في عام 2003، كنت قد رأيت رؤيا أنني أطوف حول الكعبة، ثم رأيت أن بابًا تحتها قد فُتح لي، فدخلت، فوجدت مجموعة صغيرة من الناس جالسة، وكان هنالك ميكروفون على هيئة ميكروفونات تسجيل الصوت، الذي حوله شبكة دائرية، فوقفت عليه، ولا أذكر إن كنت قد رفعت الأذان أو أنني قلت شيئا وكان جميلا ومؤثرا.
بعدها بفترة وجيزة، عُرض عليَّ عمل في السعودية كمدير مشروع لإدخال شبكة المياه والصرف الصحي على الحاسوب ببرمجيات حديثة كان لدي خبرة فيها، وكان مشروعا كبيرا يغطي مدينة الرياض كلها. فرغم أنني لا أحب الانخراط في عمل يستحوذ علي ويدخلني في دوامة كسب الدنيا اللوَّاحة وعدم الفكاك منها، وكنت أخشى كثيرا من ذلك، شجعتني هذه الرؤيا على القبول، لأن وهلي ذهب أنني سأتمكن هناك من خدمة الدين بصورة ما.
عندما وصلت إلى مقر الشركة، استقبلني مدير القسم الذي يتبع له مشروعي، ثم توجهنا سويا إلى المكاتب الأخرى وعرَّفني على الموظفين عموما وعلى موظفي مشروعي خاصة. عندما دخلت إحدى القاعات توجه إليَّ أحد الموظفين وعانقني وقبَّلني بحرارة! وقد بدا عليَّ الاستغراب لأنني لا أعرفه. فعندما شعر بذلك وشعر الآخرون، قال لي: أنا فلان الفلاني من الأردن، فقلت: آه، أهلا وسهلا. وتذكرت أن مدى معرفتي به لم تكن أكثر من أنني دخلت مرة مرسما لوزارة المياه في الأردن، وسلمت على الموجودين، وكان هو أحدهم. ولكنني شعرت بشيء من الحرج لأجله، لأنه توقَّع مني أن أتذكره.
على كل حال، كان مقرُّ مشروعي في وزارة المياه والكهرباء في الرياض، وكان العاملون في المشروع يتضمّنون موظفين من الشركة من جنسيات عربية مختلفة وموظفين من الوزارة من السعوديين، وكان واجبا علينا أن ندربهم لكي يتمكنوا من إدارة المشروع بعد انتهاء العقد. اجتمعت بالموظفين وقلت لهم: أريد أن أقول لكم إن لديَّ هدفين في هذا المشروع، الأول هو أن ننجز العمل على خير ما يرام وفي الوقت المحدد، والثاني هو أن يكون كلُّ فرد منكم مرتاحا مسرورا لا يشعر بضغط العمل ولا بأي نوع من الضيق، وأتمنى أن يتحقق لكل منكم أنه عندما سيعود إلى البيت في نهاية كل يوم ويجلس مع أولاده فإنه لن يشعر بأي نوع من الضيق أو القلق أو التوتر بخصوص العمل، وتصوري لذلك يشعرني بسعادة غامرة، وهو هدف سأسعى لتحقيقه ما استطعت. كذلك أقول لكم إنني مستعد لتقديم أي مساعدة لأيٍّ منكم فيما لا يخص العمل أيضًا إن كان ذلك بمقدوري، وسأبذل جهدي في سبيل ذلك قدر الاستطاعة.
ثم قلت لهم: إنني لن أطلب منكم ساعات دوام محددة، بل سيتم تقسيم العمل إلى مهامَّ فرعية يتم تحديد مدة زمنية لكل منها، وسيتم تقدير الوقت لها، فمن استطاع أن ينجز ما هو مطلوب منه قبل الوقت فيمكنه أن يغادر فيما يتعلق بالعمل اليومي، أما المهمات التي تتطلب أياما، فيمكن أن ينجز من استطاع منكم عمل أسبوع في يومين أو ثلاثة إن أراد، ويمكنه أن يقضي باقي الأسبوع في إجازة، ولكنه سيُعدُّ على رأس دوامه.
كذلك قدمت لهم تسهيلات كثيرة، وأعطيتهم يوم عطلة إضافي رغم أن دوام الشركة كان ستة أيام في الأسبوع فجعلته خمسة كدوام الوزارة، ووضعت ميزانية لذلك، وهيأت جوًا مريحا قدر الإمكان.
كنت ألاحظ أن قولي وهذا النظام الذي وضعته لم يستقبله الموظفون بالارتياح، بل رأيت أن الحيرة والاضطراب كانت تستولي عليهم، وكان هذا مثارا لحيرتي واستغرابي.
في مرة من المرات جاءني أحد الموظفين السودانيين، وقال لي أريد أن توقِّع لي على أنني أنجزت عملي المطلوب مني. فقلت له مستغربا: لماذا تريد هذا؟ قال: لكي يكون محفوظا عندي. قلت له: لا أحد سيطالبك بأي شيء إن اتبعت النظام التسهيلي الذي وضعتُه، ولكن إذا لم تشأ أن تستفيد من التسهيلات وتغادر قبل الوقت بعد إنجاز مهماتك، فيمكنك أن تبقى في المكتب، والأمر لك.
استمر الحال على ما هو عليه، وكنت أشعر بأن الاضطراب والضيق يستولي على الموظفين بل يسحقهم سحقا، وشعرت بالإحباط لأنني لم أحقق هدفي في إراحتهم، ولم أكن أفهم السبب وراء ما يحدث.
في مرة من المرات، كنت في زيارة إلى الشركة الأم، وبعد أن خرجت منها لكي أستقل سيارتي متوجها إلى الوزارة، وجدت شخصا ينادي علي ويقول: يا محمَّد! هنالك من صدم سيارتك وفرَّ، وقد ذهب صديقي ليلاحقه. فقلت له أين هي الضربة: فأشار إليها، فقلت: لا بأس، لا مشكلة. وسرعان ما جاء صديقه ومعه الشخص الذي ضرب السيارة ومعهما الشرطة. فتوجه إلي الضارب، وكان شابا بنغاليا متأنقا يلبس قلادة في عنقه، وأخذ يعتذر ويقول إنه لم يفرّ ولكنه لم يلاحظ أنه صدم السيارة، فقلت له: لا بأس، وقلت للشرطة إنني لا أريد منه شيئا. فقال لي الشرطي: لكننا مضطرون لأخذه إلى القسم لبعض الإجراءات، فقلت لهم: أرجوكم أن تنجزوها بسرعة، وأن تطلقوا سراحه.
عندما ذهبت إلى الوزارة، حدثت بهذه الحادثة أحد الموظفين الذي كان مسئولا عن موظفين آخرين، وكان عدد من الموظفين يستمعون. بعدها بقليل جاءني الموظف السوداني – ويبدو أنه تأثر بالقصة – وطلب أن يحدثني على انفراد، ثم قال لي: أريد أن أعتذر إليك! فقلت له مستغربا: عن ماذا؟! فبدأ بسرد القصة وتبيان السبب الخفي الذي كان وراء قلقهم واضطرابهم.
قال لي: قبيل قدومك، وعندما سمعنا باسمك، قال لنا هذا الشخص الأردني الذي عانقك، إنه يعرفك جيدا، وإنه عمل معك طويلا، وإنك لئيم وحقود، وإنك متعصب للأردنيين والفلسطينيين، وإنني سأوقع بالموظفين وسأريهم أياما سوداء، وقال لي خاصة: إنك أنت بالذات ستكون الضحية!
ثم استطرد قائلا: عندما جئتَ وسلَّمت علينا وعانقك، وأبديت عدم معرفتك به، قال لنا بعد أن ذهبت: أرأيتم! إنه يتظاهر بأنه لا يعرفني. وعندما أخبرتنا بالنظام الذي وضعته، وبنيَّتك أنك تريد لنا الراحة والطمأنينة، قال لنا هذا الشخص إن هذا هو أسلوبه لكي يستدرجكم ثم يقضي عليكم، فكنا نشعر دوما بالريبة والاضطراب لأننا لا نستطيع أن نفسِّر أعمالك، ولا نعرف كيف ستوقع بنا وستقضي علينا!
كان هذا الشخص قد غادر البلاد سريعا بعد قدومي بما يقارب أربعين يوما، ويومها استغربت من السرعة التي استقال بها وغادر البلاد، فأخبرني هذا الموظف السوداني أن الموظف الأردني كان قد تورط في مشكلة كبيرة مع أحد الأمراء نتيجة لكذبه وخداعه، وقال له الأمير إنه سيعطيه الفرصة لمغادرة البلاد بنفسه، وإلا فستكون عاقبته سيئة، ولهذا غادر بسرعة فائقة، ولكن السمَّ الذي بثه في الآخرين كان ما زال يسري فيهم.
بعد أن استمعت لهذا، استغربت أشد الاستغراب، وقلت للسوداني: إنه لا حاجة لأن تعتذر لي، لأنكم لم ترتكبوا شيئا بحقي، ولكنني أنا الذي أشعر بالأسف والإحباط لأجلكم، فأنا كنت أريد راحتكم، ولكن سوء ظنكم وقبولكم لادعاءات فاسقٍ دون تبيُّن هو الذي كان سببا لعذابكم. فلو لم تسيئوا الظن وصدقتكم ما قلته لكم، لارتحتم كثيرا. لكن آمل أن تعرفوا الحقيقة الآن، وآمل أن تستدركوا وتشعروا بالارتياح الذي أردته لكم فيما تبقى من مدة المشروع، وعفا الله عما سلف.
كان في هذه القصة عبرة عظيمة ودرس كبير لي، وهو أن الذي يستولي عليه سوء الظن لا يمكن أن تفيده بشيء مهما فعلت، وأن هناك أناسا يستمتعون بتعذيب الآخرين وإلقاء الشبهات والشكوك في قلوبهم حتى وإن لم يجنوا فوائد من ذلك، وأن كثيرا من الناس لا يصدقون أن هنالك من يحب الخير لهم ولا يريد من وراء ذلك جزاءً ولا شكورا بل هو يستمتع بخدمتهم وبتوفير الراحة لهم.. وهذا في الواقع هو الغاية من الإسلام العظيم الذي يجب أن يكون فيه الإنسان مخلصا في العبودية لله ومخلصا في خدمة الخلق وتوفير كل سبل الراحة والطمأنينة لهم. ساعدتني هذه الحادثة على تفهِّم مواقفَ أخرى كثيرة كنت أتصرف فيها بقلب منفتح ونية طيبة وكانت لا تؤدي إلى راحة الآخرين ولم يكونوا يستفيدون منها إلا قليلا.
بعد ذلك، وبعد أن زال مفعول السمّ جزئيا، أنجزنا خلال ستة أشهر من المشروع عملا أكبر بكثير من المتوقع، ولكنني لم أجد في نفسي الرغبة في البقاء، لأنني شعرت أن هذا العمل قد وضع قدمي على طريق ربما لا رجعة فيه، سيجعل عمل الدنيا يستحوذ علي، لأنني حددت لنفسي هدف خدمة الدين وكنت أدعو الله تعالى أن ييسره له. فعدت إلى الأردن.
أدركت بعد ذلك أن الرؤيا التي دفعتني لقبول هذا العمل إنما معناها أنني سأوفَّق لتقديم برامج في قناتنا الإسلامية الأحمدية التي شعارها الكعبة المشرفة، وإن كان هذا الخطأ الاجتهادي في فهمها في البداية كان مفيدا أيضا، إذ إنه دفعني لكي أقبل ذلك العمل، وأتعرض لهذه التجربة العجيبة، وأطلع على ما لم أكن أتوقعه. فسبحان الله!