ملاحظة: كتبت هذه المقالة في أوائل عام 2006 أثناء اشتداد الهجمة المسيحية الإعلامية على الإسلام من خلال بعض القنوات المسيحية باللغة العربية، والتي تراجعت الآن كثيرا بفضل الله تعالى بعد الرد الكاسح الذي واجهتها به قناتنا الإسلامية الأحمدية MTA
لقراءة المقالة الثانية نرجو الضغط هنا: ظاهرة الدعاة المسلمين الجدد
في السنوات الأخيرة، بدأت المسيحية منهجا من العمل في العالم العربي لم يسبق له مثيل. فقد كان عملها في العالم العربي في السابق محدودا، ولم تكن تجنح إلى النزال أو الدخول في معركة فكرية معلنة مع الإسلام. وربما كان أكثر ما تطمح إليه هو أن تحافظ على وجودها المحدود في البلاد العربية كي لا تزول وتنمحي بفعل عوامل كثيرة؛ منها الهجرة إلى البلدان الغربية، ومنها تدني نسبة المواليد وارتفاع معدل سن الزواج بشكل ملحوظ في أوساط المسيحيين خاصة.
وبالأخذ بعين الاعتبار أن الزيادة السكانية والوجود المسيحي في العالم العربي منوط بالولادات فقط، ولأن المؤشرات تدل إلى تدني نسبة المسيحيين وعددهم في هذه البلاد، فيبدو أن كل ذلك أدى إلى دق ناقوس الخطر عند زعماء المسيحية، وأصبح لزاما عليهم أن يقوموا بخطوات توقف هذا الوضع المنذر بتراجع حاد في وضع المسيحية مع الوقت.
ومع وجود المسيحيين في محيط عربي إسلامي، ومع كون الغالبية لا يختلفون عرقيا عن إخوانهم من المسلمين، ومع وجود قدر كبير من الانسجام والتعايش والعلاقات الجيدة والثقافة المشتركة بين المسلمين والمسيحيين في مجتمعهم، فقد كان التحول من المسيحية إلى الإسلام هو الاتجاه الغالب المعتاد. ولم يكن العامل الاجتماعي والانسجام هو العامل الحاسم في هذا الأمر، بل إن وضوح العقائد الإسلامية وتوافقها مع العقل وجمالها وانسجامها مع الفطرة الإنسانية كان لها الدور الأكبر، إضافة إلى استمرار بقاء أثر القيم الإسلامية العظيمة في المجتمعات الإسلامية، والتي مهما تراجعت بسبب ابتعاد المسلمين عن دينهم فإنها لا تزال متقدمة ولا تزال تحمل بريقا ملفتا للنظر.
ولعل ما زاد من ذعرهم أيضا أن التحول إلى الإسلام لم يكن مقتصرا على البلاد العربية والإسلامية فقط، بل إن العدد الأكبر من المتحولين إلى الإسلام هم في خارج البلدان العربية والإسلامية. فكل المؤشرات تدل على أن الإسلام هو الدين الأكثر نموا في العالم.. ووفقا للدراسات والمؤشرات فإن الإسلام يسير بخطوات ثابتة لكي يصبح بعد عقود دين العالم.
وعلى ضوء كل تلك العوامل، ومع الأخذ بعين الاعتبار أن الوجود المسيحي والمحافظة عليه يشكل مصلحة سياسية غربية متعددة الجوانب أيضا، فقد كان المسيحيون يلجأون إلى أساليب متعددة للدفاع عن وجودهم وبقائهم في العالم العربي. وكان من أهم وسائلهم الداخلية هو الإرهاب والرعب والوعيد بممارسات وحشية تجاه من أسلم منهم، والتي واجهها الكثيرون ولا يزالون، والتي ترتعد منها فرائص كل من سولت له نفسه أن يخطو هذه الخطوة. هذا إضافة إلى محاولة إثارة الرأي العام، ومحاولة تحريف قصة إسلام الشخص الذي لا يستطيعون الوصول إليه، بحيث تبدو كأنها جريمة تم ارتكابها بحقه وأنهم يدافعون عنه أو يريدون تخليصه! لكن هذا الإرهاب لا يجدي نفعا ولا يمكن أن يوقف نزيف الخارجين من المسيحية إذا سنحت لهم الفرصة.
أما أهم وسائل الدفاع الهجومية التي لجأوا لها فهي محاولة طمس البريق الأخاذ للإسلام ومحاولة إخماد نوره بأفواههم لكي لا يشكل عامل جذب للمسيحيين. فلجأ المستشرقون خاصة وبعض المسيحيين من المنطقة أيضا إلى دراسة الإسلام لكي يستخرجوا بعض النقاط التي ستكون عامل تنفير من الإسلام وعامل طمس لبريقه الأخاذ ولنوره العظيم الذي لم يخبُ في يوم من الأيام مهما تراجع. وقد رافق الاستشراق الحملة الاستعمارية الغربية للبلاد العربية والإسلامية، وكان من المنتظر أن يترك أثرا أكبر مما حققه فعليا، ولكن عمل المستشرقين على كل حال لم يذهب هباءً، بل أصبح ذخيرة بيد المسيحيين في البلاد العربية لكي يكون سلاح دفاع سري يستطيعون به الحفاظ على وجودهم وبقائهم. ولذلك فقد كانوا يروجون لتلك النقاط فيما بينهم ويتعلمونها وإن كانوا لا يصرحون بها خارج محيطهم، مع أنها كانت تبدو على شفاههم أحيانا كلما تسنح الفرصة. وهكذا فقد كانت تلك النقاط هي الأساس الذي استمدت منه المسيحية بقاءها. ولا أدري كيف لم يلتفت عامة المسيحيين إلى طبيعة تلك الاستراتيجية التي لجأ إليها أحبارهم ورهبانهم الذين عملوا على تثبيتهم، ليس بإثبات صحة العقائد المسيحية، بل بمحاولة طمس حقيقة الإسلام!
وعلى كل حال، فقائمة تلك المطاعن طويلة، وهم ما زالوا يجتهدون لأجل استخراج الجديد أيضا، ولكنها كلها لا تناقش صلب العقائد الإسلامية مطلقا، بل أكثرها ليس له علاقة بالعقيدة بتاتا. وهي إما مجرد تُهم لا دليل عليها، أو مجرد تشويه وإخراج لبعض النقاط من سياقها، أو لجوء إلى إثبات أمور شاذة من مرويات وأحاديث لا تصح، أو أخذ كلام شاذ لبعض الكتاب والعلماء المسلمين من مختلف العصور والادعاء بأن هذا القول هو قول المسلمين عامة.
ولعل أهم التهم التي وجهوها للإسلام ادعاؤهم أن مصدره لم يكن سوى توليفة من أفكار الهراطقة النصارى، حسب زعمهم، وقد حاولوا التدليل على ذلك بعرض تطابق بعض أفكار هؤلاء مع بعض الأفكار الإسلامية. وليس صعبا أن يجدوا بعض التطابق في أفكار هؤلاء الذين اتهموا بالهرطقة مع الأفكار الإسلامية، وهذا لأن غالبية هؤلاء قد اضطهدوا لأنهم عارضوا العقيدة المسيحية الشركية، وكانوا يحاولون التأكيد على بعض النقاط الأصيلة مثل الوحدانية وإنسانية المسيح وغيرها مما جاء به المسيح، والتي لا تختلف عما جاء به كل الأنبياء والمرسلين. وهذا الأمر وإن كان يبدو ظاهريا أنه يمس صلب الإسلام، إلا أنه أمر لا علاقة له بصحة العقائد أو بطلانها. فالأولى أن يتم مناقشة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومحاولة تبيان بطلانه إن كانوا يستطيعون ذلك، لا أن يشككوا في مصدره. وعلى كل حال، فإن تشكيكهم في المصدر وتجنب التطرق للعقائد إنما يدل على اعترافهم بقوة تلك العقائد مما جعلهم يحاولون القول أنها عقائد مسروقة أو مستعارة!
وفي الحقيقة، فإن العقائد الإسلامية هي من المتانة بحيث اضطرتهم هم إلى محاولة التمحك بها ومحاولة تقريب عقائدهم الشركية لكي تماثلها. فمثلا اضطروا إلى قضية الادعاء بالإيمان بالوحدانية وبالثالوث في آن معا، مع أن هذا الأمر متناقض ولا يمكن الجمع بينه. ولكنهم اضطروا لذلك لسخافة فكرة التثليث التي كانت فكرة مقبولة في الماضي عندما كان تعدد الآلهة هو الفكرة الأوسع انتشارا. وقد يلاحظ المتتبع كيف أنهم يكادون يقتلون أنفسهم كي يدللوا على أن الثالوث إله واحد، وتراهم يبذلون كل ما في وسعهم للالتفاف على حقيقة منطقية بسيطة ترفض أن تكون الثلاثة تساوي الواحد! بينما لو أنهم لم يلجأوا إلى ذلك واعترفوا بشجاعة بأنهم يؤمنون بثلاثة آلهة لكان موقفهم أجدر بالاحترام والتفهم.
أما بخصوص النقاط الأخرى فكانت اعتراضاتهم لا قيمة لها حقيقةً، كما يوجد عليها كم كبير من الردود والتوضيحات التي يعلمون بوجودها. ولكنهم يريدون أن يأخذوا الكلام الشاذ ويتناسوا تلك الردود والتوضيحات تماما. وفي هذا دجل وتشويه متعمد.
والحقيقة أن المسيحيين لو كانوا واثقين من رسوخ مبادئ عقيدتهم ومن جمال تعاليمهم لسلكوا مسلكا مختلفا يستند إلى التبشير بتلك العقائد والمبادئ، ولما كان من حق أحد أن يعترض عليهم. ولكنهم أدركوا حقيقة ضعف تلك العقائد وتناقضها، فوجدوا أن نقض الإسلام بشبهات واهية سيحوِّل مجرى المعركة ويحمي عقائدهم الفاسدة ولا يضعها في المواجهة. ومن العجيب أن ينخدع عامة المسيحيين بهذه الحيلة ويطمئنوا. فدينهم يجب أن يقوم على عقائده وعلى مبادئه وليس على نقض غيره. فلو سلمنا جدلا بعدم صحة الإسلام فلا يعني ذلك مطلقا أن المسيحية هي الصحيحة بالضرورة!
وكما ذكرنا سابقا، فإن كل هذا العمل قد بقي محصورا ومخفيا وغير معلن إلى فترات طويلة من الزمن حتى جاء هذا الوقت. صحيح أن بعضهم كان يتشدق في الماضي بمحاولة إثبات بعض العقائد النصرانية من القرآن دون هجوم على الإسلام، ولكن هذا الأمر لم يكن يواجه بمعارضة من جانب المسلمين كونهم كانوا يرون فيها اعترافا ضمنيا بالقرآن الكريم وبالإسلام، رغم غرابة المنهج وشذوذ الفهم. وكانوا يقبلون بذلك من باب الشفقة أو المجاملة الفكرية لأبناء مجتمعهم وقومهم.
أما في هذه الأيام، وبعد أن مُني المسلمون بهزائم مادية ساحقة، وتم تدمير كيانهم المادي بطريقة لم يسبق لها مثيل. وبعد أن أصبحت الدول العربية والإسلامية أكثر خضوعا للعالم الغربي وأكثر اعتمادا عليه، مما جعل الغرب يتصرف فيها دون رادع أو وازع. وجد المسيحيون أن تلك هي الفرصة الذهبية للانقضاض على المسلمين معنويا بعد أن تم تدميرهم ماديا! فبدأت هذه الحملة في الانطلاق كوسيلة هجومية لها هدفان أساسيان؛ الأول تثبيت النصارى من خلال إعادة إثارة تلك النقاط القديمة الحديثة كي لا ينجذبوا إلى الإسلام، وبالتالي درء المخاطر التي أشرنا إليها سابقا والتي تهدد الوجود المسيحي في العالم العربي والتي لم تتراجع، بل على العكس تزايدت في ظل الظروف الصعبة الحالية (وهذا ما سنوضحه في مقالات أخرى)، والثاني تدمير صورة الإسلام العظيم في نفوس المسلمين كي يتخلوا عنه نهائيا وإلى الأبد، وكي لا يستمر في حفظ ما تبقى من كيانهم المادي.
ولا عجب أنهم قد حاولوا استهداف الأقليات العرقية في العالم العربي وعملوا على تذكيرهم بمظالم مزعومة لقيها هؤلاء تحت حكم العرب المسلمين. وظنوا أنهم بتحطيم رابطة الإسلام بين هؤلاء الأقليات وبين العرب سيكون بمقدورهم تمزيق العالم العربي بشكل أكبر، كما أن هذه الأقليات ستجد في المسيحية الطريق للتحرر من العرب من جهة ولكي تحصل على مكاسب من الغرب الذي يدين بهذه المسيحية ويدعمها. وقد يخطئ البعض الظن أن من ضمن أهدافهم تبشير المسلمين وتنصيرهم؛ ولكن كل المؤشرات تدل على أن هذا ليس من أهدافهم، وذلك لأن الوسائل المتبعة غاية في الشراسة والتنفير وهي ليست وسائل تبشيرية أبدا. فكلماتهم تنم عن حقد عميق لكل ما هو عربي ومسلم، ولا يرون غضاضة في ترديد ذلك في كل مناسبة متاحة.
والحقيقة أن هذه الحملة لا يمكن أن تخدم المسيحية ولا المسيحيين ولا مصالحهم في العالم العربي. فالمسيحيون هم أكثر من يحتاج إلى مزيد من الانسجام والتفاهم مع هذا المحيط. وإن تأليب المسيحيين لكي يحتقروا عقائد المسلمين ويهاجموها إنما يعمل على تحويلهم إلى عناصر نافرة رافضة مما سيخلق ردة فعل في مجتمعاتهم ويعمل على خلق مناخ متوتر وغير مستقر، وهم سيكونون أكبر المتضررين من هذا التوتر. إن هذه الحملة إنما هي حملة حمقاء يقودها مجموعة من المتطرفين المأفونين قصيري النظر الذين يحركهم الحقد الأعمى، وهم أبعد ما يكون عن جوهر القيم الدينية العامة أو عن السعي إلى تحقيق مصالح المسيحيين الذين يدعون أنهم قد أثاروا هذه الحملة لأجلها. فعلى المسيحيين أن يتنبهوا ولا يسلموا قيادهم لهؤلاء الذين يقودونهم إلى مصير مجهول غير آبهين بالعواقب.إن هذه الأفواه الخبيثة لن تقدر إلى إطفاء نور الإسلام، بل على العكس، إنها ستعمل على توجيه الناس ليعرفوا حقيقة الإسلام العظيمة الناصعة. ولا شك أن مصير هذه الحملة هو الفشل بإذن الله، ولكنها ستنتهي بهزيمة ساحقة للمسيحية، وستنتهي بالخيبة والخسران لأرباب هذه الحملة ودعاتها، وسيخرج الإسلام منها أكثر قوة وتماسكا. وهذا ما سيكون مشهودا قريبا إن شاء الله. فارتقبوا إنا معكم مرتقبون.