مع أن المدائح النبوية قد ابتدأت منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم استمرت على مدى التاريخ الإسلامي إلى يومنا هذا – وقد نظم فيها المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام روائع وبدائع تضمنت جوانب لم يلتفت إليها السابقون أيضا – إلا أن أيا من السابقين لم يلتفت إلى مدح القرآن الكريم قبل المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، وشاء الله تعالى أن تكون له الأسبقية المطلقة في هذا المجال. وإلى يومنا هذا لا يوجد سوى محاولات هزيلة من بعده لا تقارن مطلقا بما قدَّمه حضرته من مزايا القرآن الكريم التي ما زالت محجوبة عن كل من احتجب عن حضرته ولم يعرفه.

وهذه الأسبقية لم تكن من فراغ، بل سببها أن حضرته قد أحبَّ القرآن الكريم حبًّا جما وعرفه معرفة عميقة لم تتيسر للأولين، وهذه المحبة والمعرفة هي التي فجَّرت هذا المدح المتدفق الرقراق العذب الذي تذوب الروح بسماعه. يقول حضرته واصفا القرآن الكريم وفضله عليه وأثره:

وكنت أجد قلبي مائلا إلى القرآن ودقائقها ونكاتها ومعارفها. وكان القرآن قد شغفني حبا، ورأيت أنه يعطيني من أنواع المعارف وأصناف الأثمار لا مقطوعة ولا ممنوعة، ورأيت أنه يقوي الإيمان ويزيد في اليقين.
ووالله إنه دُرّة يتيمة. ظاهره نور، وباطنه نور، وفوقه نور، وتحته نور، وفي كل لفظه وكلمته نور. جنّة روحانية، ذُلِّلتْ قُطوفها تذليلا، وتجري من تحته الأنهار. كل ثمرة السعادة توجد فيه، وكل قبس يُقتبس منه، ومن دونه خَرْطُ القَتاد. موارد فيضه سائغة، فطوبى للشاربين. وقد قُذف في قلبي أنوار منه ما كان لي أن أستحصلها بطريق آخر. ووالله لولا القرآن ما كان لي لطف حياتي. رأيتُ حسنه أزيد من مائة ألف يوسف، فملت إليه أشد ميلي، وأُشْرِبَ هو في قلبي. هو رباني كما يربّى الجنين. وله في قلبي أثر عجيب، وحسنه يراودني عن نفسي. وإني أدركت بالكشف أن حظيرة القدس تسقى بماء القرآن. وهو بحر مواج من ماء الحياة، من شرب منه فهو يحيا بل يكون من المحيين. ووالله إني أرى وجهه أحسن من كل شيء. وجه أُفرِغَ في قالب الجمال، وأُلبس من الحسن حلّةَ الكمال” (التبليغ)

هذا العرفان والشغف بالقرآن الكريم قد تفجرَّ في قريحته مدحا للقرآن في العديد من القصائد التي منها قوله:

وما القرآن إلا مثلَ دُرٍّ … فرائدَ زانَها حسنُ البيان
وما مسّتْ أكفُّ الكاشحينا … معارفَه التي مثل الحَصان
به ما شئتَ مِن علم وعقل … وأسرارٍ وأبكار المعاني
يسكِّت كلَّ مَن يعدو بضغنٍ … يبكّت كلَّ كذّاب وجاني
رأينا دَرَّ مُزْنتِه كثيرًا … فدَينا ربَّنا ذا الامتنان
وما أدراك ما القرآن فيضًا … خفيرٌ جالبٌ نحو الجِنان
له نورانِ نورٌ من علوم … ونورٌ من بيان كالجُمان
كلامٌ فائق ما راقَ طرفي … جمالٌ بعده والنَّيِّران
أَياةُ الشمس عند سَناه دَخْنٌ … وما لِلَّعْلِ والسِبْت اليماني
وأين يكون للقرآن مِثلٌ … وليس له بهذا الفضل ثاني
……..
وكل النور في القرآن لكنْ … يميل الهالكون إلى الدخان
به نلنا تُراثَ الكاملينا … به سِرْنا إلى أقصى المعاني
فقُمْ واطلُبْ معارفه بجهدٍ … وخَفْ شرَّ العواقب والهوان
(نور الحق)

وفي قصيدة صعبة تظهر قدراته الفائقة في العربية باختياره رَويًّا نادرا وقافية صعبة وكلمات جزلة قال مادحا القرآن الكريم:

لَمَّا أرى الفرقانُ مَيْسمَه تردَّى مَن طغى 
مَن كان نابِغَ وقتِه جاء المواطنَ ألثغَا
وإذا أرى وجهًا بأنوار الجمال مُصبَّغا 
فدَرَى المعارضُ أنه ألغى الفصاحة أو لغا
من كان ذا عينِ النهى فإلى محاسنه صغى 
إلا الذي مِن جهله أبغى الضلالة أو بغى
عينُ المعارف كلّها آتا ه حِبٌّ مُبتغى 
لا يُنبِئنّ ببحره الزخّار كلبًا ُولغا
اِقْبَلْ عيونَ علومه أو أَعرِضَنْ مُستولِغا 
واتْبَعْ هداه أَوِ اعْصِه إن كنتَ مُلْغًى مُتّغا
ما غادرَ القرآنُ في الميدان شابًا بُرْزَغا 
قتَل العِدا رعبًا وإن بارى العدوّ مُسبَّغا
قد أنكروا جهلاً وما بلغوه علمًا مَبْلغًا 
حتى انثنَوا كالخائبين وأضرموا نار الوغى
نورٌ على نور هُدًى، يوما فيوما في الثغا 
مَن كان مُنكِرَ نوره قد جئتُه متفرّغا
فيها العلوم جميعها وحليبُها لمن ارتغى 
فيها المعارف كلها وقليبُها بل أبلغا
أعطى الورى بدِلائه ماءً مَعينًا سيِّغَا 
أروى الخلائقَ كلهم إلا لئيمًا أبْدَغا
مَن جاءه متبختِرًا وأرى مُدًى أو مِبْزَغا 
فتراه مغلوبا على تُرْبِ الهوان ممرَّغا
سيفٌ يكسّر ضرسَ مَن بارى وجاء مُثَغْثِغا 
أسدٌ يمزّق صولُه إن رَاغَ جملٌ أو رغا
ويلٌ لِكَفّارٍ لديغٍ لا يفارق مَلدَغا 
ويل لمن بزَغتْ له شمس فعادى مَبْزَغا
مَن فرَّ من فيضانه الأعلى ومما أفرغا 
ما كان قلبًا تائبا بل كان لحمًا أسْلَغا
(نور الحق)

ولم يكن سبقه في مدح القرآن الكريم مقصورا على اللغة العربية، بل كان سبَّاقا أيضا في الأردية والفارسية أيضا، والعجيب أن المشايخ في القارة الهندية حاليا لا يجدون عندما يريدون قصيدة لمدح القرآن الكريم سوى قصائد حضرته. وقد رأيت مرة فيديو لاحتفالات هؤلاء المشايخ يبثون فيه نشيدا لقصيدة لحضرته في مدح القرآن الكريم.

ولا تقتصر الأفضلية على هذا الغرض الذي من العجيب أنه لم يُطرق سابقا، بل لحضرته أيضا الأسبقية في كثير من الجوانب في الأسلوب والتعابير في العربية. فقد قدَّم حضرته كثيرا من التعابير التي لم يُسبق إليها في شعره تصلح حِكَما وأمثالا ستدرج على ألسنة العرب بعد فترة وجيزة إن شاء الله، بعد أن يتبحروا في شعره ونثره العربي. فمن أمثلة هذه الروائع أقدِّم هذه القصيدة التي يصلح كل بيت فيها ليكون حكمة ومثلا:

بِوحشِ البَرِّ يُرجَى الاِئتلافُ … وكيف الاِئتلاف بمن يَعافُ
قرَينا المعرِضين بطيّباتٍ … فردُّوا ما قرَيناهمْ وعافُوا
بحُمْقٍ يحسَبون الدَّرَّ ضَرًّا … وأجيافُ الفساد لهمْ جُوافُ
فما أردَى العِدا إلا إباءٌ … وظنُّ السَّوء فينا واعْتسافُ
كلابُ الحيِّ قد نبحوا علينا … ولا يَدْرُون حِقدًا ما العَفافُ
وقد صِرنا حُدَيَّا الناسِ طُرًّا … وبرهاني لِمُرّاني ثِقافُ
أرَى ذُلاً بسُبْلِ الحقّ عِزًّا … ووَهْدِي في رِضا المولى شِعافُ
وإنّ الله لا يُخزِينِ أبدًا … أنا البازي المُوقَّرُ لا الغُدافُ
فما للعالمين نسُوا مقامي … قلوبٌ في صدورٍ أو وِحافُ
وقاموا كالسِّباع لهتكِ عِرضي … وما بقِي الوِفاق ولا الوِلافُ
ولا يدرون ما حالي وقالي … فإن مقامنا قصرٌ نِيافُ
تراهم مفسدين مكذِّبينا … وسِيرتهم عُنودٌ وانْتِسافُ
فمِن كفرانهم ظهَر البلايا … وقحطٌ ثم ذَأْفٌ وانجِعافُ
وإنّ المُلك أجدبَ مَعْ وباءٍ … ويُرجى بعده سَبعٌ عِجافُ
إذا ما جاء أمرُ الله مَقتًا … فلا أعنابَ فيه ولا السُّلافُ
وهذا كله مِن سوء عملٍ … وبِرٍّ ضيَّعوه وما تَلافُوا
فتوبوا أيها الغالون توبوا … وأَرْضُوا ربَّكم تَوْبًا وصافُوا
وخافَ اللهَ أهلُ العلم لكنْ … غَوِيٌّ في “البطالة” لا يخافُ
له شِيَمٌ كأنّ البِيشَ فيها … ومَعْهَا عُجْبُه سمٌّ زُعافُ
له عند اللُبانة كلُّ مَيلٍ … وتلبيةٌ بطَوعٍ والطوافُ
ولما حازَ مطلبَه وأَقْنَى … فبارَى كالعِدا وبدا الخِلافُ
(مكتوب أحمد)

وهذه القصيدة ليست سوى نموذج، وإلا فشعره ونثره أكثره على هذه الشاكلة.
وهكذا فقد حاز حضرته القدرة الفائقة الإعجازية التي هي ثمرة التعليم الرباني المعجز، وحاز أيضا الأسبقية في أغراض الشعر والنثر فيما لم يتطرق له أحد من قبله وما لم يكن بمقدور أحد أن يتطرق إليه.

إنَّ ما أنا مستيقن منه أن أي أديب أريب أو شاعر مجيد يطَّلع على شعر المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام ونثره فلا بد أن يقرَّ بعلوِّ كعبه ومقدرته الفائقة، وإذا كان من ذوي الطبائع السعيدة فهذا وحده سيكون كافيا ليفتح الله قلبه للإيمان. أما الصمُّ البكم البُله الجهلة الذين لا حظَّ ولا نصيب لهم في الأدب والشعر فلو تطاولوا بوقاحة وسفاهة على جهلهم فهذا لن يكون سوى علامة على استغراقهم في الجهل وسيكون سببا لخزيهم وهوانهم عند العقلاء.

About الأستاذ تميم أبو دقة

من مواليد عمَّان، الأردن سنة 1968 بدأ بتعلَّم القرآن الكريم وحفظ بعض سوره وفي تعليمه الديني في سنٍّ مبكرة وبدأ بتعليم القرآن في المساجد في الثانية عشرة من عمره. انضم إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية عام 1987 قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر وكان من أوائل الأحمديين العرب. يعمل في خدمة الجماعة في المكتب العربي المركزي وفي برامج القناة الإسلامية الأحمدية وفي خدمات التربية والتعليم لأفراد الجماعة وفي العديد من الأنشطة المركزية. أوفده الخليفة الخامس نصره الله تعالى ممثلا ومندوبا لحضرته إلى عدد من الدول، وكرَّمه الخليفة نصره الله بلقب “عالِم” في العديد من المناسبات. عضو مؤسس ومعدّ في فريق البرنامج الشهير “الحوار المباشر” الذي انطلق رسميا عام 2006 والذي دافع عن الإسلام ضد الهجمة المسيحية التي انطلقت على بعض القنوات في بداية الألفية وأخمدها، والذي أسهم في تعريف الجماعة الإسلامية الأحمدية إلى العالم العربي، والذي يبث الآن مترجما ترجمة فورية إلى العديد من اللغات. وهذا البرنامج أصبح نموذجا للعديد من البرامج المشابهة في اللغات الأخرى. شارك ويشارك في العديد من البرامج الأخرى وخاصة المباشرة في اللغة العربية وفي بعض البرامج باللغة الإنجليزية. عضو هيئة التحرير لمجلة “ريفيو أوف ريلجنز” الإنجليزية العريقة التي بدأ إصدارها في زمن الإمام المهدي والمسيح الموعود عام 1902م.

View all posts by الأستاذ تميم أبو دقة