لقد كان نبأ إخراج الإخوة النصارى والإيزديين من أرضهم في نينوى أمراً محزناً أدمى قلوبنا جميعا حسرة على ما عاناه إخواننا الأبرياء شركاء الوطن والإنسانية ولا زال يحزّ في نفوسنا ونبتهل إلى الله تعالى في كل صلاة ببكاء وألم ممزوجين بالأمل أن يحفظهم ويأمنهم ويعيدهم إلى ديارهم سالمين معزّزين وأن يعوضهم على ما فقدوا خيرا وبركة وسلوان، اللّهُمّ آمين.
نكاد نشاهد وقد شاهدنا اليوم بالفعل تركيزا من وسائل الإعلام العالمية على مأساة الأحبة النصارى -الذين يستحقون بالفعل كل انتباه وتركيز على ما تعرضوا ويتعرضون له من ظلم- ولكن للأسف مع تعتيم أو لنقل عدم اهتمام لمأساة باقي الشعب العراقي في نينوى من مسلمين شيعة وسنّة وتكفير للطائفة نفسها على يد داعش الآثمة حيث هجّرت مئات الآلاف من العوائل المسلمة شيعة وسنة بأعداد تفوق أعداد المسيحيين والإيزديين مجتمعين وكذلك ما يحدث في غزّة من دمار وَمجازر بشعة في حق الأبرياء العزّل والأطفال، فلا نكاد نسمع إدانة من الإعلام العالمي إلا لحماس (الأرهابية) وكأن اسرائيل اليهودية لا تذبح أحداً ولا تقوم بهدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها وقلب عاليها سافلها بشكل متواصل راح ضحيته آلاف الأطفال والشيوخ والنساء والمرضى والشباب ممن لا يشكلون أي خطر على أمن اسرائيل (الديمقراطية المسالمة). هكذا يحاول الإعلام العالمي اليوم للأسف نقل الصورة للناس حول العالم بدجل واضح ربما لا يفطن إليه إلا العارفون الذين يرون الدجل والكفر (التعمية والتغطية) واضحة وكأنها مكتوبة بين عيني هذا الإعلام الأعور. صحيح أن طرد المسيحيين كان بدافع (ديني) مبني على تفاسير متطرفة منحرفة لآيات القرآن المجيد ولذلك جرى التركيز على المسيحيين بالذات ربما للإيحاء بأن ما جرى إنما هو بسبب تعاليم الإسلام التي تأمر بذلك. عندما يتم عرض قضية ما والحكم غيابياً على شخص ثالث دون الأخذ بحيثيات هذا الشخص الغائب وأقواله كاملة ودراسة موقفه الصحيح من القضية فإن الحكم الذي صدر ويصدر بحقه غيابيا يعد ظلما عظيما نظراً لغيابه أولاً وتغييبه وتحريف موقفه ثانيا. إن تعاليم الإسلام تأمر بكل وضوح بصون حرية الآخرين حيث وردت آيات عديدة بل لا حصر لها للحث على الحرية الدينية منها على سبيل المثال لا الحصر :
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [الجزء: ٣ | البقرة (٢) | الآية: ٢٥٦]
وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الجزء: ١٥ | الكهف (١٨) | الآية: ٢٩]
إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ [الجزء: ٢٤ | الزمر (٣٩) | الآية: ٤١]
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ۗ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ [الجزء: ٧ | الأنعام (٦) | الآية: ١٠٧]
فأنت لست بوكيل عَنْهُم ولا حفيظ بل “إن عليك إلا البلاغ” و “فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر” و “إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب”. فالحساب عند الله تعالى وحده ودورنا هو التبليغ، فلسنا بأفضل من النبي المصطفى (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) الذي لم يكن وكيلا ولا حفيظا ولا مصيطرا على العالمين.
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الجزء: ٣٠ | الكافرون (١٠٩) | الآية: ٦]
– ويتضح من قوله تعالى “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ” أن الخطاب موجّه للكافرين بالنبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) حيث يقول لهم بأنني لن أعبد ما تعبدون ولا أنتم ما أعبد ولذلك كل منا له دينه مع التأكيد أن الدين عند الله الإسلام أي أن الإسلام هو الدين الحق ولذلك لم يقل ولي ديني بل دين أي دين الحق، والله أعلم. المفيد في سياق الحديث أن الكافر لايُجبَر على دين الإسلام بل يخيّر وتترك له الحرية في تحديد معتقده. هذا ما ينسف أيضا حد الردّة المزعوم الذي تطبّقه داعش اليوم ظلماً بالعباد.
أما عن تعاليم الإسلام حول النصارى وأصحاب الديانات الأخرى فالآيات التالية تبيّنها بكل وضوح:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الجزء: ١ | البقرة (٢) | الآية: ٦٢]
فهؤلاء لا خوف عليهم أي لا يجب أن يخافوا من شيء ما داموا صالحين مسالمين غير معتدين ولا هم يحزنون أي لا يجب التسبب في جرح مشاعرهم ولا بأي مما يثير شجنهم، وهذا ما يخالفه الداعشيون بتهجيرهم المسيحيين وقتلهم ونهب أموالهم وطردهم من ديارهم بغير حق وهم المسالمون الآمنون، فهل يسبب لهم ذلك غير الخوف والحزن الشديدين !
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الجزء: ٦ | المائدة (٥) | الآية: ٦٩]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [الجزء: ١٧ | الحج (٢٢) | الآية: ١٧]
– فلننتبه إلى قوله تعالى “إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” أي أن الفصل بين أصحاب الأديان بيد الله تعالى وحده لا بيد أحد غيره كما أنه يتم يوم القيامة، ولا تحسبوا أن الله تعالى غافلاً عن ذلك لتقوموا أنتم بالفصل بين الناس بدلاً عنه، بل “اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ”.
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الجزء: ١٧ | الحج (٢٢) | الآية: ٤٠]
– فالآية تنص بوضوح على لزوم منح الآخرين حرية الدين والمعتقد بل والدفاع عنها لينعم المسلمون وغير المسلمين بالحرية الدينية فيدافع المسلم المسؤول عن رعيته وجيرانه غير المسلمين عن معابدهم وكنائسهم حتى يموت في سبيل ذلك تحقيقا لحرية الدين والمعتقد التي أقرّها الله تعالى لهم ثم جاء ذكر المساجد في آخر السلسلة للدلالة على عدم تفضيل المسلمين لها على حساب معابد الآخرين. لنقرأ معا من تفسير ابن كثير للآية أعلاه :
“.. قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} أي لولا أنه يدفع بقوم عن قوم، ويكف شرور أناس عن غيرهم، بما يخلقه ويقدره من الأسباب لفسدت الأرض، ولأهلك القوي الضعيف، {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} وهي المعابد للرهبان (قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وغيرهم)، وقال قتادة: هي معابد الصابئين، وفي رواية عنه: صوامع المجوس، {وَبِيَعٌ} وهي أوسع منها وهي للنصارى أيضاً، وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره: أنها كنائس اليهود، وعن ابن عباس: أنها كنائس اليهود، وقوله: {وَصَلَوَاتٌ} قال ابن عباس: الصلوات الكنائس، وكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة: إنها كنائس اليهود وهم يسمونها صلوات، وحكى السدي عن ابن عباس: أنها كنائس النصارى، وقال أبو العالية وغيره: الصلوات معابد الصابئين. وقال مجاهد: الصلوات مساجد لأهل الكتاب، ولأهل الإسلام بالطرق، وأما المساجد فهي للمسلمين. وقوله: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}، فقد قيل: الضمير في قوله: {يُذْكَرُ فِيهَا} عائد إلى المساجد لأنها أقرب المذكورات، وقال الضحاك: الجميع يذكر فيها اللّه كثيراً..“. أ.هـ .
إن الخطاب القرآني كله يبيّن أن اليهود والنصارى وغيرهم كانوا في حمى الإسلام لا في ديار أخرى وإلا ما جاء الحديث بشكل المحاججة والنقاش بين القرآن الكريم وبين الطرف الآخر بهذا الشكل المباشر مما يدل على وجود أصحاب الأديان الأخرى بين ظهراني المسلمين بسلام ومحبة وحوار محترم لا إكراه فيه بل هو من باب البلاغ وإمكانية الحوار الودي إذا رغب الآخر في ذلك وبخلافه فـ “لكم دينكم ولي دين“.
هذه هي تعاليم الإسلام بشكل موجز للغاية حول أهل الديانات الأخرى وسبل العيش المشترك بمحبة وأمان. فالدين الإسلامي واضح في صونه لحرية الناس من شتى الخلفيات والمشارب مهما حاول الدجال (الإعلام الأعور) تعمية الجماهير عن الحقيقة.
لم يشأ الله تعالى أن يُساء للدين الإسلامي ليبدو بالصورة الوحشية التي يجتهد الداعشيون في رسمها ونشرها بين الناس نكاية بدين الإسلام الحقيقي الحنيف إضافة لتمسك الأمة للأسف بهذه التفاسير المدمّرة كالناسخ والمنسوخ الذي يهدم الآيات الحاثة على الحرية الدينية وعدم الإكراه، فكانت مشيئة الله تعالى أن يسمح لداعش بهدم وتفجير قبور الأنبياء والصالحين ومساجدهم وحرق المصاحف والكتب لتصل الرسالة واضحة للعالم بأن هؤلاء التكفيريين القتلة المخالفين للتعاليم القرآنية لا يمثلون الإسلام فهم يهدمون مساجد المسلمين كما يهدمون كنائس المسيحيين بل ويفجرون المساجد ويحرقون المصاحف تحت أقدامهم، وبذلك لا يكون الإسلام وتعاليمه هي السبب بل هؤلاء العصابات التي توزع ظلمها على الجميع بلا رحمة بل وأنها لتضرب الإسلام قبل غيره بالتشويه والتدمير المتعمد لمبادئه.
لقد انتفض الأنبياء سيدنا يونس، شيت وجرجيس وغيرهم (عَلَيهِم السَلام) من قبورهم ليدافعوا عن الإسلام ويقدموا أنفسهم مرة أخرى ضحية التكفير والظلم والعدوان حتى لا تنقلب المفاهيم ويظهر الإسلام بهذه الصورة السيئة للعالم فيما أراده الله تعالى رحمة لهم وأمنا.
لقد كان الأنبياء عليهم السلام ثانية أبطال الدين والمدافعين عنه رغم مرور عشرات القرون أو أكثر على وفاتهم، فحملوا من جديد أذى المجرمين بجثمانهم الزكي أو مقاماتهم ليكون الدين كله لله دفاعاً عن حياض الإسلام الذي اختطفته يد الغدر والقهر ؛ يد الدجال العالمي وجنوده الداعشيين وأمثالهم. فيا أيها الإخوة المسيحيون ليس ذلك من الإسلام في شيء والدليل تخريب من اضطهدوكم للمساجد بقدر تخريبهم وأكثر للكنائس والمعابد والظلم ملة واحدة.
صلوات الله وسلامه عَلَيْكُم يا أنبياء الله ﷻ .. طبتم أحياء وميتين.