاجتناب كل سيئة، وتساعده على الإسراع في كسب كل حسنة. والسر في هذا التأكيد الكثير هو أن التقوى تميمة السلام للإنسان في جميع مجالات الحياة. إنها الحصن الحصين للوقاية من كل فتنة. إن المتقي يتجنّب كثيرا من النقاشات العقيمة والخصومات الخطيرة، بينما يَهلك الآخرون بالخوض فيها في كثير من الأحيان، ويسببون الفُرقة في قومهم جراء استعجالهم وظنونهم السيئة، ويُتيحون للمخالفين مجالا للاعتراض. فانظروا بالتأمل مثلا إلى أي حد أوصل المشايخ المعاصرون المعاندون فكرة تكفيرنا وتكذيبنا دون أيِّ تحقيق أو إثبات، بحيث يروننا في الكفر أسوأ من النصارى والهندوس. فهل المتقي الذي ينهى قلبه فعلا عن اتباع الشكوك يمكن أن يقع في هذه البلايا؟ فلو كانت في قلوب هؤلاء ذرةٌ من التقوى لاتخذوا مقابلي الطريق الذي اتخذها طلاب الحق منذ القدم، لأن الجميع قد سلَّم منذ القدم بالمبدأ كما قرر الإسلام أيضا بشأن الذين يعلنون في العالم أنهم بعثوا من الله أنبياء ورسلا ومأمورين، إذا حصل بينهم وبين علماء العصر اختلاف في بيان معنى أيِّ حديث أو تفسير كتاب الله، فليس طريق التسوية معهم كما يكون مع سائر الناس العاديين، بحيث يُرجِّح فريق المعنى الذي يُبينه ويُقوّيه ويسارع إلى تكذيب الفريق الآخر، بل على الاختلاف في التفسير والتأويل الحاصل بينهم ومع كون بعض المعاني أقرب إلى القياس في الظاهر على عكس المعاني التي بيَّنها المأمورون، فإن السعداء لا يتمسكون بمعانيهم مقابل المأمورين ومتلقي الإلهام ولا يُصِرُّون. بل عندما يتبين لهم من خلال ملاحظة التأييد الإلهي المتواتر والآيات المتنوعة أن أولئك الناس مؤيدون من الله؛ فإنهم يتركون معانيهم ويتقبلون المعاني التي بيّنها هؤلاء المؤيَّدون، وإن كان يبدو في الظاهر نوع من الضعف فيها. لأن في بيان المعاني سعة كبيرة؛ فأحيانا يكون الإنسان الذي يميل إلى المجاز ويقدم معنى مجازيا لنص ما على حق، مقابل غيره الذي يتمسك بظاهر النص ويُفسره تفسيرًا حرفيًا، ولا يتوجه إلى المجاز. بل من مقتضى الأدب والاحترام الواجب تجاه الملهَمين والمرسَلين أن لا يُطالَبوا بالقرائن حتى لو قاموا بالصرف عن الظاهر ولو بدون أيِّ قرينة، على عكس ما يُطالَب به العلماء الآخرون. إلا أنه سيكون من الضروري التأكد من أنهم في الحقيقة مؤيَّدون من الله ومقرَّبون إليه، فإذا ثبت أنهم حائزون على التأييد الإلهي، فعند ظهور الاختلاف بينهم وبين العلماء الآخرين في بيان معنى ما لكتاب الله، يجب أن يُقبل المعنى الذي بيَّنه المبعوثون حصرا. وما زال العمل بهذا المبدأ على الدوام قائما؛ فمثلا حين حصل الاختلاف بين عيسى عليه السلام وبين اليهود في بيان تحقق نبوءة النبي ملاخي عن مجيء إيليا ثانية، فمع أن التفسير الذي قدَّمه اليهود كان بحسب الظاهر، بينما قول عيسى عليه السلام وهو أن المراد من بعثة النبي إيليا ثانية هي بعثة مثيله، كان يبدو تأويلا ركيكًا، بل يتسم بنوع من الإلحاد وكان جديرًا بالضحك عند اليهود، وكان صرفًا عن الظاهر دون إقامة أيِّ قرينة؛ فمع ذلك حين رأى السعداء أن هذا الرجل مؤيَّد من الله وأن الحقيقة انكشفت عليه بالوحي، قبلوا التفسير الذي بيَّنه عيسى عليه السلام وردّوا معنى اليهود، وإن كان في الظاهر يبدو هو الصحيح. ثم حدث نزاع مماثل لليهود مع نبينا صلى الله عليه وسلم في تفسير النبوءة عن “مثيل موسى” الواردة في التثنية في التوراة؛ حيث كانوا يقولون بأن ذلك النبي سيأتي من بني إسرائيل، وكانوا يقولون إن الله أقسم لداود أنه سيظل يبعث الأنبياء من عائلته فقط، لكن سيدنا ومولانا النبي صلى الله عليه وسلم قال إن هذا المعنى ليس صحيحا وإنما المعنى الصحيح أن ظهور مثيل موسى كان يجب أن يكون من إخوة بني إسرائيل، أي من بني إسماعيل. فمع أن معاني اليهود كان قد اتفق عليها علماؤهم منذ ألفي عام، وكان ذلك حجة قوية للجاهل؛ أنه كيف يمكن أن يُسلِّموا بمعنى جديد مخالف للمعنى الذي عُدَّ صحيحًا عند جمع كبير من العلماء وكان بمنزلة العقيدة الإجماعية؟ مع ذلك حين رأى العقلاء أن المعنى الجديد قد بيَّنه الإنسان المؤيد من الله- أي نبيُنا صلى الله عليه وسلم- كما اعتقدوا أن العقل الإنساني يمكن أن يخطئ في الاجتهاد في بيان المعنى، بينما المعنى الذي بيَّنه الوحي فلا يمكن أن يُخطئ؛ قبِلوا تفسير سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، ورمَوا تفسير المعارضين كمهملات، وإن كانوا يُدعَون مشايخ دينهم وعلماءه، لأنهم أيقنوا أن هذا الرجل حائز على تأييد من الله وصاحب خوارق، وأن التأييدات السماوية تلازمه. فلم يجدوا بُدًّا من القبول بأن معاني اليهود والنصارى ليست صحيحة. فمن هذا المنطلق أسلم مئات اليهود والنصارى تاركين المعاني التي تم عليها الاتفاق منذ ألفي سنة، فمن هذين النظيرين ثبت قطعا أنه إذا ظهر اختلاف في بيان تفسيرٍ لكتاب الله بين قوم ومبعوث من الله، فإن المعنى الذي بينه المبعوث هو حصرًا يجدر بالقبول وإن كان يبدو في الظاهر ضعيفًا وبعيدًا عن القياس. ولهذا السبب لا نُفسِّر معظم نصوص التوراة والإنجيل بما فسرها اليهود والنصارى، وإنما سنقبل في كل حال المعاني التي بيَّنها القرآنُ الكريم. فحين تحقق هذا المبدأ وجب أن نلاحظ أنه لو كان المشايخ المعارضون يتسمون بالأمانة والإنصاف، ففي حالة دعواي بكوني المسيح الموعود وكنت أُفسِّر تأييدًا لدعواي بعض الأحاديث والآيات تفسيرا لا يقبله المعارضون، كان يجب على أهل التقوى – إذا كان تفسيري في نظرهم ضعيفًا على سبيل الافتراض- أن يسوّوا هذا الخلاف معي عند ظهوره بحسب الطريق المعهود، كما ظل يُسوّيه الصالحون السابقون في مثل هذا الوضع؛ أي كان يجب أن يتأكدوا هل هذا الرجل مؤيَّد من الله أم لا، لكنهم مع الأسف لم يسلكوا معي هذا المسلك، مع أنه لو كان عندهم إنصافٌ لوجب عليهم أن يتخذوا هذا الطريق. والأغرب من ذلك أن الجانب الذي اتخذناه لتفسير النصوص هو صحيح جدًا والأقرب إلى القياس عقلا أيضا، إلا أن معارضينا مع ذلك أعرضوا عنه. مع أنه كان من الواجب عليهم أن يقبلوا تفسيري حصرًا بعد التأكد من أن التأييد الإلهي يحالفني حتى لو بدا ضعيفا مقابل تفسيرهم. فقولوا الآن؛ أهذا هو طريق التقوى الذي اختاروه؟ تأملوا! أيَّ طريق اتخذه السعداء حين ظهرت هذه الخلافات بين الأنبياء والأمم الأخرى؟ أليس من الحق أنهم قبلوا التفسير الذي خرج من فم الأنبياء في أي حال؟” (أيام الصلح، ص 80، الخزائن الروحانية)
إذن، فالواجب هو الإيمان بالمبعوث، الذي يُظهر الله له الآيات التي توصل إلى اليقين أنه من الله، ثم بعد ذلك قبول حكمه ورأيه، وهذا ما يجب أن يلتزم به من في قلبه ذرة من تقوى. أما من ظن أن تفسيره أو رأيه أولى، وأصرَّ على ذلك، فهو يهلك نفسه، وينحرف شيئا فشيئا عن جادة الإيمان. وقانا الله من ذلك. آمين.