الإشكال الحقيقي الذي يقع فيه البعض، بعد أن ينبهروا بالأدلة العقلية الساطعة فيتحمسوا للتصديق والإيمان، هو ظنهم بأن هذه الأدلة العقلية هي التي كانت السبب في إيمانهم. ولكنهم سيكتشفون ولو بعد حين أن هنالك أمورا تفوق عقولهم وقدرتهم على المحاكمة – رغم تباينها واختلافها من شخص إلى آخر- بل تتصادم مع مسلَّماتهم التي صنعوها، فينشأ الصراع العقلي وتبدأ الوساوس.
وعند هذه النقطة سيبدأ هؤلاء بالاندفاع نحو طلب الآيات أو محاولة النظر في الآيات الموجودة سلفا بعد أن وجدوا أن العقل لم يسعفهم، ولكنهم أيضا سيكتشفون أن الآيات لن تروي غليلهم ولن تدفع وساوسهم، وسيبقى فيها جوانب مخفية تتيح المجال للتشكيك فيها، فيقع هؤلاء في دوامة هائلة تسبب لهم قلقا واضطرابا بالغا وظمأ أشد من السابق، فتبدأ نفوسهم بالصراخ والعويل طالبة راحتها وسكينتها وطمأنينتها.
هذه الحالة من الاضطراب والقلق هي حالة فطرية لو وجِّهت توجيها صحيحا فإنها ستجلب السكينة والطمأنينة وتؤدي إلى الإيمان وتثبيته وتقويته، وهذا التوجيه الصحيح ليس سوى أن يدرك الإنسان ضعفه وعجزه، ويقرَّ بأنه لا حول له ولا قوة، ثم يخرَّ على عتبات الله مستدرا رحمته، فعندئذ ستتحرك الربوبية لإغاثة العبودية ويتجلى الله تعالى لعبده راويا ظمأه العقلي والنفسي، فتتنور الأبصار بعد أن يدركها الله تعالى ويلمع العقل وتصفو النفس. ثم يجد المؤمن نفسه مصرا على أن يحافظ على هذه الحالة ويسعى لزيادتها لأنه سيدرك أن فيها راحته وطمأنينته وفلاحه في الدنيا والدين. وهذا هو الطريق الذي اختطه الله تعالى للوصول إليه.
أما إذا لم توجه حالة القلق والاضطراب هذه توجيها صحيحا فستقود إلى الردة وإلى الكفر والإلحاد، بل إلى معارضة الحق والأنبياء بشدة ومعاداتهم والتورط في جرائم ضدهم والافتراء عليهم؛ إذ يقع الإنسان حينها في قبضة الشيطان ويصبح حاله أسوأ بكثير من حال الكافر الذي لم يؤمن يوما! وهذا ليس إلا عقوبة من الله تعالى على كبر وأنانية وغرور لم يدفعا العبد للسجود لله تعالى طالبا منه المعونة، وهذا سيكون صفعة لعقله الناقص الذي يعتز به والذي اتخذه إلها من دون الله. وسرعان ما سيتبين أيضا أن هذا الشخص سيتورط في أفهام وأوهام سخيفة لا يقبلها عاقل، ليرى ذلك الشخص ويرى غيره أن عقله الذي خلق لديه هذه الوساوس لم يتلمَّس طريق الحق في يوم من الأيام إلا بفضل الله تعالى، وأنه لو غادره نور الله فسيصبح مظلما ككهف متعفن، وهذا لأن الله تعالى يعرض عمن يعرض عنه، ويغار لوحدانيته، وقد تأذَّن ليقضين على كل وثن باطل يعبد من دونه.
وتسجيلا لهذه الحالة وتوضيحا لها يقول تعالى عن هؤلاء:
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ }
(الأَنعام 111-114)
فهؤلاء الذين اغتروا بعقولهم ولم يخضعوا لله تعالى ولم يطلبوه بالخضوع والانكسار والمجاهدة والعبادات ستتقلب قلوبهم ثم أبصارهم حتى يجدوا أنهم لم يعودوا يؤمنون بما قد آمنوا به من قبل من دلائل عقلية ظنوا أنها كان سبب الهداية. ثم إذا توجهوا للآيات فلن يجدوا أن الآيات مهما كانت جلية ستولد في قلوبهم السكينة والطمأنينة، فما كان لنفس أن تؤمن في الحقيقة إلا بإذن الله وبمشيئته ولكنهم يجهلون هذه الحقيقة. ثم بعد ذلك عندما يرفضون الخضوع والانصياع لن يتركوا جماعة المؤمنين فحسب بل سيصبحون أعداء الحق والأنبياء وسيتحالفون فيما بينهم صغيرهم وكبيرهم مغترين بأنفسهم وغارِّين غيرهم مقترفين الافتراء والكذب، ثم بعد ذلك سيجدون أنهم يكفرون بالآخرة، ثم يكفرون بالله ويلحدون، وهذا هو مصيرهم النهائي المحتوم.
لذلك، فلا عجب أن نرى شخصا قد انخرط في جماعة المؤمنين وأبدى حماسا لفترة من الوقت، قد تمتد لسنوات، ثم بعد ذلك انقلب على عقبيه وأخذ يهاجم ما كان يؤمن به أول مرة. فهذه حالة معروفة، وهي مصير كل متكبر مغرور لم يخضع لله تعالى ولم يخرَّ على عتباته. وما لم يدرك كل مؤمن أن واجبه أن يتوب إلى الله تعالى وأن يبقى خاضعا ساجدا على عتبات الله فهو ليس في مأمن أيضا. وقد شاهدت مرارا أن الذي يتشدق بأن إيمانه راسخ لا يزلزله شيء بناء على قناعاته المزعومة، والذي لا يذكر فضل الله تعالى عليه ومنته بأن هداه للإيمان، والذي لا يعي هذه الحقيقة ولا يفهمها ولا يبقى خائفا دوما من سوء العاقبة، فإنه كثيرا ما تكون عاقبته سيئة.
لذلك ما أحوجنا إلى الدعاء الذين كان من أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ألا وهو:
”يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك“