قد ينسى بعض الناس أن الإسلام الذي يحرِّم الانقلاب والتآمر والدعوة إلى خلع يد الطاعة في النظام الدنيوي ويجرِّمه، هو من باب أولى يعدُّ الدعوة إلى خلع يد الطاعة والتشكيك في النظام الروحاني الذي هو نظام جماعة المؤمنين أكثر حرمة وأشد جرما. بل إن تحريم الخروج على الحاكم وولي الأمر الدنيوي في الحقيقة إنما هو تابع للأصل الذي هو تحريم الخروج على نظام جماعة المؤمنين والخلافة، ولكن هؤلاء كالمعتاد يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
وإذا كان الإسلام يحرِّم الإنقلاب والتآمر والخيانة دون شروط على النظم الدنيوية التي لا تحظى بأي نوع من العصمة أو الرعاية الربانية، بل بلا شك لا تسلم ولا تخلو من الخلل والظلم والفساد، فهو من باب أولى أيضا لا يقبل بمبررات ترتكز على دعوى أن نظام جماعة المؤمنين الرباني يحتوي خللا ما لا بد من إصلاحه، أو أن فسادا تسرب إليه، أو أنه يسلك مسلكا يبتعد فيه عن العدل والإنصاف والصدق والأمانة. وهذه الدعوى قد سجَّلها القرآن الكريم، إذ يقول تعالى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } (البقرة 12-13)
فلو افترضنا جدلا أن هنالك خللا حقيقيا، فهذا ليس مبررا مقبولا على كل حال. ولكن سرعان ما يتبين أن الخلل إنما هو في قلوب هؤلاء الناس وعقولهم، وأن هؤلاء هم المفسدون حقا، ليس بسلوكهم هذا المسلك الإفسادي فحسب، بل سيتبين أن ما رموا به جماعة المؤمنين ينطبق عليهم هم، وأنهم أبعد الناس عن الصدق والأمانة والنزاهة.
الإسلام الذي يأمر بطاعة النظم الدنيوية والصبر عليها، مهما رأى المسلم فيها من ظلم أو فساد، ومهما تضرر منها أو بسببها، هو بلا شك لا يقبل تحت أي مبرر دعاوى الخروج على جماعة المؤمنين ونقدها بدعوى النزاهة والصدق والأمانة، بل الواجب على من يظن أن هنالك شيئا غير ملائم في وجهة نظرة أن يصبر ويحتسب ويتوجه إلى الله تعالى، وعليه أن يستغفر الله كثيرا ويتوب إليه ويضع في حسبانه أن كثيرا مما قد يراه ليس في محله قد يكون غير ذلك، وأن مرضا قد اعترى قلبه فقلَّبه وأزاغ بصره. فلو فعل ذلك لتداركته رحمة الله تعالى.
أما اتهام المؤمنين المطيعين للنظام المخلصين له المدافعين عنه الذين لا يشاطرونه في رؤيته الفاسدة بأنهم ينافقون للنظام ويبررون له أخطاءه وأنهم ينصرون الباطل ولا يهتمون بالعدل والإنصاف فهو جريمة مضاعفة، إذ لا يكتفي هذا المفسد بفساده، بل يريد أن يشاطره الآخرون فيه. والواقع أنه يسعى لكي يشاركه غيره فيه ليصنع حوله مناخا ملائما بعد أن وجد نفسه معزولا مذؤوما مدحورا مخذولا، لا بسبب أنه يريد أن ينقذ الناس ويختار لهم الأفضل.
ما لا يفهمه هؤلاء أن الإسلام أيضا يأمر كل واحد بأن يهتم بنجاته الشخصية بالالتزام بما أُمر به، وبألا يتدخل فيما لا يعنيه، وبأن يهتمَّ بشئونه وألا يتجاوز صلاحياته، وألا يفكر فيما يجب على غيره أن يفعلوه، فكيف إذا كانوا أولياء أمره. فلم يعينه الله مراقبا أو وكيلا على جماعة المؤمنين، بل يطلب منه أن يسمع ويطيع ويصلح نفسه ويروضها على السمع والطاعة.
أخيرا أقول:
إن التمرد والتآمر والخيانة بمبرر الإصلاح هي لعبة الشيطان المكشوفة منذ الأزل، ولن يطول الأمر حتى يتبين أن هذا الذي يدعو إلى الإصلاح والنزاهة إنما هو شيطان مارد لا يريد إلا أن يقذف الناس بعيدا عن جادة الصواب.
التمرد والخيانة وإطلاق دعاوى العدل والإنصاف الكاذبة تبريرا لها هي غاية فاسدة لن تؤدي إلى إصلاح، ووسائلها أشد فسادا منها. فبئست الغاية وبئست الوسائل.
زادكم الله علما وبصيرة يا أستاذي الفاضل. إن إفاضتكم لنا بهذه المعلومات مفيدة جدا ومنورة الأفق والجنان.