لم يرتكب يونس عليه السلام جريمة، وعاش حياته الطاهرة داعيا إلى الله تعالى متنكِّبا عن طرق السيئات. وعندما بعثه الله تعالى وأمره بأن يُنذر قومه واجهوه بالكفر والجحود، فأخبره الله تعالى بأن العذاب سينزل بهم خلال أربعين يوما ما لم يرتدعوا. فخرج من المدينة ومكث على مقربة منها يترقب، فلما مضت المدة ولم ينزل العذاب، شعر بضيق وذهب مغاضبا، وظنَّ أن الله تعالى لن يضيِّق عليه بسبب طهارة حياته وصدق نيته، وكان تفكيره مركزا على إجرام قومه وسيئاتهم وكيف أنهم يستحقون العذاب. فوقع في غمٍّ تلو غم، ووجد نفسه في بطن الحوت بعد سلسلة من الأحداث العجيبة، فما كان منه إلا أن تعلَّم الدرس وأدركه فدعا:
{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء 88)
فبسبب هذا الدعاء، نجّاه الله تعالى من هذا الغمِّ، ثم فتح عليه أبواب النجاح، فحقق ما لم يحققه إلا قلة من الأنبياء، بأن آمن به قومه أجمعين.
لا شك أن الدعاء في الأصل يؤدي إلى أن يخلق الله أسبابا لتحقيقه بفضله وبرحمته، وهذا هو صلب الدعاء وأساسه، ولكن صيغة كل دعاء تتضمن أن يُحدِث الإنسان فيه نفسه تغييرا، فيتهيأ لنزول هذه الأسباب. وهذا هو أحد أسرار الأدعية القرآنية العجيبة الرائعة.
فما الذي يتضمنه هذا الدعاء العجيب؟ وكيف أدى إلى إزالة غم يونس؟
لقد أدرك يونس عليه السلام أن واجبه أن يُركِّز على أخطائه وتقصيراته، مهما كانت ضئيلة ولا تقارن مطلقا بجرائم قومه، وأن الغم الذي أصابه لم يكن إلا نتيجة تفكيره هو وتقصيره هو، وأنَّ عليه ألا يلوم قومه أو يحمِّلهم المسئولية لما فعلوه في أنفسهم أو فعلوه تجاهه، بل أن يتفقد نفسه ويضعها تحت المجهر الدقيق الذي يليق بنبي في مكانته. فحسنات الأبرار تعدُّ سيئاتٍ عند المقربين كما يقول الصوفية، وكلما ترقَّى الإنسان في العلاقة مع الله تعالى ازدادت حساسية الميزان الذي يحاسب به، بحيث ما يُعدُّ عملا حسنا عند من هم في المرتبة الدنيا يُعدُّ بالنسبة لهم سيئة لا تليق بمقامهم، فكما أن أجر التقرُّب إلى الله عظيم إلا أن هذا يتطلب دقة في الحسنات وفي تحري سُبل التقوى.
فماذا كان خطأ يونس عليه السلام؟
كان خطؤه أنه ظن أن الله تعالى لن يقدر عليه؛ أي أنه لن يضيِّق عليه ولن يتعرَّض لأي مكروه، لأنه يرى أنه بريء تماما من الآثام والمعاصي مقابل قومه الجاحدين المستغرقين في الكفر والسيئات، وأن الواجب أن ينزل العذاب على المخطئين في حقه، لذلك فقد شعر بغمٍ لأن العذاب لم ينزل بهؤلاء المجرمين بعد أن أنبأه الله بهذا، مما أوقعه في حرج عظيم. وزاد الطين بلة أن قومه بقوا سالمين، وهو قد تعرض لسلسلة من الأحداث الصعبة القاسية، ووجد نفسه في بطن الحوت في عُرض البحر! ولكنه هنا بدلا من أن يقول ما هذا يا رب؟ أدرك خطأه وتعلَّم الدرس فقال:
{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء 88)
أي أنني أنا المخطئ، وأنا من ظلمت نفسي، فاغفر لي يا رب، يا من تنزهت عن كل عيب ومنقصة، ولم يذكر هنا فضله ولا عمله الصالح ولا طهارته، ولم يذكر جرائم قومه بحقه أو بحق أنفسهم ومدى سوئهم وفسادهم.
فكان الجواب:
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (الأنبياء 89)
وهذا في الواقع هو المفتاح والعلاج للشفاء من الاكتئاب والقلق الذي هو من أكثر الأعراض والأمراض النفسية فتكا في العالم، إذ تشير الإحصاءات إلى أن نسبته مهولة قد تصل إلى خمس سكان العالم نظرا إلى النسب المتفاوتة منه. وبقية الناس ليسوا مبرئين منه تماما، بل يصيب الغم الناس بنسب متفاوتة وفي مناسبات متعددة بحيث لا يمكن أن يكون أحد بريئا منه. وفي هذه الآية إشارة إلى أن الله تعالى كما نجَّى يونس عليه السلام بهذا الدعاء، فهو سينجِّي المؤمنين به أيضا.
العلاج القرآني
فالعلاج القرآني يقول، إن عليك أن تركز على نفسك وعلى أخطائك وتقصيراتك، وتقرَّ بذلك أمام الله، وتعيد النظر في مواقفك وتغيِّر وجهة تفكيرك التي هي في الواقع من تجلب عليك الغمّ، وألا تلوم غيرك أو الظروف التي أنت فيها، وألا تهتم بأخطاء الآخرين وتقصيراتهم بحق أنفسهم أو بحقك. فلو كانوا ظالمين فأمرهم إلى الله تعالى، وهو الأعلم بحقيقتهم وهو من سيحاسبهم عليها، أما أنت فعليك أن تقرَّ بأنك من الظالمين، وأنك لم تشعر بهذا الغمِّ إلا بسبب ظلمك لنفسك. فإن أقررت بهذا بدأ الانفراج، وتفتَّح قلبك وانشرح صدرك لتلقي النعم الإلهية والأسباب السماوية لزوال الغم، وفتح الله عليك وأنقذك بأسباب من عنده.
لم يكن يونس يعلم أن قومه قد تابوا عن بكرة أبيهم وأحسنوا بعد أن تركهم، وأن إنذاره قد فعل مفعوله عندهم، فخافوا عقاب الله تعالى وانتهوا عن سيئاتهم. وفي هذا درس أيضا لنا أننا لو كنا واثقين من خطأ الآخرين أو من إجرامهم، وكنا نرى ذلك جليا، فإن شهادتنا لا يمكن اعتبارها شهادة صحيحة كاملة، لأن الله تعالى أعلم بما في نفوسهم، كما أننا لا نعلم إن كانوا سيصلحون أنفسهم ويتقبلهم الله تعالى ويحسن إليهم.
الخلاصة أن الغمَّ، الذي يسمى اليوم بالقلق والاكتئاب في مصطلح علم النفس، إنما يزول إن أدركنا أننا نحن الظالمون، وركّزنا على أنفسنا، وفوضنا أمر غيرنا إلى الله تعالى، وعندها ستنفتح علينا أبواب الرحمة الإلهية والسعادة، وننال البركات العميمة التي أولها النجاة من الغم. فما أحوج العالم اليوم إلى هذا الدواء القرآني! وكم من الناس سينجون من الغم والاكتئاب الذي هو مرض العصر الراهن الأكثر فتكا؟ نسأل الله تعالى أن يوفق الناس لكي ينهلوا من عين هذا الكتاب العظيم التي لا تنضب، آمين.