يقول تعالى:
﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ -غافر : ١٦
يعلِّق القرطبي رحمه الله على معنى الروح بأنه الوحي والنبوة كما يلي: “{يُلْقِي ٱلرُّوحَ} أي الوحي والنبوة «عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ»، وسمي ذلك روحاً لأن الناس يحيون به؛ أي يحيون من موت الكفر كما تحيا الأبدان بالأرواح.” (تفسير الجامع للقرطبي، تحت الآية ١٦ من غافر)
ويتفق الإمام الطبري رحمه الله مع القرطبي ويسوق على ذلك رواية بسندها في جامعه كما يلي: “حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أمْرِهِ} قال: الوحي من أمره.” (تفسير جامع البيان للطبري تحت الآية ١٦ من سورة غافر)
ويوافقهم الإمام الرازي في تفسيره للآية بأنها تعني الوحي فيقول: “اختلفوا في المراد بهذا الروح، والصحيح أن المراد هو الوحي.. وحاصل الكلام فيه: أن حياة الأرواح بالمعارف الإلهية والجلايا القدسية، فإذا كان الوحي سبباً لحصول هذه الأرواح سمي بالروح، فإن الروح سبب لحصول الحياة، والوحي سبب لحصول هذه الحياة الروحانية.” (تفسير مفاتيح الغيب للرازي تحت الآية ١٦ من سورة غافر)
ثم يضيف رحمه الله بأن هذا الوحي يتم بـ الكشوف لمن شاءَ الله تعالى من عباده فيقول: “واعلم أن هذه الآية مشتملة على أسرار عجيبة من علوم المكاشفات، وذلك لأن كمال كبرياء الله تعالى لا تصل إليه العقول والأفهام.” (المفاتيح)
وذلك كقوله جلت عظمته: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾ -النحل : ٣
والروح هنا جبريل عَلَيهِ السَلام، وذلك مُّبِينٍ في كتاب الله العزيز حيث يقول عزَّ من قال: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ -الشعراء : ١٩٤-١٩٥
ثمة من يعترض على أن هذه الآية من سورة غافر هي منسوخة بأية خاتم النبيين، والطامة في نَسْخِ هذه الآية أنها ستعني بأن الله تعالى والعياذ بالله لم يعد رفيع الدرجات ذو العرش ! أضف لذلك أن الآية “وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ” لا تستثني الأنبياء القدماء ولا الجدد منهم، وعلى هذا فلا نبي بعد النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ولن ينزل عيسى نبي بني إسرائيل إلا أن يكون رجلاً من أمّته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم شاءَ الله تعالى أن يحظى بالمخاطبات والكشوف لن ينال من النبوة والوحي إلا كثرة المبشرات والمكالمات التي لا تحمل تشريعاً ولا نسخاً لحرف من القرآن الكريم والسنة وتكون هذه النبوة هي نبوة أستاذه صاحب الشريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فضلاً عن أن القرآن الكريم في الحقيقة كتاب أحكمت آيَاتِهِ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لا ينسخ نفسه بل ينسخ ما سبقه وَ يهيمن عَلَيهِ.
يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لم يَبْقَ من النُّبُوَّةِ إلا المُبَشِّراتُ. قالوا وما المُبَشِّراتُ؟ قال: الرؤيا الصالحةُ» (صحيح البخاري 6990)
ويقول رسول الله ﷺ: «رُؤيا المؤمِن جُزءٌ من سِتَّةٍ وَأربعينَ جُزءًا مِن النُّبوَّةِ. وفي رِوايَةٍ: عنِ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ. وَأدَرجَ في الحديث قَولَهُ: وَأكرَهُ الغُلَّ. إلى تَمامِ الكلامِ. ولم يَذْكُرِ الرُّؤيا جُزءٌ من سِتَّةٍ وأَربَعينَ جُزءًا مِن النُّبوَّةِ» (صحيح مسلم، 2263)
إن فعل “يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ” هو فعل مضارع يفيد الحال والاستقبال أي كما إنه يحدث في زمن الآية فهو يحدث كلما مسّت الحاجة فيُنزِلُ رَسُولًا بمهمة المُصْلِح لتجديد الأفهام الخاطئة عند الناس حول أصل الدين وذلك تبعاً لقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ وقوله ﷻ: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾، فيكون المعنى أن الله تعالى ينزل الروح (الوحي عن طريق جبريل) على من يشاء من عباده في وقت الضرورة القصوى كما دلت آي الكتاب المبين.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
مستلهم من كتب حضرة الداعية الأحمدي جلال الدين شمس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.