يقول المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام مفسِّرا الآية ” إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِيْنًا” ومبينا الحِكَم وراءها في هذا السياق، ولما يتيح الله الطعن في الأنبياء والمبعوثين:

ثم قال تعالى: “إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِيْنًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأخَّرَ.” هنا ينشأ سؤال حول هذا الوحي الإلهي وهو: ما علاقة الفتح مع غفران الذنوب؟ إذ لا تـمُتّ هاتان الجملتان إلى بعضهما بصلة في الظاهر، ولكن الحق أنهما وثيقتا الصلة. وتفصيل الوحي أن الطعن والانتقاد الذي توجهه هذه الدنيا العمياء إلى المبعوثين من الله ورسله وأنبيائه، وما وُجِّهَ إليهم من الطعن متنوّع الاعتراضات وسوء الظن بهم وبأعمالهم، لا يوجَّه إلى أحد في العالم. وهذا ما قدّره الله تعالى لكي يُخفيهم عن أعين هؤلاء الأشقياء، فيكونوا محلّ اعتراض عندهم، لأنهم ثروة عظمى، وإن إخفاء الثروة العظمى عن هؤلاء الأشرار أفضل. لذلك يلقي الله تعالى الأشقياءَ الأزليين في أصناف الشبهات بعيدا عن حزب الأصفياء هؤلاء ليحرموا من ثروة القبول. هذه هي السنة الجارية في الذين يأتون أئمةً ورسلا وأنبياء من الله تعالى. ولهذا السبب قد اختلق أعداء الحق ألوان الاعتراضات ضد موسى عليه السلام ونبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم ووجّهوا إليهما أصناف الطعن التي ما وُجِّهت حتى إلى إنسان صالح عادي قط. فما من تهمة إلا وقد وُجِّهت إليهما، وما من عيب إلا وقد أُلصِق بهما.” (البراهين الأحمدية، الجزء الخامس)

ثم يتابع حضرته في تبيان الخطة الإلهية في تبكيت وإفشال سعي المعارضين:

ولكن لما كان الرد العقلي على التهم كلها أمرا نظريا، والحكم في الأمور النظرية يكون صعبا ولا يطمئنُّ بها ذوو الطبائع المظلمة، فلم يختر الله تعالى الطريق النظري بل اختار طريق إراءة الآيات، واكتفى بالآيات المؤيِّدة والنصرة العظيمة لبراءة أنبيائه، لأن كل غبي وبليد أيضا يستطيع أن يدرك بسهولة بأنه إذا كان الأنبياء يتّبعون أهواءهم النفسانية وكانوا مفترين وذوي طبائع نجسة، والعياذ بالله، لما أمكن إظهار آيات عظيمة مثلها نصرة لهم. فبحسب سنة الله القديمة قد أنبأ بحقي في أجزاء البراهين الأحمدية السابقة، نبوءة ذكرتها قبل قليل، ومعناها أن الله تعالى سيُري فتوحات عظيمة وآيات جليلة تأييدا لك لتكون ردّا على اعتراضات أثارها العمهون في هذا العالم حول الجزء الأول من حياتك، لأنه ما من شهادة أكبر من شهادة عالِـم الأسرار. ولقد استُخدمت كلمة “ذنب” لأن الصولات التي يشنها المعترضون والطاعنون في المرسَلين يقومون بها حاسبين مطاعنهم في قرارة قلوبهم ذنبا. فالمراد من ذلك هو: إن الذنب يُنسب إليك مجرد نسبة، ولا يعني أن هناك ذنبا في الحقيقة. وبعيد عن الأدب أن يستنبط الإنسان من هذا الوحي الإلهي معنى أن هناك ذنبا في الحقيقة غفره الله تعالى. بل المراد من ذلك أن ما يُنسب إليهم وما يُذاع من أمور سيئة باسم الذنب سيستره الله بآية عظيمة. الجهلاء لا يدركون بأيّ معنى ينسب اللهُ “الذنب” إلى عباده المقبولين، لأن الذنب الحقيقي- أي معصية الله- يستحق العقوبة قبل أن يتوب مرتكبُه، بدلا من أن يهتم اللهُ بنفسه بأن يُري آيةً حتى تختفي وتُستَر تلقائيا الأوهام عن المطاعن والعيوب، وليلقى من يذكرها خزيا وإهانةً. لهذا السبب يقول أئمة التصوف إن زلات الأنبياء التي ذكرها الله تعالى مِثل أكل آدم الحبة، لو ذكرها أحد على سبيل الازدراء لكان كفرا، ومدعاة لسلب الإيمان، لأنهم مقبولون عند الله ومعصومون مما يعُدّه العالم ذنبا. وعداوة المرء إياهم بمنـزلة جعل نفسه عرضةً لصولٍ من الله كما جاء في الحديث الصحيح: من عادى لي وليا فقد آذنته للحرب.

باختصار، إن أهل الاصطفاء هم أحباء الله وأصحاب صلة متينة معه تعالى، ولا خير في النقد والطعن فيهم. ولا باب أقرب إلى الهلاك من أن يعادي المرء محبي الله وأحباءه كالعمهين.” (البراهين الأحمدية، الجزء الخامس)

ثم يتابع حضرته في تبيان المقصود من غفران الذنوب عموما وغفران ذنوب الأنبياء والمبعوثين:

وليكن معلوما أيضا أن المغفرة لا تعني فقط غفران الذنب الذي صدر، بل معناها أيضا الحيلولة دون انتقال الذنب من حيِّز القوة إلى حيّز الفعل، وعدم نشوء مثل هذه الفكرة في القلب. لقد أخبر الله تعالى مرارا في هذه الأنباء أيضا أنه تعالى سيحوّل حالة الخمول إلى ذيوع الصيت الحسن، ومهما ثارت الفتن فسينجيني منها. وكما كان هناك عيابون وطاعنون في البداية كذلك سيكونون في أواخر العمر أيضا، ولكن الله تعالى سيرزقني غلبة وانتصارا بيّنا فيُفحَمون أو سيُحفَظ الناس من تأثيرهم. من عادة الإنسان أنه لا ينال الهداية من ألف آية بقدر ما يستعد للإنكار متأثرا بشرِّ عيّابٍ واحد؛ لذا لم يكشف الله في هذا الوحي بأنه سيُظهر آية، بل قال تعالى بأني سأرزقك فتحا عظيما، أي سأُظهر آيةً تفتح القلوب، وتُظهر عظمتك. وقال بأن هذا سيحدث في الفترة الأخيرة من عمرك. فأقول بكل قوة وشدة بأن هذه النبوءة تخص الزمن الحالي. وأرى أن الطعن والنقد قد تجاوز الحدود، فآمل أن آية عظيمة ستظهر قريبا تفتح القلوب وستُحيِي من جديد القلوب الميتة التي تموت مرة بعد أخرى، فالحمد لله على ذلك.” (البراهين الأحمدية، الجزء الخامس)

About الأستاذ تميم أبو دقة

من مواليد عمَّان، الأردن سنة 1968 بدأ بتعلَّم القرآن الكريم وحفظ بعض سوره وفي تعليمه الديني في سنٍّ مبكرة وبدأ بتعليم القرآن في المساجد في الثانية عشرة من عمره. انضم إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية عام 1987 قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر وكان من أوائل الأحمديين العرب. يعمل في خدمة الجماعة في المكتب العربي المركزي وفي برامج القناة الإسلامية الأحمدية وفي خدمات التربية والتعليم لأفراد الجماعة وفي العديد من الأنشطة المركزية. أوفده الخليفة الخامس نصره الله تعالى ممثلا ومندوبا لحضرته إلى عدد من الدول، وكرَّمه الخليفة نصره الله بلقب “عالِم” في العديد من المناسبات. عضو مؤسس ومعدّ في فريق البرنامج الشهير “الحوار المباشر” الذي انطلق رسميا عام 2006 والذي دافع عن الإسلام ضد الهجمة المسيحية التي انطلقت على بعض القنوات في بداية الألفية وأخمدها، والذي أسهم في تعريف الجماعة الإسلامية الأحمدية إلى العالم العربي، والذي يبث الآن مترجما ترجمة فورية إلى العديد من اللغات. وهذا البرنامج أصبح نموذجا للعديد من البرامج المشابهة في اللغات الأخرى. شارك ويشارك في العديد من البرامج الأخرى وخاصة المباشرة في اللغة العربية وفي بعض البرامج باللغة الإنجليزية. عضو هيئة التحرير لمجلة “ريفيو أوف ريلجنز” الإنجليزية العريقة التي بدأ إصدارها في زمن الإمام المهدي والمسيح الموعود عام 1902م.

View all posts by الأستاذ تميم أبو دقة