الخلافة ورث النبوة

الخلافة في اعتقادنا هي وارثة النبوة، ومهامها هي مهام النبوة نفسها، وهي التي وردت في قوله تعالى:

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ }
(البقرة 152)

وهي تلاوة آيات الله التي تعني العناية بالقرآن الكريم وتعليمه وتفسيره وترجمته ونشره إضافة إلى إظهار آيات صدق الإسلام من خلال المعجزات المتجددة، وتزكية المؤمنين التي تعني تطهيرهم وتطويرهم في شتى المناحي الروحانية والمادية وتخليصهم من السيئات ودفعهم إلى الحسنات، وتعليم المسلمين الشريعة وأحكامها وحِكَمها، وهي الأحكام الواردة في القرآن والسنة النبوية الشريفة.

ويرث الخليفة مقعد النبي وصلاحياته كاملة في شئون الدين والدنيا – سوى التشريع الذي اكتمل ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم – فبما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع الحكم إلى النبوة، فقد حظي الخلفاء الراشدون من بعده بالصلاحيات نفسها. ونؤمن أن كل ما جاء في القرآن الكريم بخصوص صلاحيات النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب طاعته قد أصبح يخص الخلافة من بعده، وهذه كانت نقطة الخلاف الجوهرية بين المسلمين والمرتدين؛ إذ تمسك المؤمنون بأن ما للنبي أصبح للخليفة تلقائيا ورفض ذلك المرتدون. ولهذا أطاع الصحابة أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا طاعة كاملة مطلقة كما كانوا يطيعون النبي صلى الله عليه وسلم، مهما كلفهم الأمر، حتى وإن رأوا أن بعض القرارات قد تبدو في غير محلها؛ كإرسال بعث أسامة في زمن أبي بكر رغم صعوبة الظروف، وكفِّ أيديهم عن مقاومة المتمردين بأمر الخليفة في زمن عثمان رضي الله عنهم أجمعين. وكانوا واثقين بأن الخير في الطاعة وأن الله تعالى سيرتب عليها النتائج الحسنة، وهذا ما كان.

الخليفة يختاره الله

ونؤمن بأن الخليفة إنما يختاره الله تعالى من خلال هداية جماعة المسلمين إليه، وأن الخلافة لا تنعقد إلا بالمشورة، وهي موافقة الغالبية العظمى من خُلَّص المؤمنين على انتخابه – وهؤلاء يكونون من الذين حظوا برضى النبي صلى عليه وسلم في حياته أو ممن رضي عنهم الخلفاء من بعد واختاروهم لهذه المهمة – ويكون الانتخاب بناء على إشارات من الله تعالى. وقد انعقدت الشورى لأبي بكر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بإقرار النبي وإعلانه بأن المؤمنين لن يقبلوا أحدا إلا أبا بكر وأن هذه مشيئة الله تعالى، وظهر ذلك بإشارات منها عندما قال بعدما سمع صوت عمر رضي الله عنه يهمُّ بالصلاة بالمسلمين فقال: “أين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمؤمنون“. وانعقدت الشورى لعمر في حياة أبي بكر رضي الله عنهما، وإن كان أبو بكر قد أوصى به، ولكنه عُيِّن بسبب الشورى التي وافقت على وصية أبي بكر وليس بسبب الوصية ذاتها، وعُيِّن عثمان بعد مشورة متكاملة شاملة قام بها عبد الرحمن بن عوف وحسمت لصالحه بينه وبين علي، وأُقيم علي رضي الله عنه خليفة بعد استشهاد عثمان لأن الصحابة أصلا كانوا قد حسموا الأمر بينه وبين عثمان فقط منذ زمن عثمان. كما أن هذا كان رأي غالبية الصحابة – بل ورأي المتمردين أيضا وإن كان لا قيمة لرأيهم – ولم يقبل علي رضي الله عنه منصب الخلافة حتى تيقن من هذا. ونؤمن بأن الخلفاء الراشدين كانوا هؤلاء الأربعة، ومن بعدهم رُفعت الخلافة الراشدة طبقا لنبأ النبي صلى الله عليه وسلم. ونؤمن بأن الخليفة الراشد لا يُعزل ولا يجوز أن يتنازل عن الخلافة، لأن الخلافة مقام روحاني وارث للنبوة، والفارق بين النبي والخليفة هو أن الله تعالى يختار النبي مباشرة والنبي ينشئ جماعة المؤمنين الذين يدخلون فيها بإيمانهم به وبيعته، أما الخلافة فإن الله تعالى يختار فيها الخليفة من خلال جماعة المؤمنين القائمة وتكون بيعتهم له إقرار بأنهم سيعطونه ما كانوا يعطون النبي صلى الله عليه وسلم من قبله. والخليفة يكون تحت وحي الله تعالى وتأييده.

أما الحسن رضي الله عنه فلم يكن خليفة راشدا، لأن زمن رفع الخلافة الراشدة كان قد حلَّ ولم يعد ممكنا قيام الخلافة بالمشورة، إذ كان المسلمون قد تفرقوا يومها وأصبح اجتماعهم على خليفة واحد غير ممكن، بسبب أن الصحابة قد أصبحوا قلة وكان الداخلون الجدد في الإسلام الذين لم يحظوا بالتربية الكافية على يد الصحابة هم الغالبية. وكان تعيين علي رضي الله عنه له صحيحا لأن ترك الأمر للشورى عندما لا يكون ممكنا إقامتها وعقدها وكأنه ترك المسلمين للمجهول دون قيادة، فكان موقف علي رضي الله عنه بتعيين الحسن في محله تماما، ولم يكن توريثا للخلافة الراشدة التي لا يجوز فيها التوريث – وإن كان يجوز انتخاب خليفة يكون ابنا لخليفة سابق، إلا إذا اختار الخليفة السابق أن يوصي بعدم انتخاب ابنه كما في عهد عمر رضي الله عنه- فكان توريث عليٍّ الحسن هو للمقعد الملكي أو للحكم لا للخلافة الراشدة، وكان الكل قد أدرك أن زمن الخلافة الراشدة وانعقاد الشورى لقيامها قد ولى بسبب تغير الظروف. لذلك كان تنازله عن الخلافة تنازلا عن الخلافة الملكية الحاكمة وليس الخلافة الروحانية التي لم تنعقد له، وكان جائزا واجتهاده محمودا من ناحية حقن الدماء وإقامة الصلح بين المسلمين، ولكن كان من آثاره السلبية أن آل البيت قد تعرضوا لكثير من المظالم والمجازر لأن الأسر الملكية كالأمويين والعباسيين كانوا يخشون من توليتهم الخلافة الحاكمة من قبل الناس. فمن ناحية كان اجتهادا صحيحا ومحمودا، ومن ناحية ثانية كان له أثر ضار على آل البيت لهذا السبب، وكان التنازل جائزا وممكنا ومسموحا به على كل حال لأنها ليس خلافة راشدة. فلم يخطئ الحسن رضي الله عنه في التنازل بل كان موقفه صحيحا تماما، بينما لم يكن ممكنا أن يتنازل عثمان أو علي رضي الله عنهما لأنهما كانا خليفتين راشدين.

الخلافة تقوم في الذين آمنوا وعملوا الصالحات

ونؤمن بأن رفع الخلافة الراشدة الذي أنبأ به الحديث الشريف سببه أن الظروف لم تعد ملائمة، لأن الغالبية لم تعد من نوعية تلك النخبة من الصحابة الذين تربوا على يد النبي صلى الله عليه وسلم، كما لم يتربوا على أيديهم هم، بينما الخلافة لا تقوم إلا في الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فعندما أصبحت نوعية الغالبية العظمى من المسلمين ليست من نوعية الصحابة صار واجبا أن يجعل الله لهم حكما يلائم حالهم، ولذلك تحولت الخلافة إلى ملكية، ولم يكن هذا بسبب غضب الله تعالى على الأمة، بل لأن هذا الحكم الملكي هو الذي أصبح ملائما لها. واستمرت البركات في الأمة وكانت في أوجها في القرون الثلاثة الأولى، وبقي الخير أكثر من الشر إلى أكثر من ألف عام بعدها، ثم عندما أصبح الشر أكثر من الخير بُعث الإمام المهدي والمسيح الموعود على رأس القرن الرابع عشر لإعادة الخلافة على منهاج النبوة، ثم نشأت بعهد الخلافة الراشدة الثانية الموعودة.

الخلافة الروحانية والخلافة الملكية

ونؤمن أن الخليفة الراشد كان يحظى بمقعد الخليفة الروحاني والمقعد الملكي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبرفع الخلافة ورث معاوية ومن بعده الأمويون المقعد الملكي ثم استمر هذا المقعد الملكي في الأمويين ثم العباسيين ثم العثمانيين، فالخلافة الملكية هي جزء من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هؤلاء الملوك ليسوا خلفاء روحانيين، بل أصبحت الخلافة الروحانية في الأولياء والمجددين في الأمة إلى أن جاء وقت بلغ فيه الفساد مبلغا لا يمكن إصلاحه من خلال نظام المجددين العاديين والأولياء فبعث الله تعالى المسيح الموعود والإمام المهدي نائبا للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى منهاج نبوته وأقيمت الخلافة الروحانية من بعده. وكما كان هو خليفة روحانيا فقط كذلك فإن خلفاءه روحانيين وليسوا ملوكا، وعدم اقتران الملكية بالخلافة لا ينقص من شأنها شيئا، لأن الخلافة الروحانية هي استمرار للنبوة والتي لا يلزمها حيازة الملك معها ولا يُعد من ضروراتها. ونؤمن بأن الخلافة الأحمدية إنما هي عودة الخلافة الراشدة التي أنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بعودتها في آخر الزمان، وأنها ستستمر إلى يوم القيامة، وسيلتف حولها المؤمنون الذين يعلمون الصالحات دوما، ومن يتباعد عنها يحرم من بركاتها.

الخلاف الذي حدث في زمن علي رضي الله عنه

ونرى أن الخلاف الذي حدث في زمن علي إنما كان مرجعه الاختلاف في الاجتهاد حول إن كانت الخلافة قد انعقدت له أم لا، من قبل طلحة والزبير والسيدة عائشة رضي الله عنهم الذين اعترفوا بخطئهم أخيرا، ثم معاوية الذي لم يبايع هو ومن معه ظنا بأن وقت رفع الخلافة الراشدة قد حان وخاصة عندما استولى المتمردون على المدينة. وكان معاوية يريد أن يقضي على المتمردين، وكان حسن النية هو وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، ولكن صعوبة الظروف هي التي لعبت دورا في ذلك الخلاف واستمراره. ونعتقد بأن معاوية كان مخطئا في موقفه ولكن بنية حسنة، وأن الله تعالى قد أثبت أنه مع علي رضي الله عنه إذ نصره وقضى بواسطته على الخوارج وحافظ به على مكانة الخلافة الروحانية ومنزلتها.

أحببت أن أوجز أهم القضايا المتعلقة بالخلافة في هذه العجالة، والتي تجيب على كثير من المسائل، وتبين اعتقادنا وموقفنا.

About الأستاذ تميم أبو دقة

من مواليد عمَّان، الأردن سنة 1968 بدأ بتعلَّم القرآن الكريم وحفظ بعض سوره وفي تعليمه الديني في سنٍّ مبكرة وبدأ بتعليم القرآن في المساجد في الثانية عشرة من عمره. انضم إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية عام 1987 قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر وكان من أوائل الأحمديين العرب. يعمل في خدمة الجماعة في المكتب العربي المركزي وفي برامج القناة الإسلامية الأحمدية وفي خدمات التربية والتعليم لأفراد الجماعة وفي العديد من الأنشطة المركزية. أوفده الخليفة الخامس نصره الله تعالى ممثلا ومندوبا لحضرته إلى عدد من الدول، وكرَّمه الخليفة نصره الله بلقب “عالِم” في العديد من المناسبات. عضو مؤسس ومعدّ في فريق البرنامج الشهير “الحوار المباشر” الذي انطلق رسميا عام 2006 والذي دافع عن الإسلام ضد الهجمة المسيحية التي انطلقت على بعض القنوات في بداية الألفية وأخمدها، والذي أسهم في تعريف الجماعة الإسلامية الأحمدية إلى العالم العربي، والذي يبث الآن مترجما ترجمة فورية إلى العديد من اللغات. وهذا البرنامج أصبح نموذجا للعديد من البرامج المشابهة في اللغات الأخرى. شارك ويشارك في العديد من البرامج الأخرى وخاصة المباشرة في اللغة العربية وفي بعض البرامج باللغة الإنجليزية. عضو هيئة التحرير لمجلة “ريفيو أوف ريلجنز” الإنجليزية العريقة التي بدأ إصدارها في زمن الإمام المهدي والمسيح الموعود عام 1902م.

View all posts by الأستاذ تميم أبو دقة