قبيل وفاة والدتي، رحمها الله، وفي مراحل المعالجة في مركز الحسين للسرطان، التي لم تكن سوى “عناية تلطيفية” هدفها التخفيف عن المريض كي يقضي ما تبقى له من أيام بأقل قدر من المعاناة، كانت قد خرجت من عملية جراحية، وبدأت وهي تحت تأثير البنج تفصح عما في صدرها.
أوّل ما بدأَتْ به، وهي لا زالت في غرفة العمليات، بدأت الدعاء للملك عبد الله، وتسأل الله أن يطيل عمره ويرفع قدره ويحفظ عرشه.. فعندما سمعها أحد الأطباء لم يعجبه ذلك، وبدأ يلومها وينتقد الملك.. وهو الذي يعمل في أحد مستشفيات بلاده، والذي لا بد أنه قد تعلَّم وتدرب في مؤسسات هذه البلاد تحت ظلِّ حكمه وحكم آبائه!
بعد ذلك، عندما أخرجوها إلى العناية المركزة، نادتنا إحدى الممرضات، أنا وأخي الكبير وزوجتي، وقالت إنها تطلب “محمدا”! فقلنا لها إن محمدا في كندا.. فدخلنا واستمعنا لحديثها تحت تأثير البنج، وقد تمزقت قلوبنا وأخذ منا التأثُّر والرقة كل مأخذ.. فقد سمعتها تناديني كي أذهب وأراقب أخي الصغير محمدا الذي يلعب بالكرة وتخشى أن يسقط في الماء.. كما كانت تناديني دوما لأذهب لتفقده وهو صغير..
ثم أخذت تنادينا للننتبه إلى ابنتي الصغيرة التي تربت في بيتها كي لا تقترب من المدفأة فتحرق يدها.. وأخذت تدعو ابن أخي الذي يدرس في الجامعة لكي يرتدي ملابس دافئة في الشتاء لأن لباسه خفيف.. وغير ذلك من همومها اليومية المتعلقة بأولادها وأحفادها…
عندما أفاقت، وذكَّرناها بما كانت تقول، أخبرتنا بأن أول ما خطر ببالها وهي ليست واعية تماما أن تدعو للملك، وأخبرتنا بموقف الطبيب.. ثم قالت، كيف أنسى أن أدعو له؟ فإنني أتعالج الآن على حسابه، ولو لم نحصل على المكرمة لترتب على أبنائي مبالغ طائلة للعلاج.. ثم إنني أحبه منذ كان صغيرا، وعندما كنت أراه على التلفزيون كان قلبي يلهف له كما يلهف لأحد أبنائي..
عندما استمعت إلى كلامها، حمدت الله كثيرا أن وهبني هذه الأم، هذه السيدة التي يخلو قلبها من الأحقاد، وتقدِّر أنها عاشت تحت ظل هذا النظام وأنجبت أبناءها وتعلموا وتربوا. تلك التي تقدِّر الإحسان الذي هو أصل الفضيلة وأصل تعاليم الإسلام.. تلك السيدة التي يخلو قلبها من نكران الجميل والجشع والطمع في المزيد، رغم أننا لا نحصل على الحقوق التي ينبغي أن يحصل عليها المواطن الأردني العادي نتيجة بعض الظروف والقوانين والتشريعات الظالمة، ولكن لم يمنعها ذلك من تذكُّر هذه المنن فيلهج قلبها بالدعاء.. وأدركتُ أن تعاليم الإسلام التي أسعى جاهدا لتبليغها للناس – والتي جاء الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام ليذكِّر بها، والتي من ضمنها ضرورة الشكر للحكام الذين نعيش في ظلهم بأمن وأمان – لعلني قد اكتسبت جزءًا كبيرا منها تلقائيا ووراثة فضلا من الله تعالى. فالذي لا يعرف الشكر للناس لا يمكن أن يشكر الله تعالى ويقدِّر إحساناته.. حمدت الله أننا لسنا من الجاحدين الذين إذا أُعطوا رضوا جزئيا وإذا منعوا شيئا قليلا سخطوا كليا.. والذي قد أصبح طابع غالبية الناس في هذه الأيام، مع شديد الأسف، مما أدى إلى الكوارث في بلادنا العربية.
بعد فترة وجيزة، توفيت أمي، ولكن هذا الموقف أصبح من ذكرياتي الخالدة معها التي لا تنسى..