كيف نال التمرد والثورة والانقلاب هذه الهالة القدسية الممجدة، وتحوَّل من عمل المجرمين واللصوص والخونة إلى عمل وطني مكرَّم بل وإلى عمل ديني صالح؟
في العالم، كان للثورة الفرنسية والثورة البلشفية في روسيا دورا كبيرا في هذا، بسبب نجاح تلك الثورات في القضاء على نظم الحكم. أما لو فشلت تلك الثورات في حينه لأصبحت الآن تُذكر في تاريخ تلك البلاد بأقبح الأوصاف وأشنعها. ولكن نجاحها قد ترك أثرا على قيم الشرق والغرب؛ فالثورة الفرنسية أسهمت في إلهام حركات التمرد في الغرب وفي العالم الذي لا تحكمه أيديولوجيات، كما أسهمت الثورة البلشفية في إلهام حركات الثورة والتمرد في الشرق.
أما الثورة في الإسلام فتاريخها بغيض ومذموم، وكانت مدانة بشدة وبقوة في تعاليم الإسلام وتاريخه، حتى جاء هذا الزمان الأخير الذي أُقحمت فيه قيم التمرد والعصيان والثورة والانقلاب في الفكر الإسلامي ورُوِّج لها وكأنها مبادئ إسلامية أصيلة، وتَشَارك المسلمون مع غيرهم من الشعوب والأمم في تمجيد الثورة والتمرد والعصيان واعتبارها سلوكا مشروعا بل ومقدَّسا.
والواقع أن إقحام هذا المنطق البغيض إلى الفكر الإسلامي كان بارتكاب جريمة نكراء بحق الإسلام وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فأصل هذا الفكر التمردي الإجرامي يستند إلى تحريف السيرة النبوية؛ حيث استُقرِئت السيرة بصورة مغلوطة وحرِّفت. فبدلا من أنها تروي قصة اضطهاد كبير وظلم عظيم تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون وسُمح لهم أخيرا بدفعه بالقوة مقابل القوة الطاغية المجرمة المعتدية، تحوَّل الأمر إلى أن الإسلام إنما هو حركة ثورية يتضمن خطة كانت في ذهن النبي صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول، إذ كان ينوي الاستيلاء على السلطة والقضاء على معارضيه بالقوة، ولكنه كان يخفيها إلى أن امتلك القوة وتمكَّن، ثم بدأ بتنفيذها علنا، وكان هدفه النهائي هو أن يكره الناس على أن ينضموا إليه أو يخضعوا له صاغرين أذلاء وإلا فلا سبيل أمامهم سوى الموت!! ولتبرير هذه الفكرة القبيحة الإجرامية حُرِّفت السيرة والتفاسير، وبناء عليها صيغت النظريات والمناهج للأحزاب والتنظيمات الإسلامية.
فخطورة هذه الفكرة لا تكمن فقط في خطئها، بل في جريمة محاولة تحريف الإسلام العظيم وتشويه تاريخه لتبريرها، ناهيك عما نجم عن استحكامها وتجذرها في الفكر الإسلامي المعاصر من ويلات ومآسٍ يعاني منها العالم بمجمله، إلا أن المسلمين هم أكثر الناس تضررا بها.
والواقع أن الإسلام يحرِّم التمرد والعصيان والثورة مطلقا، ويأمر بطاعة ولي الأمر في كل شيء في غير معصية مهما كان دينه أو ملَّته، ولا يسمح للمسلم بشق عصا الطاعة بحجة أنه أُمر بمعصية، بل أمره الإسلام ألا يطبق هذه المعصية فقط. وقد نهى الإسلام عن السعي للحكم للأفراد والجماعات، بل واعتبر أن مجرد الرغبة في الحكم وولاية الأمر يُعدُّ سببا كافيا لعدم أهلية صاحب هذه الرغبة؛ لأنه ما رغب في هذه المسئولية إلا لتحقيق غاياته الشخصية، لا لخدمة الناس وإحقاق حقوقهم. فقد ورد في الحديث أن رجلين جاءا النبي صلى الله عليه وسلم يطلبان الولاية فكان رده صلى الله عليه وسلم:
{إِنَّا لَا نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَأَلَهُ وَلَا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ} (صحيح البخاري, كتاب الأحكام)
أما التمرد والثورة بحجة إحقاق الحقوق أو لتغيير نظام الحكم الفاسد فليس له سلف في تاريخ الإسلام إلا في ثورة المنافقين في زمن عثمان رضي الله عنه، الذين خرجوا على النظام وأرادوا إسقاطه، وكان هدفهم الحقيقي القضاء على الخلافة، ولكن عثمان رضي الله عنه بتمسكه بتعاليم الإسلام قد أفشل مخططهم. فمن ناحية استجاب لكل مطالبهم في كل مرة، ولم يُظهر بطش وجبروت الحاكم ويستبد بصلاحياته – وبذلك قدم نموذجا للحاكم الصالح الذي لا يستهين بسفك الدماء ويسعى لإرضاء كل فئات الشعب ما استطاع- مما أذهلهم وأوقعهم في ورطة بحيث لم يترك لهم مبررا للقيام بهذه الأعمال، ومن ناحية أخرى تمسك بمنصب الخلافة الروحاني ولم يجعله خاضعا للمساومات، ودافع عن مقام الخلافة بالتضحية بنفسه، تأكيدا على أنه ليس منصبا دنيويا، وأنه أكبر من الحاكمية، وأن الحاكمية يمكن أن تسقط أو تزول، ولكن الخلافة لا تسقط أبدا، بل يرفعها الله تعالى ليعيدها حيث يشاء.
والحقيقة أن هذا التصرُّف من عثمان رضي الله عنه قد أذهل هؤلاء الثائرين المتمردين، وجعلهم – وهم الذين لم يقوموا بثورتهم إلا سعيا للقضاء على الخلافة- يدَّعون بعد قتله رضي الله عنه أنهم هم أحرص الناس على الخلافة، وأنهم يريدون أن ينتخب الناس خليفة من جديد، فهم إن نجحوا في قتل عثمان رضي الله عنه الذي كان مستعدا للتضحية بنفسه منذ البداية فقد فشلت خطتهم في القضاء على الخلافة الذي كان هدفهم الحقيقي، بل وجدوا أن الخلافة التي يرونها ليست سوى نظام حكم هي النظام الذي يمكن أن ينالوا تحته الأمان بعد جريمتهم، فأصبحوا حريصين على بقائه ولو مؤقتا بعد أن كانوا حريصين على القضاء عليه، وفي هذا درس أيضا يبين بأن نظام الحكم الصالح لو استجاب لطلبات المواطنين وتنازل لهم وأشعرهم بالاهتمام والرحمة والكرامة والاحترام فلن ينجح المتمردون في مسعاهم، بل سيتحولون ولو بعد حين إلى حماة لهذا النظام، لأنهم سيجدون أنه هو الذي سيكفل لهم الحماية.
والخلاصة أنه لا بد أن يكون واضحا، أن الثورة والتمرد والانقلاب ليست من الإسلام في شيء، وأن واجب المسلمين أن يدينوا هذا السلوك ويرسوا هذا المبدأ في منظومة القيم العالمية، ويتوقفوا عن تمجيد الثورات والتمرد والعصيانات في أي مكان في العالم وفي كل وقت من التاريخ. فبالنظر إلى العالم حاليا، وإلى الأمة الإسلامية خاصة، نجد أن الثورة والتمرد والانقلاب تعتبر أمرا مشروعا لدى الجميع، بل وممجدا عند الفريق الذي تنجح ثورته في حملهم إلى السلطة. وهذا الخلل هو الذي يولد كثيرا من الصراعات ويديمها، وهذا يعكس سلوكا مقيتا وازدواجية في المعايير تقود العالم نحو الهلاك والويلات والمآسي.
فلا يحق مثلا للإسلاميين والحركات الإسلامية التي تؤمن بالانقلاب والثورة والتمرد وتنفذه في أماكن ودول عندما تسنح لهم الفرصة بذلك أن يدينوا انقلابا على حكومة لهم قام ضدها انقلاب. فلماذا تقبلون هذا المبدأ لأنفسكم وترفضونه لغيركم؟ لماذا تتباكون على الشرعية والديمقراطية في بلاد حكمتموها وتدعون إلى التمرد والثورة والعصيان في بلاد أخرى يحكمها غيركم؟
كذلك لا يحق لأنظمة حكم قامت على انقلابات عسكرية أن تجرِّم التمرد والانقلاب والثورة، وهو الذي حملها إلى السلطة أصلا. فتغيير اسم الانقلاب والثورة والتمرد إلى حركة تصحيحية أو ما شابه من المصطلحات التلطيفية لن يغير حقيقتها الفاسدة.
والواقع أن الإسلام يقرر أنه لا يحق لفريق أن يفرض نفسه على الشعب بالقوة تحت أي مبرر، بل الواجب أن يحمل الشعب الحاكم المؤهل القوي الأمين إلى الحكم وينشئ الشعب النظام الذي يلائمه ويتوافق عليه غالبية الشعب، ثم يصبح هذا الحاكم عادلا مع كل فئات الشعب الصغيرة منها قبل الكبيرة، لا أن يكون خاضعا للعبة الديمقراطية ويهضم حقوق فئة لاسترضاء أخرى. هذا هو المبدأ الذي يطلبه الإسلام ويدعو إليه، إذ يقول تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } (النساء 59)
وأخيرا، يجب أن يتبرأ المسلمون من هذا المبدأ الإجرامي الدخيل ويقتلعوه من فكرهم. ولا يجوز لهم أن يعيشوا حالة من الازدواجية؛ فلا يجوز للمسلم أن يمجِّد انقلابا أو ثورة أو تمردا في بلاد ويدينه في بلاد أخرى، بل الواجب أن يرفض الانقلاب والثورة في كل مكان ويدين هذا المسلك ويرفضه رفضا قاطعا.
أما الظن بأن الثورة والتمرد والانقلاب هي الطريقة الوحيدة لتغيير الوضع السيئ، أو اعتبار ان انقلابا ما أو تمردا ما أو ثورة ما لها ما يبررها لأنها أزالت مجرمين عن الحكم، فهذا وهم لا يليق بمن يدعي أنه ينتمي إلى هذا الدين ويؤمن به. إن التغيير الذي يطلبه الإسلام يقوم على تغيير ما بأنفس الناس وإزالة الأفكار الفاسدة والمشاعر الحاقدة غير الإنسانية التي تجد تطبيقها وتتمثل في صور أعمال الثورة والتخريب والتمرد والعصيان، والله تعالى يتكفل بإحداث التغيير فيما لو حدث هذا التغيير في النفوس كما يقول تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد 12)
الواجب أن تتوقف دوامة الثورات والنزاعات والتمردات على الحكام، وأن يؤيد العالم عامة والمسلمون خاصة كل نظام مستقر في كل مكان – حتى وإن نشأ نشأة غير سليمة في بدايته- ويتوقف العالم عن دعم فئة متمردة في مكان بحجة أنها تقوم بثورة أو دعم حكومة ظالمة تقتل شعبها دون هوادة في مكان آخر بحجة أنها تريد إخماد الثورة، وأن يعمل الجميع لأجل الاستقرار والسلام العالمي وإرساء أجواء العدالة التي ينتج عنها الأمن الذي يقود نحو حياة أفضل للبشر جميعا وازدهارا دنيويا وأخلاقيا يحصد الناس ثمراته سعادة في الدنيا والآخرة.