يقول تعالى:
﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾ يٰس 14-15
تشير الآيات إلى القرية أي أُمّ القرى مكّة المكرّمة مركز الإسلام والتي أُرسل إليها رسولان هما إِبْرَاهِيمَ وإسماعيل عَلَيهِما السَلام الذي من نسله جاء رسولان أيضاً هما موسى وعيسى عَلَيهِما السَلام فكذّبوهم واتّخذوا الحجارة أرباباً من دون الله، فعزّز اللهُ تعالى برسولٍ ثالثٍ من نسل الرسولين إبراهيم وإسماعيل عَلَيهِما السَلام هو سيّدنا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي جاء بالصدق والقرآن العظيم، فجاء من نسلهما خاتم النبيين مُحَمَّدٌ ﷺ. وقد جاءت الصيغة (ثالث) بدون أل التعريف لكي تشير إلى مقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي هو أرفع وأعلى من جميع النبيين عَلَيهِ السَلام أجمعين. وبالفعل كانت بعثة الثالث أي بعثة سيدنا مُحَمَّدٍ ﷺ تعزيزاً وتقوية لصدق النبيين موسى وعيسى ؑ ضمن ابراهيم وإسماعيل ؑ عندما شهد سيدنا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بصدق وطهارة ونبوة النبيين جميعاً ومنهم موسى وعيسى ؑ وإبراهيم وإسماعيل ؑ. وقد جاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم تحقيقاً لنبوة التوراة الواردة في سفر التثنية 18:18 وفي الإنجيل متّى 21: 33-46.
تمّ كالعادة تكذيب جميع الرسل العظام صلوات الله تعالى عليهم أجمعين وهدّدوهم بالرجم فظهرت الآيات المخوفة من الله تعالى لهم لعلهم يرجعون، فجاء من أقصى المدينة أي من قرية بعيدة عن القرية المذكورة (رجلٌ) يسعى برسالة إلهية؛ أيها الناس آمِنُوا بالمرسلين المذكورين ولا تكذّبوهم فيعاقبكم الله ﷻ!
يقول تعالى:
﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ (يٰس)
هذا (الرجل) الوارد ذكره في الآيات أعلاه التي تلت مباشرة آية الرسل الثلاث هو في الحقيقة المسيح الموعود والمهدي المعهود عَلَيهِ السَلام الذي بشَّرَ ببعثته نبيّنا الأعظم مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وآسماه بـ (الرجل) في حديث معروف. وهو كالتالي:
“عن أبي هُريرة ؓ كُنّا جلوساً عند النبي ﷺ فأنزلت عليه سورة الجمعة: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم}. قال: قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثاً، وفينا سلمان الفارسي، وضع رَّسُولُ الله ﷺ يده على سلمان، ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا، لناله رجال، أو رجل، من هؤلاء».” (صحيح البخاري، كتاب التفسير، 4897)
والحديث هو تفسير النبي شخصياً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم للآية التالية من سورة الجمعة:
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (الجمعة)
فقََدْ فسَّرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثته الثانية بأنها بعثة رجل من الفرس أي المهدي. وبالفعل فقد جاء الإمام المهدي والمسيح الموعود عَلَيهِ السَلام من الفرس من مدينة قاديان القاصية ليشهد على صدق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويثبت تفوّق تعاليم الإسلام على الدين كله، وكذلك ليشهد على صدق المرسلين كافة عليهم السَلام واضعاً بذلك أُسس إحسان الظن بالله تعالى ورسله فيما لا نعلم منهم، ومن أمثلة ذلك على سبيل المثال تبيان حضرته أنَّ بوذا وكريشنا وغيرهم هُم من في الحقيقة الأنبياء الذين أُرسلوا إلى أقوامهم وَلَمْ يُذكروا بالإسم في القرآن المجيد، وبذلك تحقَّقَ الشطر الثاني من الآية ألا وهو الدعوة لاتّباع المرسلين في قوله ﷻ:
{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} (يٰس)
والأقصى: اسم تفضيل مِن قصا يقصو المكانُ وقَصِيَ يَقصَى: بَعُدَ، فالأقصى هو الأبعد وجمعُه الأقاصي. (معجم الأقرب)
فالمسجد الأقصى يعني المسجد البعيد.
كما أنَّ عبارة (أقصى) ترتبط بإشارة القُرآن الكَرِيم في موضع آخر إلى بعثة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام أيضاً في قوله ﷻ (المسجد الأقصى) الذي أسري بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إليه في فلسطين وفيه إشارة إلى المدينة البعيدة أو القصوى التي سيتحقق فيها خبر النبي ﷺ حول بناء المسجد الأقصى في تلك البقعة وكذلك إلى بعثة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام شرق (أقصى) تلك المدينة حيث بُني مسجد يحمل أيضاً اسم “المسجد الأقصى” لتتم الأنباء الإلهية، والسعي أي السرعة في التبليغ تتم من مكان بعيد إشارة لعمل المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام بسرعة وجهد لتبليغ الإسلام وتجديده كما نزل أوّل مرة. فإن رسالة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام ليس فيها مصلحة مادّية ولا رسالة جديدة بل هي دعوة الإسلام الخالص فقط. وهذا يذكّرنا بطلب المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام من كل مبايع:
«أنْ يكون الدينُ وعِزّه ومواساة الإسلام أعزُّ عنده من نفسه وماله وأولاده ومن كُلّ ما هو عزيزٌ لديه.» (شروط البيعة)
أي لا يأتِ بدين جديد ولا يسأل أجراً إلا اتّباع الإسلام.
ويشرح المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ موضوع سورة الإسراء باختصار كما يلي:
“وإنه لمن معجزات القرآن أنَّ كل سورة من سُوَره تتضمن موضوعًا مستقلاً، وفي الوقت نفسه هناك ترابطٌ قوي بين سورة وأخرى. عندما كانت سُوَر القرآن تنزل منفصلةً وآخذةً في عين الاعتبار حاجةَ المخاطَبين الأولين لم يواجه قارئوها أية مشكلة، لأن موضوع كل سورة كان مكتملاً في حد ذاته، وحين دوّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورَ بأمر الله عز وجل بترتيب مغاير لترتيبها النزولي نشأت سلسلة من المعاني الجديدة بالترتيب الجديد -بالإضافة إلى المفهوم المستقلّ لكل سورة- مما وسّع معارف القرآن ومفاهيمه بشكل محير. فتبارك الله أحسن الخالقين!
ولقد استهلَّ اللهُ عز وجل هذه السورة بذكر الإسراء إشارةً إلى أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم قد جاء ليأخذ مكان موسى عليه السلام، وأنَّ الأماكن التي وعَد بها موسى قومَه ستقع في قبضة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم سيضطر للهجرة مثل موسى، وأنَّ هذه الهجرة ستكون فاتحة خير وازدهار لأمته صلى الله عليه وسلم.
ثم تتحدث هذه السورة عن أحداث جرت مع موسى عليه السلام، وتبين كيف بعثه الله تعالى، وحقَّق الرقي لقومه بواسطته، وكيف حذّرهم من أن ينسوه سبحانه وتعالى في أيام الغلبة، ولكنهم لم ينتفعوا بهذا التحذير، فنالوا عقابًا شديدًا.
ثم يؤكد الله عز وجل أنه قد جعل القرآن أقوى تأثيرًا من التوراة، لذا فإن الانقلاب الذي سيُحدثه القرآنُ سيكون أعظمَ من الذي أحدثتْه التوراة. ولكن القرآن أيضًا مهدَّد بالخطر نفسه الذي هدَّد التوراة، حيث سينغمس أهله أيضًا في الفسق والفجور أيام ثرائهم ورخائهم، لذا نبّهت هذه السورة أنَّ كسب الدنيا ليس أمرًا سيئًا في حد ذاته، ولكن ينبغي للإنسان أن يكسب الدنيا غيرَ مقصِّر في ذكر الله تعالى وفعل الخيرات.
ثم فصّلت السورة مبادئ الخير وأصوله، وأخبرت أنَّ منكري القرآن حين يسمعون هذه المبادئ يعرضون عنها استكبارًا، غافلين عن مصيرهم، بدلاً من أن يتدبروا فيها، وإذا ذُكّروا بالمصير فلا يبالون كذلك، ولذا فإن مناهضي القرآن-سواء أكانوا من الخارج أو الداخل- سوف يلقون عقابًا شديدًا من الله تعالى. سيحلّ بالدنيا عند اقتراب القيامة، أي في زمن المسيح الموعود، عذاب شديد لتكذيب الناس القرآنَ الكريم، وستقع عندئذ حرب أخرى بين الملائكة وإبليس سينتصر فيها أتباعُ آدم.
ثم أوضح الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أنَّ القوم يريدون تدميرك، ولكننا قد قدّرنا لك غاية عظمى: سنذيع صيتك إلى أرجاء العالم حتى آخر الأزمان، وسنكشف كفاءاتك للدنيا قاطبةً.
ثم بيّن عز وجل أننا قد جعلنا القرآن لينفع إلى أبد الآبدين، وسوف نكشف به الخزائن الروحانية شيئًا فشيئًا، لأن الله تعالى ليس ببخيل.
وفي الختام ذكر الله تعالى علاماتِ الزمن الأخير وفِتنَه، مذكِّرًا أنَّ الدعاء هو الوسيلة للوقاية من تلك الشرور والفتن.” انتهى (من التفسير الكبير)
فتبارك من عَلَّمَ وتََعلَّم.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ