يخبر القرآن الكريم أنه لا بد أن يخرج عدد من المجرمين لمعادة الأنبياء حتما، إذ يقول تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا }
(الفرقان 32)
ولكن الله تعالى ينبئ بأنهم سيفشلون في مساعيهم، وسيكون هذا العداء سببا لظهور صفتي الله تعالى الهادي والنصير؛ أي أن الله تعالى سيجعل هذا العداء سببا لمزيد من الهدى للمؤمنين، وسينصرهم على هؤلاء الأعداء المجرمين بشتى الوسائل.
ويخبر القرآن الكريم أن هذا العداء الحتمي جزء من النظام الإلهي للهداية، وأنه سبب لظهور قدرة الله تعالى وصفاته، وكذلك لتنقية جماعة المؤمنين من الشوائب، إذ يقول تعالى:
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } (الحج 53-58)
فيبين الله تعالى أن الشيطان سيسعى لإلقاء الشبهات والشكوك ساعيا لإعاقة عمل النبي وتحقيق أهدافه، ولكن الله تعالى سينسخ ما يلقيه الشيطان وسيحكم آياته؛ إذ تصبح الحجج والبراهين بعد هزيمة الشيطان أقوى، كما أن الله تعالى يجلِّي آيات بينات من النصرة والتأييد تُظهر صدق النبي وتقوِّي دعوته. ثم يبين الله تعالى أن هذا الإلقاء الشيطاني هدفه أن يفتتن به الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم فينصرفوا عن جماعة المؤمنين، أما الذين أوتوا العلم فيزدادون إيمانا بسبب هذا الإلقاء، ويعلمون أن ما جاء به النبي هو الحق من ربهم وتخبت له قلوبهم. ثم يبين الله تعالى أن هؤلاء المجرمين من أعوان الشيطان سيستمرون في المراء إلى قيام الساعة، وقد ينزل بهم أيضا عذاب يوم عقيم يجتثهم هم وأعوانهم وشبهاتهم حينا عندما يشاء الله. ويؤكد الله تعالى أخيرا أن مصير هؤلاء المعاندين الكافرين المكذبين بآيات الله هو العذاب المهين حتما!
ثم نجد أن القرآن الكريم يصف هذه الحالة بمزيد من التفصيل، ويبين للمؤمنين أن وجود هذه الفئة من أعداء الأنبياء يدخل ضمن المشيئة الإلهية، ويجب على المؤمنين أن يتركوهم ولا يبالوا بهم، فلو شاء الله تعالى لما أتاح لهم أن يفعلوا ما يفعلونه، إذ يقول تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ * أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (الأَنعام 113-118)
ثم يبين الله تعالى معاتبا ومتوعدا أن الذين لا يؤمنون بالآخرة سيصغون إلى هذا الإلقاء الشيطاني من قِبَل هؤلاء المجرمين وسيرضون به وسيقترفون مزيدا من الإجرام في عدائهم للأنبياء ودعواتهم، ولكن الله تعالى شهيد عليهم وسيكون مصيرهم الحتمي عذاب الخزي في الحياة الدنيا وفي الآخرة عذاب أليم. ويبين الله تعالى أن هؤلاء المجرمين لا يحق لهم أن يحكموا في آيات الله، ويقدِّم ذلك في صيغة الاستغراب على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وعلى لسان قارئ القرآن بأنه من غير الممكن أن أقبل حكَما إلا الله تعالى الذي قدَّم كل شيء مفصلا، بينما لا يقدِّم هؤلاء المجرمون سوى بعض الأمور المقطوعة ويثيرون بها الشبهات، ويعجزون عن تقديم نظام متكامل مفصل. كما يبين الله تعالى أنه سيُتم كلماته بالصدق والعدل بكلماته الثابتات التي لا تتبدل. ثم يبين الله تعالى أن طاعة أكثر من في الأرض من دون النبي وجماعته ستؤدي إلى الضلال عن سبيل الله، وأن الله تعالى الذي وضَّح ملامح ومنهج وسنَّة هؤلاء هو الذي يعلم من هم الضالون ومن هم المهتدون.
وهكذا نرى أن القرآن الكريم، ذلك الكتاب الكامل، قد فصَّل هذه الحالة تفصيلا ووضحها تماما؛ فلا ينطبق على من يعادون جماعتنا اليوم من المعارضين والمرتدين إلا هذا المثال القرآني التفصيلي. والسؤال الذي يجب أن يجيبوا عليه هو: هل ورد في القرآن الكريم مثال لأناس متقين صالحين لا عمل لهم سوى معارضة شخص مدعٍ كاذب ومعاداة جماعته؟ وهل يأمر القرآن الكريم بمعارضة دعوات المدعين الكاذبين أم يقول إن الله تعالى هو من تكفل بهم وهو الذي سيهلك المتقولين بيده ويجعل عاقبة الكذب ترتد على الكاذبين وتهلكهم؟
لم يرسل الله في يوم من الأيام أحدا ليبين بطلان دعوى مدعٍ كاذب، ولم يأمر الله تعالى المؤمنين أن يتصدوا لدعوات المتنبئين الكاذبين، بل كان الله دوما يرسل المبعوثين الصادقين بالهدى والبينات، وهو بنفسه قد قرر أن يتيح للشيطان وأعوانه من المجرمين أن يعلموا على تكذيب هؤلاء الصادقين لحكَمٍ عظيمة نتيجتها النهائية هداية من يستحق الهدى وفتنة الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ليبتعدوا عن جماعة المؤمنين فتتطهر منهم ومن شوائبهم.
هذا ما يبينه القرآن الكريم، وهذا ما تحقق على أرض الواقع؛ إذ نجد أن المصير الذي حدده الله تعالى لهؤلاء المجرمين كان الإهانة دوما قد تحقق ويتحقق باستمرار مصداقا لما جاء في القرآن الكريم وما تجدد في وحي الله تعالى للمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام إذ قال: “إني مهين من أراد إهانتك”. فلينظر كل واحد أين يقف، وما هو حكم القرآن الكريم فيه، وما هو مصيره النهائي الذي سيقع فيه لا محالة!