مما لاحظته بمرور السنين، أنه بمجرد أن يبدأ المرض يتسرب إلى قلب أحدهم حتى يبدأ بالنزوع إلى ما يسمى بالفكر الحر، فيعلن نفسه مفكرا حرا، ويبدأ يتشدَّق كثيرا بمزايا التحرر الفكري وبأهمية الابتعاد عن التعصب والانغلاق، وبضرورة قبول الرأي والرأي الآخر، وبأهمية الانفتاح على الآخرين بصدر رحب وذراعين مفتوحين، ويبدأ يبشر برسالة الحرية والديمقراطية الموعودة التي ستحرر العالم ويقدِّم نفسه كأحد رسلها وروادها!
والملفت للنظر أنني لاحظت هذا العرض المرضي مرارا لأناس قد لا يعرف بعضهم بعضا، ولكنهم يسيرون على نفس الخُطى وكأنهم قد تواصوا بها. وحالتهم أسميها متندرا بمتلازمة المفكر الحر ( Free Intellect Syndrome “FIS” )، وأعتبر نفسي أنني صاحب براءة اكتشافها، ولكنني لا أطالب بحقوق!
والواقع أن هؤلاء إنما يخدعون أنفسهم قبل أن يسعوا لخداع الآخرين، وما صيحة صيحة التحرر هذه التي يطلقونها إلا صدى صيحة الشيطان الأزلية؛ الذي رفض الانصياع والعبودية لله، ورفض طاعة آدم خليفة الله، ورأى أن قيد الطاعة لا يليق به وبمكانته ومنزلته وعقله الراجح، وأن الطاعة والانقياد والانصياع هي فعل العبيد والجهلة والأغبياء. ومع أن هذا الدرس هو الدرس الأول الذي يعلمه الله تعالى في القرآن الكريم للسالكين في قصة آدم في بدايته، إلا أن هؤلاء يغفلون عن هذا الدرس، رغم ادعائهم وظنهم أنهم علماء، وأنهم وعوا وأدركوا ما لم يدركه غيرهم.
والواقع أن الإنسان إنما خُلق للعبودية؛ فإما أن يختار العبودية لله تعالى ويحقق الغاية من خلقه، أو أنه سيجد نفسه عبدا لما سواه من الآلهة الباطلة التي ما هي إلا مظاهر متنوعة للشيطان. والذي يظن أنه يضع عن رقبته نير العبودية ويتحرر، فبمجرد أن يطلق صيحة الحرية هذه، سيجد الشيطان عنده ليضع القيود في يديه ورجليه والغلَّ في عنقه، ثم يبدأ بتطويحه فيشعر بشيء من النشوة كنشوة الطيران، قبل أن يطرحه الشيطان أرضا بقوة، ثم يجره جرا وراءه بعد أن تتكسر عظامه وتخور قواه ويصبح عاجزا لا حول له ولا قوة، ولا فائدة ترجى منه. وهذه النهاية البائسة هي خاتمة قصص التعساء الذين يختارون هذه الطريق، وهي التي ذكرها القرآن الكريم مرارا للعبرة والعظة، ولكن هيهات لهم أن يتعظوا!
والواقع أن الطاعة والانمحاء والانصياع الكامل هي سبيل الترقي الروحاني والمادي، بينما التمرد والتحرر المزعوم إنما هو طريق الخراب والفساد والهلاك، لذلك نجد أن الإسلام قد شدد كثيرا على أهمية الطاعة، بل ورتَّب القرآن الكريم المدارج الروحانية على الطاعة وحدها، إذ يقول تعالى:
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا }
(النساء 70)
فالطاعة تورث أنوارا ودرجات لا تُنال بالمجاهدات وبظاهر العبادات، وهي في أصلها شعور وإرادة واعية لكي يقدم الإنسان نفسه ورقبته لسكين طاعة الله تعالى ونظام خلافته المتمثل في النبوة والخلافة، ولا يستحق المسلم لقب المسلم الحق إلا إذا تفانى فيها وسار على طريق النبي صلى الله عليه وسلم الذي بلغ الكمال فيها بحيث أمره الله تعالى أن يقول:
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
(الأَنعام 163)
ولنا في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، إذ كانوا منصاعين تماما وطائعين وكأنهم لا عقل لهم ولا إرادة عند النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ثبت بعد ذلك عندما استخلفهم الله تعالى أنهم كانوا ذوي حكمة وعقل راجح وإرادة صلبة كانت هذه كلها في الواقع ظلا لصفات النبي صلى الله عليه وسلم التي اكتسبوها منه بطاعتهم وانمحائهم فيه.
وعودة إلى هؤلاء، فستجد أن يبدأون يأتون بأمور عجيبة غريبة منها ما يخالف صريح القرآن والسنة، حتى إنهم قد يحلِّون الحرام ويحرمون الحلال، وهذا لأنهم وضعوا لأنفسهم قواعد جعلوها فوق القرآن وفوق كل شيء، فتراهم لا يقيمون وزنا لكلام الله ولا لكلام رسوله ولا لحُكْم الحكَم العدل المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، ويعرضون عن الخلافة متحايلين، ولكنهم بعد فترة سيجدون أنفسهم في صراع حتمي يخرجهم من نفاقهم الذي يعيشونه، فتبدأ أصواتهم بالتعالي وتبدأ صرخات الحرية المزعومة والإصلاح المنكرة بالارتفاع دون غضاضة.
ثم ما هي إلا فترة وجيزة حتى يأخذهم جنونهم مأخذا ويغرر بهم الشيطان بحيث يظنون أنهم بفكرهم الحر المزعوم سيغيرون العالم، ويبدأون بطرح أنفسهم كمصلحين ومجددين، إما بدعوة صريحة، أو بنفثات ينفثون بها فكرهم المريض الذي يتسللون به لواذا، ظانين أنهم بذلك سيجذبون من يحسنون بهم الظن شيئا فشيئا فيتقبلونهم.
ثم شيئا فشيئا ستجدهم يتورطون في الخطايا والآثام، ويبدأون باتباع خطوات الشيطان، ثم شيئا فشيئا ستجدهم يبدأون يمقتون المسلمين وينتقدون سلوكهم ومعتقداتهم بشدة تُظهر أن قلوبهم خالية من المواساة تجاههم، ثم يبدأون بالنظر إلى ما يتمتع به العالم الملحد من مزايا وإنسانية وتقدم ورقي ويجدون قلوبهم تنجذب نحو هذه الأمم ويبدأون بكيل المديح لهم والتسبيح بحمدهم، فيلقي الشيطان في قلوبهم بعد ذلك الشك في جدوى الإسلام من أساسه، ويبدأون ينكرون إن كان للإسلام أثر أصلا في التمدن أو في ترقي الحياة الإنسانية، ويرون أن العالم الغربي هو عالم حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، بينما عالم الإسلام يغرق في الظلم والفساد وهضم الحقوق والقسوة والهمجية، فما الذي يريد الإسلام أن يقدمه للغرب الملحد؟ الأجدر أن يقبل المسلمون دين الغرب الذي هو الإلحاد ويتركوا هذا الإسلام الذي لا يبدو أنه يصلح لشيء أو لديه ما يقدمه للحضارة الإنسانية.
وهكذا يسير بهم فكرهم الحر إلى الإلحاد حتما، سواء أعلنوا ذلك أو جعلوه مكنونا في صدورهم فاكملوا مسيرة حياتهم يعيشون بالنفاق خشية اللوم والفضيحة. لذلك تجدهم يبدون تسامحا منقطع النظير مع أعداء الدين، بل ويتصادقون معهم ويدافعون عنهم وعن حقهم في التعبير عن رأيهم الذي ليس هو سوى إساءات وشتائم. وهذا ليس بسبب إيمانهم العميق بأهمية الحرية، ولكن وانعدام هذه الغيرة من قلوبهم إنما هو علامة على أن الإيمان قد تلاشى، وأصبح أثرا بعد عين.
هذه الطريق الواضحة للانحراف قد بيَّنها القرآن الكريم تبيانا لا زيادة عليه، ولا يستطيع هؤلاء أن يخادعوا الله أو الذين آمنوا، فهم لا يخدعون إلا أنفسهم. ورغم أن هذا المنحدر الخطر يصعب الرجوع منه، إلا أن طريق التوبة لا يغلقها الله تعالى. فلو عزموا على التوبة فسيجدون أن الله تعالى سيرسل ملائكة يحملونهم ويصلحون ما فسد من شئونهم. ولكن إن أصروا واستكبروا استكبارا، فبئست الطريق وبئس المآل، ولن يجنوا سوى الخزي والندامة في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة.