صدق المدعي وآية للمتقين وحسرة على الكافرين
القول بأن الله تعالى يتوعَّد أحدا على فعلةٍ ثم لا ينفِّذ ما توعَّد به بكل قوة وجلال، بعد إصرار الشخص على فعلته وعدم تراجعه وتوبته، فهذا ليس سوى الإلحاد بعينه. فهذا الفعل لا يقوم به شخص نبيل ناهيك عن الذات العليا سبحانه وتعالى مجمع المحاسن والفضائل خالق السماوات والأرض العزيز الحكيم. علما أن الهدف من الوعيد هو تخويف من تسوِّل له نفسُه القيام بفعل ما، وليس أن يقع هذا الوعيد حتما، ولكن إذا لم يقع رغم تحقق الشروط فهو العبث والإلحاد، والعياذ بالله.
وفي قوله تعالى وعيد صريح لا لبس فيه لكل من تسوِّل له نفسه الادعاء كذبا، وليكون دليلا واضحا على صدق المدعي وآية للمتقين وحسرة على الكافرين، إذ يقول تعالى:
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } (الحاقة 45-53)
لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين
ومعنى قوله إننا سنأخذ منه باليمين ونقطع منه الوتين ولن يستطيع أحد حجز ذلك عنه هو أننا سنفشل كيده ونمنعه من هذا الافتراء ونصادر قدرته عليه ثم سنهلكه بعذاب بئيس من لدنّا سواء بأسبابنا المتنوعة أو نسلمه إلى أعدائه فيقتلوه شرَّ قتلة ويبددوا دعوته وينهوها إلى الأبد. أي أن شريان حياته المادية سينقطع وكذلك شريان استمرار دعوته وبقائها.
وهذا الدليل قد قدَّمه الله تعالى لتصديق النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ بيَّن تعالى أن ما ينسبه إلينا من وحي إنما هو منَّا، ولو تقوَّل علينا بشيء فإننا سنحاسبه وفقا لسنتنا الأزلية، وهي أننا نهلك المدعي الكاذب بإفشاله ثم قطع وتينه الذي يعني هلاكه بعذاب مباشر من الله أو بأيدي الناس ولن تبقى لدعوته باقية من بعد.
ويجدر الالتفات هنا هو أن هذا الأمر لا يصلح دليلا إلا إذا كانت هذه سُنَّة الله تعالى المستمرة، أما لو لم تكن كذلك فتصبح نوعا من العبث. ولتوضيحه نضع مثالا كأن يقول تاجر مثلا إنني أعلن لكم أن بضاعتي سليمة من العيوب وأنني لم أغشَّكم في السعر وأقول لكم إنه لو حدث شيء من هذا فستسقط صاعقة على رأسي وتقضي عليَّ في الحال! فهل لو فعل أحد هذا سيصدِّقه أحد؟!
لا يمكن أن يصدِّق الناس هذا التاجر إلا في حالين؛ الأول هو أن يكون من المعتاد أن يرى الناس أن كلَّ تاجر غشَّ في البضاعة أو السعر كانت تنزل صاعقة عليه وتحرقه. أما إذا قال بأن هذا الأمر يخصُّني فقط فلا يصلح الأمر دليلا خاصًّا له إلا إذا رأى الناس أنه قد غشَّ في السابق ثم نزلت عليه صاعقة فأهلكته ثم أحيي، وأن هذا الأمر تكرر مرارا بحيث أصبح الناس يربطون نزول الصاعقة حتما بغشِّه المتكرر!
لذلك يصبح من الواضح أن هذا الدليل لا يصلح دليلا للنبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا كان سنة الله المستمرة من قبل ومن بعد، والتي قد رآها الناس مرارا وسيرونها كلما ظهر مدعٍ كاذب.
إستمرارية الوعد هو الدليل لصدق المبعوث
هذا الدليل كان معروفا مسبقا وسجله الكتاب المقدس أيضا إذ جاء فيه: {أَمَّا النَّبِيُّ الَّذِي يُطْغِي، فَيَتَكَلَّمُ بِاسْمِي كَلاَمًا لَمْ أُوصِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، أَوِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِاسْمِ آلِهَةٍ أُخْرَى، فَيَمُوتُ ذلِكَ النَّبِيُّ.} (اَلتَّثْنِيَة 18 : 20) ومعنى الموت هنا هو الهلاك بالعذاب وبالاجتثاث بيد الله تعالى أو بأيدي الناس. والجميل أنه جاء أيضا في سياق النبأ عن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الدليل إنما هو دليل قاطع في صدق الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام الذي ادعى أنه ذلك المبعوث الذي أنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم بصفته المهدي والمسيح وأشار إليه القرآن الكريم بصفته الرجل الفارسي الذي سيؤسس جماعة {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} الذي سيعيد الإيمان من الثريا. فقد استمر في دعواه ما يقارب 35 عاما يعلن فيها أنه مبعوث من الله تعالى ويعلن وحيا من المبشِّرات ينسبه إلى الله تعالى، ثم لم يهلكه الله بعذاب، بل عاش عمرا طويلا وصل إلى 73 عاما رغم أنه كان يعاني من الأمراض الكثيرة، ورغم كثرة أعدائه الذين كانوا يتعطشون لدمه، وألف خلال ذلك ما يزيد على 80 كتابا، ووصلت جماعته قبيل وفاته إلى ما يقارب نصف مليون، ثم بدأت بعد ذلك بالانتشار في العالم أجمع لتقوم بمهام نشر الإسلام في العالم كله. فلو كان كاذبا والعياذ بالله، فكان لزاما على الله تعالى أن يهلكه بعذاب من لدنه أو يُسلمه إلى أعدائه الكثر ليقتلوه، وما كان بمقدور قوة في الأرض أن تمنع عنه ذلك، ولشتت الله شمل جماعته ومزقها تمزيقا. أما الواقع فإن جماعته قد اجتمعت من بعده وفقا لما أنبأ بنفسه، ونشأت فيها الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة وفقا لنبأ النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تزداد يوما بعد يوم قوة، وهي الجماعة الأكثر ترابطا وطاعة لنظام الخلافة الذي يجمعها وينصاع له الأحمديون في كل العالم حبا وكرامة بحيث يبذلون أموالهم ونفوسهم بين يديها بما يثير العجب والإعجاب.
هذه الحقيقة الدامغة كانت ولا زالت تلهب قلوب أعداء الجماعة ومعارضيها. فهؤلاء لا يستطيعون الفكاك من هذا الدليل القاطع المستمر في التحقق، ومهما حاولوا التلاعب لتأويل هذا الدليل بغير ما هو عليه فحجتهم داحضة، وهم مضطرون لتحريف الكلم عن مواضعه محاولين التملُّص دون جدوى.
الدعوات الكاذبة مثل دعوة البهاء لا تنسب الوحي
بقي أخيرا أن نقول إن هذا الدليل خاصٌّ بمن يدعي أنه نبي من الله تعالى وجاء بوحي حرفي نسبه إلى الله تعالى، أما الدعوات كمثل دعوة البهاء الذي ادعى شيئا أقرب إلى الألوهية ولم ينسب سطرا واحدا إلى الله تعالى، وكذلك دعوة بولس الذي ادعى أنه رسول المسيح ولم ينسب أيضا سطرا إلى الله تعالى، فكلاهما ليست دعاوى نبوية بل دعاوى منحرفة قامت على دعاوى صادقة في الأصل. أما انتشار المسيحية بتحريف بولس فهذا مرجعه صدق المسيح لا تحريف بولس، وانحراف الأديان بعد الأنبياء واتساع هذا الانحراف إنما هو أمر معتاد بل هو الذريعة التي من أجلها يرسل الله تعالى الأنبياء اللاحقين، ولهذا أرسل الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان من أهم مهامه إعادة التوحيد بعد انحراف مسيحية بولس عنها. لذا، فبخلاف هذين المثالين، فإننا إذا تتبعنا سيرة كل مدعي نبوة كاذب فنجد أن مصيره كان الهلاك ثم فناء جماعته، وهذا أمر ظاهر معروف ومسلَّم به.
القتل فقط ليس قطعا للوتين
أخيرا نقول أيضا أن القتل لا يكون هلاكا بعذاب من الله تعالى وقطعا للوتين إلا إذا رافقه الإهانة والاجتثاث. فالنبي الصادق قد يقتل، ولكن لن يؤدي ذلك إلى إهانته أو القضاء على دعوته. وعموما فإن الله تعالى قد وعد عددا من الأنبياء – وخاصة مؤسسي الأديان وذوي الدعوات التي لها خصوصية معينة – بالعصمة من القتل، وكان على رأسهم النبي صلى الله عليه وسلم. ومن العجيب أيضا أن الله تعالى قد وعد المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام في وحيه: {والله يعصِمك مِن عنده ولو لم يعصمْك الناس، والله ينصرك ولو لم ينصرك الناس} (مرآة كمالات الإسلام) وتحقق وعده هذا ليكون دليلا آخر بيِّنا على صدقه.
الخلاصة أنه لا يمكن أن تبقى جماعة أسسها شخص ادعى أنه نبي أو مبعوث من عند الله وكان كاذبا. أما قتل النبي الصادق فممكن ولكن دعوته لن تفنى، وأما عدم قتل المدعي وبقاء جماعته وتوسعها وانتشارها فهذا يؤكد أنه صادق وأنه من الله تعالى ويجعل هذا الدليل كاملا وواضحا للغاية. أما وجود جماعات نشأت على انحرافات واجتهادات أو دعوات ليست دعوات نبوة ووحي صريح من الله تعالى فهذا لا علاقة له بالأمر هنا. وهكذا يصبح موت الموت المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام معززا مكرما بين أصحابه وبقاء جماعته وقوتها من بعده دليلا دامغا لا فكاك منه. والحمد لله رب العالمين.