يقول الله تعالى في محكم التنزيل:
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ
أي أن الله تعالى كلما أرسل رسولا إلى أمة من الأمم أرسل معه من الآيات البينات ما يؤكد على صدقه ويثبت أنه مبعوث من الله تعالى
ولكن: هنا سؤال .. مادام كل نبي يأتي بالبينات فلماذا يتعثر الناس في قبول مبعوث السماء؟؟؟
هل الخلل في مدى وضوح البينات والأدلة على صدقه؟ أم الخلل في العيون التي لا تبتقط تلك البينات والأرواح التي لا تستشعر صدق ذلك المبعوث الرباني؟
الحق أيها الأحبة أن بينات الله تعالى واضحة وضوح الشمس لأنها من لدن عزيز حكيم .. ولكن العين المصابة بالرمد لا ترى ضوء الشمس مهما كان ساطعا
المشكلة ليست في البينات وإنما في أجهزة الاستقبال الروحانية التي نحملها ..
لقد جرت سنة الله تعالى أنه كلما بعث رسولا من عنده أوحى إليه عددا من النبوءات الغيبية المستقبلية التي تتعلق بمن يأتي بعده من الأنبياء والرسل .. ويظن الناس أن هذه النبوءات لابد وأن تكون واضحة وضوح الشمس، بحيث يخر له الناس مصدقين ومؤمنين
ولكن ذلك لم يحدث أبدا لأنه خلاف سنة الله تعالى الذي شاءت حكمته أن تكون تلك النبوءات امتحانا للناس تختبر حساسيتهم الإيمانية ومدى قدرة أجهزة استقبالهم الروحانية على استقبال بينات مبعوث السماء .. فمن الناس من يرى ببصيرته صدق المبعوثين من أول نظرة .. ومنهم من يتأخر حتى تتوسط شمس الصدق رابعة النهار ويراها كل ذي عينين .. ومنهم والعياذ بالله من طمست بصيرته وفسدت روحانيته فلا يرى نور الصدق أبدا
إن الله تعالى يريد أن يقيم جماعة المؤمنين الصادقين التي تمثل الصلاح والتقوى والعفة لا جماعة المنافقين المدعين التي تمثل مجرد الادعاء بالايمان ولا يريد لدينه أن يكون مجموعة طقوس تتحول الى عادات وتقاليد لهذا قال تعالى {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (آل عمران 180)
إذن فقد جعل الله تعالى النبوءات شبكة فلترة لتميز الخبيث من الطيب .. بل ولتميز الطيبين أنفسهم فتجعلهم درجات فمنهم الصديق ومنهم المؤمن السابق بالإيمان ومنهم المؤمن المتأخر في اللحاق بركب المؤمنين .. وميزان التفاوت بين هؤلاء جميعا هو التواضع والانكسار بين يدي الله تعالى .. وكلما كان العبد متخليا عن الكبر كلما انكشفت عليه حقائق الآيات
قال الله عزوجل { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (الأَعراف 147)
ومن علامات الكبر أن يستغني الناس عن وجود الإمام والمزكي ويظنون أنه لا حاجة لهم به مادام الكتاب بين أيديهم .. فمن ظن أنه يكفيه القرآن الكريم والسنة دون وجود القدوة والإمام العامل بهما ودون مُزكي بينهم يزكيهم ويعلمهم و يفهمهم معارف القرآن فهو مخطئ جدًا فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي الدرداء، أنه قال: كنا مع رسول الله عليه السلام، فشخص ببصره إلى السماء فقال: « هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء » فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول الله وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا؟ فقال: « ثكلتك أمك يا زياد وإن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم »
إذا يجب أن نعرف اولا أن سنة الله تعالى في النبؤات المستقبلية أنها لابد وأن تحاط ببعض الغموض والشبهة لتفضح الذين في قلوبهم زيغ وضلال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران)
لو كانت سنة الله في النبوءات أن تكون واضحة وضوح الشمس لقبل اليهود السيد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ولو كانت النبؤات واضحة وضوح الشمس لآمن اليهود والنصارى بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم
وهنا مثال واضح أخبرنا الله جل شأنه به في القرآن الكريم {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} (الأَعراف 158)
هل نجد في التوراة والانجيل نبؤات واضحة وضوح الشمس كما يعتقد معظم الناس عن خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم؟
هل ورد في التوراة والإنجيل النبي الأمي سيكون اسمه محمد ابن عبد الله واسم أمه آمنه وأنه سوف يولد في مكة المكرمة ووغيرها من الأوصاف التفصيلية؟
لا لا يوجد، ولا يصح أن يوجد لأنه خلاف السنة الربانية الجارية .. لانه لو كانت كذلك فالصالح والطالح سوف يؤمن به وهكذا تكون الخطة الإلهية القاضية بتكوين جماعات الصادقين تكون قد فشلت والعياذ بالله .. لذا اقتضت سنة الله أن تحاط النبوءات بالغموض والشبهات ابتلاء للناس وحماية لجماعة المؤمنين.
ربما يقول البعض: إن هذه النبوءات التفصيلية الواضحة كانت موجودة فعلا في التوراة والإنجيل ولكن التوراة قد حرفت
والحقيقة إن من يزعم ذلك يسيئ الى الله عزوجل من حيث لا يدري
إذ كيف يقدم الله تعالى حجة على اليهود والنصارى بنبؤات غير موجودة في كتبهم .. ما ذنبهم اذا كان اجدادهم قد حرفوا؟!
وللتوضيح أقدم هذا المثال لكل صحاب قلب متواضع .. فهذه هي النبوءة التي وردت في التوراة بحق خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم
تقول النبوءة:
{أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. 19وَيَكُونُ أَنَّ الإِنْسَانَ الَّذِي لاَ يَسْمَعُ لِكَلاَمِي الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ. 20وَأَمَّا النَّبِيُّ الَّذِي يُطْغِي، فَيَتَكَلَّمُ بِاسْمِي كَلاَمًا لَمْ أُوصِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، أَوِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِاسْمِ آلِهَةٍ أُخْرَى، فَيَمُوتُ ذلِكَ النَّبِيّ} (اَلتَّثْنِيَة 18: 18-20)
عندما اتكلم مع اليهود أسالهم عن هذه النبؤة التي تشير بشكل واضح لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وأخاطبهم كالتالي:
السؤال الأول: الله تعالى يقول أقيم لهم من “هم“.. في الأية يقولون بني إسرائيل.السؤال الثاني: “من وسط إخوتهم” من هم إخوة بني إسرائيل يقولون العرب بني اسماعيل. السؤال الثالث لماذا الله تعالى قال ” مِثْلَكَ” ولم يكتفي بالقول “أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا” لأن ما يميز موسى عليه السلام عن باقي أنبياء بني اسرائيل أنه هو الوحيد النبي المشرع.. إذا لماذا الله تعالى يرسل نبي جديد مثل موسى مشرع مادام الله ارسل موسى وانزل الله التوراة؟! اقول لان موسى عليه السلام كان نبيا لشعب محدد وهم بنو اسرائيل وبما ان الشريعة الموسوية كانت مؤقته واليهود انفسهم لا يستطيعون ان يعيشوا في المستقبل بهذه الشريعة أمرهم الله تعالى بقبول النبي العالمي الذي سياتي مثل موسى مشرع لك شريعته لكل زمان ومكان ولكل الشعوب. واخبرهم عن صفات ذلك النبي كما اخبرهم الله تعالى في التوراة “..وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ..” { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (4) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (5) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} واستمر بذكر النبؤة حيث يقول الله تعالى فيها “وَيَكُونُ أَنَّ الإِنْسَانَ الَّذِي لاَ يَسْمَعُ لِكَلاَمِي الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ.” انتبهوا الذي يتكلم به بإسمي وقرآننا يبدأ بسم الله وأوصانا رسول الله ان اي عمل نقوم به نذكر اسمه الله.
السؤال هل تنطبق هذه الآية التوراتية على الرسول صلى الله عليه وسلم .. والجواب: نعم وبكل تأكيد.هذا مجرد مثال للنبوءات وما يحيطها من خفاء وإلا فهناك نبؤات كثيرة وعديدة ايضا لا مجال لذكرها في هذه العجالة.
الخلاصة: أن الله تعالى اقتضت حكمته أن لا يجعل الآيات والنبوءات إلجائية بحيث تجبر الانسان إجبارا على الإيمان فيؤمن الطالح والفاسق والظالم ايضا.
وأن الطريق الأوحد لمعرفة مبعوث السماء وامام الزمان هو التخلي التام عن سوء الظن والتواضع لله عزوجل والتوجه اليه بكل تضرع وابتهال قائلين: سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحكيم