في زمن أجمع المؤرخون أنه كان زمنا حالكا غارقا في الظلمات، وفي وقت كاد الفساد يعصف فيه بمستقبل البشرية الذي كان على شفا هاوية دفعها إليه انحطاط كبير وفساد عظيم أطبق على العالم، بعث الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلـم ليكون رحمة للعالمين ولينقذ البشرية، وليكون زمن بعثة علامة فارقة أدت إلى نهضة عظيمة وفجرٍ جديدٍ للإنسانية. كانت تلك ليلة حالكة، ولكنها كانت تستر تحت جُنح ظلامها بركات عظيمة قدّرها الله تعالى للبشرية سرعان ما كشف عنها الفجر. كان ذلك الفجر هو فجر محمد صلى الله عليه وسلـم الذي أنار العالم وأخرجه من ظلمات الفسق والفساد والتبار والخسران إلى نور التقوى والصلاح والفوز والازدهار.

ومع أن العالم بأسره قد انتفع منفعة عظيمة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلـم؛ حيث حدثت ثورة روحية ومادية بأيدي المسلمين نقلت البشرية إلى عصر نور وعلم وازدهار، إلا أن المسلمين خاصة كانوا من نالوا أعظم البركات بفضل تصديقهم واتّباعهم للنبي صلى الله عليه وسلـم. لذلك فإن هذه البعثة تشكل نعمة خاصة ومنّة عظيمة من الله عليهم أراد الله أن يُذكرهم بها على الدوام.

كلّف الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلـم بالرسالة وأنزل عليه أول وحي قرآني في ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك. كان ذاك الوحي قوله تعالى:

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } (العلق 2-6)

ففي هذا الوحي أعلن الله تعالى أن هذه الكلمات من الوحي سوف تنمو وتتطور كما يتطور الإنسان من العلقة، وأن الله تعالى سيكرّمك يا محمد وسيحقق أمانيك، وأنه سيضع أساسا لازدهار عظيم للإنسانية وعلم جديد مكتوب مرقوم بالقلم؛ روحي ومادي، لم يعرفه الإنسان من قبل. وهذا ما كان!

كانت تلك بضع آيات قليلة، لكن الله تعالى قدّر أن يتبعها نزول آيات كثيرة أصبحت فيما بعد القرآن الكريم؛ ذلك الكتاب الكامل. فكأن هذه الآيات الأولى كانت بمنزلة العلقة التي تطورت لتصل إلى الكمال في صورة القرآن الكريم. فكانت تلك الليلة التي نزلت فيها تلك الكلمات ليلة قدْر القرآن الكريم!

كان الله تعالى قد أعدّ النبي صلى الله عليه وسلـم ورباه وجعله على خلق عظيم، وجعل قلبه معلقا به، وجعله سراجا منيرا، وفي تلك الليلة قدّر الله تعالى أن يرفع هذا السراج المنير ويضعه في مداره، ليصبح شمسا للعالم الروحي والمادي. فكانت تلك الليلةُ ليلةَ قدْر النبي صلى الله عليه وسلـم، حيث كلفه الله تعالى بما قدّره له ووضعه في مكانته.

وما هي إلا سنوات قليلة قد عاين المسلمون ثم العالم أجمع ما قدّره الله تعالى في تلك الليلة. وبدأ المسلمون خاصة ينعمون بالبركات الهائلة لتلك البعثة المباركة في حياتهم الروحية والمادية.

وتذكيرا بهذه النعمة العظيمة، فقد قطع الله تعالى عهدا مع الأمة الإسلامية تعهّد فيه أن يحافظ على هذه النعم وتلك البركات، وأن يجددها لهم باستمرار فيما لو قاموا بما يترتب عليهم. ففرض على المسلمين أن يصوموا هذا الشهر الكريم – الذي وضع فيه الله تعالى أساس كل النعم التي ينعمون بها ببعثة النبي صلى الله عليه وسلـم وابتداء وحي القرآن في رمضان- امتنانا وشكرا لله تعالى، ثم تعهد أنه سيكرمهم بليلة خاصة في هذا الشهر سينـزل عليهم فيها نعما خاصا وبركات عظيمة، ويستجيب فيها دعاءهم. وسيجدد لهم فيها إيمانهم بإنزال تجليات خاصة عليهم يستشعرون فيها بقرب الله تعالى منهم، وكأنه تعالى يكشف عن وجهه ويقول: يا من تطلبونني وتسألون عني، ها أنذا!

فما أروع هذا العهد الذي قطعه الله تعالى! وما أسعد الأمة الإسلامية بهذا الإله المتجدد لعباده الذي شقّ لهم الطريق لكي يعاينوا آيات وتجليات وبركات متجددة تقوي إيمانهم وتقربهم من اليقين!

وهكذا، فعلى الصعيد الفردي، ينبغي على المؤمن أن يقضى عامه كاملا في طاعة الله تعالى، مجاهدا في سبيله محاربا للشيطان، صابرا عند الشدائد، متجنبا للإثم والفواحش ما ظهر منها وما بطن، ثم يدخل رمضان تاركا أيضا شيئا من الحلال بعدما اجتنب الحرام وهجره. عندها سيكرمه الله تعالى بليلة القدر حسب منـزلته كما أكرم الله سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلـم بليلة قدره العظيمة. ويعطيه دفعة لمزيد من التقدم في العام الذي يليه، كي يرى مزيدا من النعم والتجليات والبركات.

وعلى صعيد الأمة، فلا شك أن الأمة الآن ترزحُ تحت جُنح ليلة دامسة حالكة. وخسرت الأمة كثيرا من البركات والنعم نتيجة عدم حفظها لعهد الله معها. وكما أن الله تعالى برحمانيته قد بعث النبي صلى الله عليه وسلـم في ليلة حالكة أصبحت ليلة القدر، فكان لزاما على المسلمين أن يدركوا أن هذه الليلة أيضا هي ليلة قدرٍ لهم؛ قدّر الله فيها بعثة نائب ومندوب للنبي صلى الله عليه وسلـم هو بمنـزلة القمر المنير الذي يعكس ضياء الشمس المحمدية للمسلمين كي يروا طريقهم في هذه الظلمات. هذا القمر يعلن للمسلمين وللعالم أن الشمس المحمدية موجودة، وهذا شيء من نورها أعكسه لكم، ولكنكم أنت أشحتم بوجوهكم عنها. فعليكم أن توجهوا وجوهكم تلقاء هذه الشمس كي يشرق فيكم نهار جديد.

إن سورة القدر في القرآن الكريم هي إعلان متجدد عن أن الله تعالى لن يترك العالم يغرق في الظلمات، كما لن يترك المسلمين خاصة في ليل لا نهاية له. فليت المسلمين يرون هذا القدر الذي قدره الله تعالى.

إن العهد الإلهي على صعيد الأمة يتضمن أن تقوم الأمة بواجبها كي تنال تلك البركات والنعم الروحية والمادية التي نالتها من قبل. فعلى الأمة أن ترجع إلى الإسلام الحق كي يتحقق الوعد الإلهي ويتحقق قدر الله تعالى بعودة المجد والسؤدد للمسلمين من جديد. ولكن لن يتحقق هذا إلا وفقا للخطة والقدر الإلهي. فلن يصلُح آخر هذه الأمة إلا كما صلُح أولها. فلا سبيل للعودة إلى الإسلام الحق إلا بقبول مبعوث السماء الذي جاء مندوبا للنبي صلى الله عليه وسلـم وخادما له.

فهلمّ لنيل عهد ليلة القدر المباركة، ولنشمّر عن أذرُعنا أفرادا وأمةً، ولا نكون من المتقاعسين.

About الأستاذ تميم أبو دقة

من مواليد عمَّان، الأردن سنة 1968 بدأ بتعلَّم القرآن الكريم وحفظ بعض سوره وفي تعليمه الديني في سنٍّ مبكرة وبدأ بتعليم القرآن في المساجد في الثانية عشرة من عمره. انضم إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية عام 1987 قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر وكان من أوائل الأحمديين العرب. يعمل في خدمة الجماعة في المكتب العربي المركزي وفي برامج القناة الإسلامية الأحمدية وفي خدمات التربية والتعليم لأفراد الجماعة وفي العديد من الأنشطة المركزية. أوفده الخليفة الخامس نصره الله تعالى ممثلا ومندوبا لحضرته إلى عدد من الدول، وكرَّمه الخليفة نصره الله بلقب “عالِم” في العديد من المناسبات. عضو مؤسس ومعدّ في فريق البرنامج الشهير “الحوار المباشر” الذي انطلق رسميا عام 2006 والذي دافع عن الإسلام ضد الهجمة المسيحية التي انطلقت على بعض القنوات في بداية الألفية وأخمدها، والذي أسهم في تعريف الجماعة الإسلامية الأحمدية إلى العالم العربي، والذي يبث الآن مترجما ترجمة فورية إلى العديد من اللغات. وهذا البرنامج أصبح نموذجا للعديد من البرامج المشابهة في اللغات الأخرى. شارك ويشارك في العديد من البرامج الأخرى وخاصة المباشرة في اللغة العربية وفي بعض البرامج باللغة الإنجليزية. عضو هيئة التحرير لمجلة “ريفيو أوف ريلجنز” الإنجليزية العريقة التي بدأ إصدارها في زمن الإمام المهدي والمسيح الموعود عام 1902م.

View all posts by الأستاذ تميم أبو دقة