الشيطان لا يدفع الإنسان إلى الخطأ دفعة واحدة، بل يتدرَّج معه شيئا فشيئا وخطوةً خطوةً حتى يتورط في الخطيئة فتحيط به وتقذفه بعيدا عن جماعة المؤمنين ثم تلقيه في الجحيم في الدنيا والآخرة. لذلك حذَّرنا الله تعالى من اتباع خطوات الشيطان في أربعة مواضع من القرآن الكريم – لكي لا يقع الإنسان فريسة للشيطان من حيث لا يعلم – بقوله في ثلاثة مواضع:
{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}
(البقرة 169، 209 والأنعام 143)،
وبقوله في الموضع الرابع:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (النور 22)
وورود هذا التحذير بهذا التكرار في القرآن الكريم، إضافة إلى ما تحتويه الآيات من تحذير من أن الشيطان عدو مبين أو أن اتباع خطواته سوف يقود نحو الفحشاء والمنكر ويحول بين المرء وبين التزكية، يدل على أهمية بالغة يجب أن يلتفت إليها المؤمنون بهذا التحذير خاصة.
كذلك فعندما يُحذِّر الله تعالى من اتباع خطوات الشيطان فكأنه يشير تلقائيا إلى أن هذه الخطوات معروفة ومعلومة للمؤمنين، أو يسهل عليهم كشفها، فعليهم أن يحذَروا ويُحذِّروا غيرهم منها.
فلعل أول الخطوات التي يصطاد بها الشيطان أحدا من أفراد جماعة المؤمنين – وهذا عندما يبدأ المرض يتسرَّب إلى قلبه، أو عندما تنمو وتتعاظم سيئة في قلبه لم يلتفت إليها ولم يهتمَّ باستئصالها- لعل أول تلك الخطوات التي يخطوها في الابتعاد عن الجماعة ومن ثمَّ النفاق، وربما بعد ذلك الارتداد والكفر، هي أنه يبدأ بانتقاد الجماعة واحتقار عملها، ويبدأ بالقول إن الجماعة لا تعمل على ما يرام، وأن الجماعة مقصرة، وأنه لا يوجد ألفة ولا محبة بين أفرادها، وينتقد المسئولين أو بعضهم ويفتري عليهم ويتهمهم بما ليس فيهم ويحمِّلهم مسئولية ما يحاول الترويج له من فساد وهلاك في الجماعة. ويبدأ بالترويج لهذا الإفك في ثياب الناصح بين أفراد الجماعة محاولا استدارج غيره، وهو لا يدرك أنه قد اتَّبع أولى خطوات الشيطان وأصبح في وضع خطر للغاية! وتوضيحا لهذه الخطيئة المهلكة، التي هي الخطوة الأولى نحو هلاك صاحبها، قال النبي صلى الله عليه وسلم محذِّرا المؤمنين:
{إِذَا سَمِعْتُمْ رَجُلًا يَقُولُ: قَدْ هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ. يَقُولُ اللَّهُ: إِنَّهُ هُوَ هَالِكٌ}
(مسند أحمد, كتاب باقي مسند المكثرين)
فهذا الشخص الذي يبدأ بانتقاد الجماعة وعملها، ويتأسف لضعفها وتقصيرها أو تقصير المسئولين المزعوم أو فسادهم أو سوئهم، أو يتهم الجماعة بأنها لا ألفة ولا محبة فيها، أو أنها لا تهتم بأفرادها، أو أن مسئولا ما هو السبب في هذا الفساد، هذا الشخص قد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه هالك بل الأهلك، بل قال صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى سيقول عنه إنه هالك! ومعنى ذلك أن الله تعالى سيهلكه حتما، لأن الله تعالى إذا قال استجابت الملائكة وتوجهت الأسباب لتحقيق قوله.
لذلك، على المؤمنين أن يحذروا من هذه النزعة إن رأوا أنها بدأت تتولد في قلوبهم، وعليهم أن يعرفوا بأن الذي يوقع هذا الهاجس في صدورهم هو الشيطان ليبدأ باستدراجهم على خطواته. وسيلاحظ كل من بدأ الشيطان باستدراجه ووقع في هذه الخطيئة أنه سيتوجه بعد ذلك إلى الغيبة ثم إلى البهتان شيئا فشيئا، ثم سيسعى لإثارة الفتن والقلاقل. وقد رأينا بأمِّ أعيننا كيف سار المنافقون والمرتدون على هذه الخطوات التي كانت أولها هذه الخطوة.
على المؤمنين أن يستمعوا إلى تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من كل من ينتقد الجماعة ويتهمها بالضعف والتقصير، وعليهم ألا يستمعوا إلى انتقاد المسئولين والنظام أو حال الجماعة؛ لأن هذا الانتقاد ليس من النصح الشرعي في شيء بل هو إفك يريدون نشره. وعليهم أن ينصحوا شخصا كهذا إن جاءهم بأن ينتهي، وعليهم ألا يسمعوا لكلامه هذا من بعد، وعليه هو أن ينتهي ويستغفر الله تعالى كي لا يقع فيما لا يُحمد عقباه.
أما إذا ظن هذا الشخص أن نيَّته حسنة، وأنه ناصح للجماعة، فعليه أن يكثر من الدعاء لها ولإخوانه، وأن يحسِّن من نفسه ومن صلواته وعباداته وعمله ويخضع أمام الله تعالى، فلن يضرَّه من ضل إذا اهتدى هو. لو كان هذا الشخص مخلصا وصادقَ النية فسيلحظ تغيُّرا في نفسه ثم تحسنا في حال الجماعة أيضا.
أما إذا رأى مخالفة حقيقية لبعض الأفراد أو المسئولين، فعليه أن يبلِّغ بها المسئول الأعلى في جماعته المحلية، أو أن يُرسل إلى الخليفة إذا كان المسئول نفسه متورطا أو لم يقم بما ينبغي، وذلك بعد أن يدعو كثيرا ويستغفر كثيرا، على أن لا يتحدث مع أحد في الأمر من قبل أو من بعد، ثم يترك الأمر لله تعالى.
هذه الجماعة هي جماعة الله تعالى العليم القدير المطلع على ما في قلوب عباده، ولا يمكن أن يسمح الله تعالى لعابث أو ماكر أن يفسدها، بل سيرى هذا المسكين أن العبث والمكر سينقلب عليه حتما. لا يمكن لأحد أن يصمد في هذه الجماعة ما لم يكن الاستغفار زاده والتوبة ملاذه.
نسأل الله تعالى أن يقينا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ويكشف لنا خطوات الشيطان ويجنبنا إياها بفضله ورحمته، آمين.