لا شك أن الله تعالى لا يُنزل الرسل إلا إذا دعت الضرورة ومسّت الحاجة لبعثة رسول، أي أن الرسول لا يأتي إلا حين يعمّ الفساد في الأرض فتكون بعثته لغرض إصلاح الفساد وجمع الناس على كلمة سواء والسير بهم لأداء حق الله تعالى وحق العباد. وقد بَعَثَ اللهُ تعالى نبيّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عندما دبّ الفساد في الأرض وَلَمْ يسلم منه أهل الأديان أنفسهم فضلاً عن الوثنيين والملاحدة. وقد تلخصت وتجسدت دعوى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في نشر رسالة الإسلام الداعية لتوحيد الله تعالى وجمع الناس على كلمة السواء والمضي بهم في درب الأمن والأمان وأداء الحقوق وإشاعة الأخلاق الفاضلة.
يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام أن بعثة أي نبي لن تحين إلا عندما يستطير الفساد فيأتي لإصلاح حال الناس والعودة بهم إلى الفطرة الصالحة، فقال حضرته بأن بعثة آي نبي لا تكون إلا:
“عندما تتدنّس الأرض بالخطايا والذنوب، وتطغى الأعمال السيئة والوقاحة على الأعمال الصالحة في ميزان الله، عندها تقتضي رحمة الله أن يُبعَث عَبْدٌ من عباده ليصلح مفاسد الأرض. العلّة تقتضي طبيباً، وأنتم أحرى وأقدر من غيركم أن تفهموا هذا الأمر، لأنه كما أن الفيدات لَمْ تنـزل في الوقت الذي طغى فيه طوفان الذنوب، بل نزلت حين لم يكن في الأرض سيل الذنب قط بحسب قولكم أنتم. فهل يُستبعد عندكم أن يظهر نبيٌّ في وقت يعلو فيه سيل الذنوب العارمُ هائجاً بكلّ شدة في كل بلد من بلاد العالم؟ لا أتوقع أنكم تجهلون التاريخ أنه عندما بعث الله ﷻ نبينا الأكرم ﷺ وأكرمه بمنصب النبوّة كان العصر يسوده الظلام بحيث لم تكن بقعة من بقاع العالم المسكونة خالية من سوء السلوك وسوء الاعتقاد. ولقد كتب البانديت ديانند في كتابه “ستيارتهـ بركاش” أن الوثنية كانت في ذلك الزمن قد حلّت محل عبادة الله في الهند أيضاً، وكان الفساد الكبير قد تطرّق إلى دين الفيدات. كذلك يقول القسيس “فندر” -وهو مسيحي إنجليزي أوروبي متعصب جداً للمسيحية- في كتابه “ميزان الحق” بأن المسيحيين كانوا الأكثر فساداً مِن كُلّ الطوائف الدينية في زمن النبي ﷺ، وكانت تصرفات المسيحيين البذيئة مدعاةً للخزي والعار للديانة المسيحية. والقرآنُ الكريم يقدم الآية: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} تأكيداً على ضرورة نزوله. ومعنى هذه الآية أنه ما من قوم يخلو من الفساد سواء أكانت حالته تنمّ عن الهمجية أو ادّعى العقل والتحضر. فلمّا تبيّن من جميع الشهادات أن الناس في عصر النبي ﷺ، سواء أكانوا من الشرق أو من الغرب أو من الهند أو الذين كانوا يسكنون في الصحراء العربية، وأيضاً الذين كانوا يسكنون الجزر؛ كانوا قد فسدوا جميعاً، وَلَمْ تكن لأحد منهم علاقة سليمة مع الله، ونجّست التقاليد السيئة الأرضَ بأسرها؛ أفلا يقدر الفطين أن يدرك أن هذا هو الوقت الذي يقتضي العقل أن يأتي فيه نبيٌّ عظيمٌ حتما.” (رسالة الصلح)
والنص الذي أشار له المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام أعلاه حول اعتراف مؤلف “ميزان الحق” بفساد النصارى في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم هو كالتالي من كلام المؤلف الدكتور كارل فندر:
“وفي سنة 314 للميلاد اعتنق الملك قسطنطين المسيحية، ولكنه لم يتعمد إلا بعد سنين كثيرة من ذلك التاريخ، وحينئذ نجا المسيحيون من الاضطهاد، بل علت منزلتهم لدى الهيئة الحاكمة. وقد زَّين هذا لكثير من الناس أن يتنصروا أفواجاً أفواجاً بدون توبة ولا تجديد ولا تعليم، فأدخلوا معهم إلى الكنيسة آراء كثيرة وثنية، ودَبَّ في النصارى روحُ الإهمال في مطالعة الأسفار المقدسة، وانحرفوا إلى إكرام القديسين، وفَترَتْ محبتهم بعضهم لبعض، وأخذت العبادة المسيحية تتميز في الطقوس والرسوم الكنائسية، وفقدَت الكثير من روحانيتها ونقاوتها الأولى، وراجت سوقُ الرياء وكثرت البدع، وعوض أن يحب أولئك النصارى بعضهم بعضاً كما أوصاهم الإنجيل أخذوا يتجادلون ويتباحثون في المواضيع التافهة، حتى سوَّلت لهم نفوسهم أن يضطهدوا بعضهم بعضاً. فانحدر جمهور منهم في وهدة الخطية وتعبَّد آخرون لمريم العذراء والقديسين والتماثيل، وهيجت هذه الأعمال عليهم غضب الله، حتى أنه كما سلط على اليهود لأجل تمرّدهم وعصيانهم ملوك بابل وأشور واليونان والرومان، هكذا سلّط على النصارى لأجل تأديبهم سلّط عليهم العرب خصوصاً في بلاد الشرق.” (ميزان الحق، كارل فندر Carl Pfander، الباب 2، الفصل 8، في الكيفية التي انتصرت بها الديانة المسيحية في القرون الأولى، ص 284)
ويشرح المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام أن الوقت الآن ليس وقت السيوف والقتال بل هو وقت الدعاء، أي أن وقت المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام هو وقت الدعاء وليس وقت النهضة لشن الحروب وإزهاق الأنفس لأن المسلمين للأسف جرّبوا ذلك ولم يؤدي إلا إلى خراب الديار والدمار والتشرد وخسران الأرواح، والسبب وراء ذلك هو تفرّق المسلمين وضعفهم وشتاتهم، الحالة التي لا يمكن معها شن الحرب على القوى الكبرى ولا حتى القوى الصغيرة التي تقف خلف هذه القوى الكبرى، بل الوقت هو وقت الدعاء والركون إلى الله تعالى وتوحيد الصفوف خلف المهدي وعندها فقط يمكن التفكير في الحرب إذا تطلب الأمر، بينما الواقع هو أن الحرب الآن هي حرب الدعاء والمناظرات الفكرية لمقارعة كل حرب بما يناسبها وليس قتل المناظرين غير المحاربين، فذلك عجزٌ لا يليق بالإسلام، وهو معنى قول النبي ﷺ بأن المسيح الموعود سوف “يضع الحرب” أي أن الحروب الدينية وأسسها سوف توضع أي تتوقف في زمنه وأن قتل الدجال سيكون بالحجة لا بالنار والحراب:
“اعلموا، أرشدكم الله، أن الأمر قد خرج من أن يتهيأ القوم للجهاد … فإنا نرى المسلمين أضعف الأقوام، في ملكنا هذا والعرب والروم والشام، ما بقيت فيهم قوة الحرب، ولا عِلْمُ الطعن والضرب، وأما الكفار فقد استبصروا من فنون القتال، وأعدوا للمسلمين كل عدَّة للاستئصال، ونرى أن العِدا من كل حدب ينسلون، وما يلتقي جمعان إلا وهم يغلبون. فظهر أن الوقت وقت الدعاء، والتضرع في حضرة الكبرياء، لا وقت الملاحم وقتل الأعداء. ومن لا يعرف الوقتَ فيُلقي نفسه إلى التهلكة. ولا يرى إلا أنواع النكبة والذلة … وإنَّ الحرب نهبت أعمارهم، وأضاعت عسجدهم وعقاره، وما صلح بها أمر الدين إلى هذا الحين، بل الفتن تموجت وزادت، وصراصر الفساد أهلكت الملة وأبادت، وترون قصر الإسلام قد خرَّت شَعَفاته، وعفِّرت شُرَفاته، فأي فائدة ترتّبت من تقلّد السيف والسنان، وأي مُنية حصلت إلى هذا الأوان، من غير أن الدماء سُفكت، والأموال أُنفدت، والأوقات ضُيِّعت، والحسرات أضعفت. ما نفعكم الخَميس، ووُطِئتم إذا حمِى الوطيسُ. فاعلموا أن الدعاء حربةٌ أُعطيت من السماء لفتح هذا الزمان، ولن تغلبوا إلا بهذه الحربة يا معشر الخلان. وقد أخبر النبيون من أولهم إلى آخرهم بهذه الحربة، وقالوا إن المسيح الموعود ينال الفتح بالدعاء والتضرع في الحضرة، لا بالملاحم وسفك دماء الأمة“. (تذكرة الشهادتين، الخزائن الروحانية، مجلد 20، ص 81-82)
أما حديث وضع الحرب أو انقطاع الجهاد القتالي عند نزول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام فهو عن سلمة بن نفيل السكوني رضي الله عنه أنه قال في الحديث المرفوع:
“وكان المسلمون يقولون: لا جهاد بعد اليوم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لا ينقطع الجهاد حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام».” (السيرة النبوية، ابن حبان، ج 1، ص 372)
فها أن الجهاد ينقطع عند نزول عيسى عَلَيهِ السَلام وهو مصداق قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عَنْهُ “يضع الحرب/الجزية” والوحي الذي سيتلقاه المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام: “حَرِّز عبادي إلى الطور .. فلا يدان لأحد بقتالهم -أي ياجوج ومأجوج” وغيرها. والمقصود هو جمع الكلمة أولاًً والوحدة على قلب رجل واحد، وحينها فقط يمكن مواجهة العدو المشترك وليس فتح جيوب مسلحة ضعيفة ضد قوى متمكنة وصفها الله تعالى بأن لا يدان لأحد أي لا قوة لأحد بقتالهم، فلا تنتج هذه الجيوب إلا الخراب والتشتت وقطع الطرق والأرزاق والعلم وضياع الحقوق. فالوقت إذن هو وقت الضرورة لبعثة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام الذي جاء حسب الدلالات الواقعية التي تشهد عليها سنة الله تعالى عند كل فساد يحدث في البشر، لأن رحمة الله تعالى وربوبيته لا تترك البشر يغرقون في الفساد بل تمد لهم دوماً حبال النجاة، وها هي تمتد عبر المسيح الموعود الذي تبشّر به وتنتظره جميع الأديان وتشهد على ضرورة الوقت في بعثته المباركة.
ونختتم بقول حضرة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:
“يا عبادَ الله، تعلمون أنه إذا انقطع المطرُ طويلاً وَلَمْ تمطر السماء مدّة من الزمن تأخذ الآبارُ أيضاً بالجفاف. فكما أن ماء السماء في العالم المادي يؤدي إلى جيشانٍ في مياه الأرض، كذلك يحدث في العالم الروحاني؛ حيث إنَّ ماء السماء من حيث الروحانية (أي وحي الله) هو الذي يُنَضِّرُ العقول السفْلية. فهذا العصر أيضاً كان بحاجة إلى هذا الماء الروحاني. أرى لزامًا عليّ أن أُبيّن بخصوص ادّعائي أنني قد أُرسِلْتُ من عند الله تعالى في وقت الحاجة تمامًا، حين حَذا الكثيرون في هذا العصر حذوَ اليهود، وَلَمْ يتخلّوا عن التقوى والطهارة فحسب، بل أصبحوا أعداءً للحقّ على غرار اليهود في زمن عيسى ؑ. فسمّاني اللهُ المسيحَ إزائهم. فلا أدعو أهل هذا الزمان إليّ فحسْب، بل إنَّ الزمانَ نفسُه قد دعاني.” (رسالة الصلح)
وهذا يثبت أن لا إصلاح حقيقي إلا من عند الله تعالى بإرسال المبعوثين السماويين. يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام بعد ذِكْر الفتن والفساد التي طالت المفاهيم في الإسلام على يد الفرق المختلفة:
“وبالنظر إلى هذه الأمور وجدَ العدو من الخارج أيضاً فرصةً فهاجموا الإسلام حاملين السهام والسيوف وجعلوا وجود الإسلام الطاهر دريئة لسهامهم، وبدأوا إراءته للأعداء بصورة كريهة لدرجة جعلوا المسلمين أيضاً ينفرونه فضلاً عن الآخرين. الكلُّ حاول تشويه صورته بأسلوبه. ففي هذه الحالة لا تفيد الحربة الأرضية ولا الخطط الأرضية لذا هناك حاجة إلى الحربة السماوية والتخطيط السماوي. فما لم يُعط ويوهَب أحد الجذب السماوي والتأييدات السماوية لا يمكن النجاح أبدا. هذا أكبر وأهمُّ دليلٍ على ضرورة الأنبياء، لأنه إذا كان إصلاح العالم عند الفساد ممكناً فقََدْ وُجد الفلاسفة والعقلاء والمفكرون في كل عصر، بل قد وُجد أناس مثلهم في زمن الأنبياء، وهم موجودون الآن أيضاً ولكن هؤلاء الفلاسفة والمصلحون بعيدون عن الله تعالى لدرجة أنَّ ذِكر اسم الله عندهم أيضاً عُدّ خطأ وذنباً. قولوا الآن بالله عليكم إلامَ ستذهب بكم هذه الفلسفة وهذا الإصلاح؟ والأمل منه بأيّ خير خطأ كبير. ألا ترون أنَّ مِن سُنّة الله أنه أرسل الأنبياء دائماً للإصلاح. عندما يأتي الأنبياء يكون فساد عظيم ملحوظ في العالم ظاهرياً، يكون الأخ بعيداً عن أخيه والأب من ابنه، تُتلف آلاف الأرواح أيضا. لقد دُمِّر المعارضون في زمن نوح عَلَيهِ السَلام بالطوفان، وقد حلّت عذابات مختلفة في زمن موسى عَلَيهِ السَلام وأُغرق فرعون وجنوده. باختصار، تذكروا جيدا أنه لا يمكن لأحد أن يتمكّن من إصلاح القلوب إلا خالق القلوب، ولا يمكن الإصلاح بكلمات فارغة وكلام متملّق فقط بل يجب أن تكون في الكلام روح. فالذي قرأ القرآن وَلَمْ يعرف أن الهداية تأتي من السماء فماذا فهِم؟ عندما سيُسألون: “ألمْ يأتكم نذير” يعلمون بأن الْحَقَّ هو معرفة الله التي لا تتأتّى إلا بواسطته هو. والحصول عليها بدون الإمام مستحيل لأنه يكون مظهر آيات الله وتجلياته المتجددة. لذلك جاء في الحديث الشريف: “من لم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة الجاهلية.“.” (الملفوظات)
فهذا هو وقت المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام. فلتبحثوا عنه، فخلافته قائمة تنشر الخير. إقرأوا كتب المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام مجاناً في islamahmadiyya.net وأيضا على مكتبة موقع بساط أحمدي!
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ