لم يرد في القرآن الكريم ولا في أحاديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ما يقطع بحرمة الرسم والتصوير. أما الأحاديث التي تذكر الصور ونفخ الروح فالمقصود بهم الذين يرسمون ما يمثل العقائد الباطلة أو ما يخالف الأخلاق والفضيلة أو وضع تلك الرسوم في المعابد التي يجب أن لا تحتوي على ما يشتت التركيز ويثير الغرائز ويدعو إلى الشرك والفساد.
فرسم الأشخاص للذكرى أو للمساعدة على نقل الحقيقة أو المساعدة في أمور الطب والتحقيق الجنائي والهوية وغير ذلك من أهداف صالحة لا يحرمه الإسلام. يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:
“.. ليس مذهبي أن حرمة التصوير قطعية. يثبت من القرآن الكريم أن فئة الجنّ كانوا يرسمون الصور لسليمان عَلَيهِ السَلام. وكانت عند بني إسرائيل صور الأنبياء إلى فترة طويلة بما فيها صورة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أيضا. وقد أرى جبريلُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم صورة السيدة عائشة على قطعة من حرير. والمعلوم أن صور بعض الحيوانات ترتسم تلقائيا على الأحجار في الماء. وإن جهاز التصوير المستخدَم حاليا ما كان مكتَشفا في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وهذا الجهاز مهم جدا إذ تُشخَّص بواسطته بعض الأمراض أيضا. وقد اكتُشف مؤخرا جهاز آخر للتصوير تُصوَّر به عظام الإنسان إذ يصورون به لتشخيص وجع المفاصل والنقرس وغيرهما من الأمراض فتتبين حقيقتها. وإضافة إلى ذلك هناك منافع علمية أخرى للصورة ظهرت للعيان. إن بعض الإنجليز قد نشروا في كتبهم صور حيوانات العالم حتى الجراد وأنواع الطيور والدواب مما أدى إلى تقدم علمي. فهل يُعقل أن يحرم الله تعالى الذي يرغِّب في العلوم استخدامَ جهازٍ مفيد بواسطته تُشخَّص أمراض مستعصية كثيرة، ومن ناحية ثانية هو وسيلة لاهتداء المتفرسين. فكل هذه الأفكار إنما هي نتاج الجهل. لماذا لا يرمي المشايخ من جيوبهم وبيوتهم قطعا نقديةً حُفرتْ عليها صورة الملكة؟ ألا توجد الصور على تلك النقود؟ من المؤسف أن هؤلاء الناس يقولون بغير وجه حق ما يخالف المعقول وبذلك يهيئون للمعارضين فرصة للسخرية من الإسلام. إن الإسلام يحرّم اللغو وكل ما يؤيد الشرك ولا يحرم ما يؤدي إلى ازدهار علم الإنسان ومعرفته، أو يساعد على تشخيص الأمراض ويقرِّب المتفرِّسين إلى الهدى.” (البراهين الأحمدية، الجزء الخامس، الخزائن الروحانية، المجلد 21، ص365-367. وكذلك البراهين الاحمدية، الجزء الخامس، ص 392)
وقد قصد المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام هذه الآيات من سورة سبأ:
﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ . يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾
التفسير:
“وقوله (وَتَمَاثِيلَ) يعني أنهم يعملون له تماثيل من نحاس وزجاج. كما حدثني محمد بن عمرو قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد (وَتَمَاثِيلَ) قال: من نحاس. حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة (وَتَمَاثِيلَ) قال: من زجاج وشبهه. حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال ثنا مروان عن جويبر عن الضحاك في قول الله (وَتَمَاثِيلَ) قال: الصور.” (تفسير الطبري)
كما قال حضرته عَلَيهِ السَلام ذات مرة:
“أتمنى لو أن أحدهم قد رسم صورة للنبي الكريم ﷺ خلال فترة وجوده. وحتى لو كان هذا فعلاً غير محمود، ولكن كنا على الأقل رأينا حضرته ﷺ.” (لمحات من حياة المسيح الموعود عليه السلام، بقلم: المرحوم محمد هاشم سعيد)
ولكن المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام لم يشجع على رسم أو تصوير شخصه لغرض التجارة والترويج لما لا صلة له بالدِّين والتبليغ. وفي ردّ حضرته عَلَيهِ السَلام على بعض الشبهات التي أثارها أحد المولويين يقول حضرته:
“قوله: لقد جاء في الأحاديث وعيدٌ شديد على تصوير كائن حي، ولكن لما نُشرت صور حضرتك، فيبدو من ذلك أنك ترى التصوير جائزا. أقول: إنني أعارض بشدة أن يصوِّرني أحد ويحتفظ بصورتي كعبدة الأوثان. ما أَمرتُ أحدا قط أن يفعل ذلك، وما من أحد أكثرُ مني عداوة للوثنية والتصوير. ولكني رأيت في هذه الأيام أن أهل أوروبا حين يريدون أن يقرأوا تأليف أحد يودّون أن يروا صورة المؤلّف أولا، لأن علم الفراسة في أوروبا متقدم إلى حد كبير ومعظمهم يستطيعون أن يعرفوا بمجرد رؤية الصورة إذا كان المدّعي صادقا أم كاذبا. إن هؤلاء الناس لا يستطيعون أن يزوروني لكونهم على بُعد آلاف الأميال فلا يقدرون على أن يروا وجهي لذا إن المتفرّسين في تلك البلاد يتأملون في أحوالي الباطنية من خلال الصورة. إن عديدا من أهل أوروبا وأميركا بعثوا إليّ رسائل قالوا فيها بأننا تأملنا صورتك واضطررنا للقبول بناء على الفراسة أن صاحب هذه الصورة ليس كاذبا. لقد قالت إحدى السيدات من أميركا بعد رؤية صورتي بأن هذه صورة يسوع أي عيسى عَلَيهِ السَلام. فلهذا السبب وإلى هذا الحد سكتُّ عن ذلك حكمةً، وإنما الأعمال بالنيات. … ومع كل ذلك لا أحب أن يتخذ أفراد جماعتي نشر صورتي بوجه عام -دون ضرورة ملحة- مكسبا ومهنة لأن ذلك يؤدي إلى نشوء البدعات رويدا رويدا وتوصل إلى الشرك. لذا أنصح جماعتي هنا أن يجتنبوا هذه الأمور قدر الإمكان. لقد رأيت بطاقات بعض الناس ورأيت صورتي في زاوية على ظهرها. إنني أعارض بشدة نشرها بهذه الطريقة ولا أريد أن يرتكب هذه الأمور أحد من أبناء جماعتنا. إن العمل من أجل هدف صائب ومفيد أمرٌ ونشر الصور وتعليقها هنا وهناك على الجدران كما يعلق الهندوس صور صلحائهم ورهبانهم أمر آخر. لقد لوحِظ أن هذه الأمور تجرّ دائما إلى الشرك رويدا رويدا وتؤدي إلى نشوء مفاسد كبيرة كما نشأت في الهندوس والنصارى. وإنني لآمل أن الذي يرى مواعظي بنظر التعظيم والإجلال وهو متَّبعي الصادق سيجتنب هذه الأمور بعد هذا الحكم. وإلا فإنه يعمل بخلاف تعليماتي ويخطو على سبيل الشريعة بالوقاحة.” (البراهين الأحمدية، الجزء الخامس، الخزائن الروحانية، المجلد 21، ص365-367. وكذلك البراهين الاحمدية، الجزء الخامس، ص 392)
كما أن الصور نفسها أي التماثيل لم تكن محرمة إذا ما اتخذت لغير التعظيم والعبادة كلعب الأطفال ووسائل الإيضاح، فعن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن السيدة عائشة رَضِيَ اللهُ عَنها وأرْضاها أنها قالت:
“قَدِمَ رَّسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم من غزوة تبوك، أو خيبر” وفي سهوتها ستر، فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة (لُعَب)، فقال: “ما هذا يا عائشة؟” قالت: “بناتي.” ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رقاع، فقال: “ما هذا الذي أرى وسطهن؟” قالت: “فَرَس.”، قال: “وما هذا الذي عليه؟” قالت: “جناحان.”، قال: “فَرَسٌ له جناحان؟” قالت: “أما سمعتَ أنَّ لسليمان خيلاً لها أجنحة؟” قالت: “فضحك حتى رأيت نواجذه.” (أبو داود، 4932. سنن النسائي الكبرى، 8901)
وعنها رَضِيَ اللهُ عَنها وأرْضاها قالت:
“كنتُ ألعب بالبنات (أي التماثيل والدمى على هيئة البنات) وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إذا دَخَلَ يتقمّعن (أي يختفين ويستترن) فيسربهن إلي فيلعبن معي (أي فيرسلهن إلي لنكمل اللعب).” (البخاري، 6130. مسلم، 2440)
وعن الربيع بنت معوذ وفيه أنهم كانوا يُعلّمون الأطفال بواسطة الدمى التي يحبونها:
“قالت: فكنا نصومه بعد ونصوم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهْن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار.” (صحيح البخاري، 1960. صحيح مسلم، 1136)
إذن وضّح المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام أهم ما يتعلق بأغراض الرسم والتصوير وأساس ذلك في هذه المسألة. كما أن خليفة المسيح الرابع رحمه الله في لقاء معه بيّن بأن التصوير وصنع التماثيل ليس حراماً على الإطلاق وضرب حضرته مثال متحف الشمع في لندن (Madame Tussauds) حيث يتم عرض تماثيل المشاهير في التاريخ، وهنا يضع حضرته رحمه الله الشرط الوحيد الذي يجعل من هذا الفن حراماً وهو العبادة أي الشرك بالله ﷻ أو ما يؤدي إلى ذلك وهو حسب قول خليفة المسيح رحمه الله لم يعد له أي وجود في هذا الزمان إذ لا تصنع التماثيل لغرض عبادتها على الإطلاق في المجتمعات المتحضرة. كذلك هنالك بعض البرامج التي تُبث على قناة الجماعة الإسلامية الأحمدية mta لتعليم الأطفال الرسم يمكن مشاهدتها هنا.
الخلاصة هي عدم أن الرسم والتصوير والنحت وما إلى ذلك من فنون بوجه عام ليست مما يتناولها الإسلام بالتحليل والتحريم بل ما كان منها لأغراض التعظيم والعبادة وإثارة الغرائز والتفاخر والأذى بأنواعه مما يخالف الدين المتين فهو حرام قطعا، وما لم يكن لذلك كما بين الحكم العدل فهو يقدم خدمة للإنسان.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
شكرا جزيلا على التوضحيات….مقال جميل جزاكم الله احسن جزاء.