الموضوع السابق: خلافة آدم واعتراض الملائكة


قصة سجود الملائكة لآدم

(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة: 35).

من المحقق أن السجود بمعنى العبادة لغير الله تعالى يناقض تعاليم القرآن الكريم، وأن الملائكة لا يسجدون لغير الله تعالى أبدا، ولذا فإن المراد من الأمر الإلهي (اسْجُدُواْ لآدَم) لا يعني سجود التعبد لآدم، وإنما يعني: اسجدوا لله بسبب استخلافه لآدم، لأن الله تعالى قد أسس هذا النظام الرائع، فكأن الله عز وجل حينما أثبت للملائكة بالدليل العملي أن خلافة آدم لها حكمتها السامية، إذ أُنيط بها الظهور الكامل لصفات الله تعالى، عندئذ أمر الله الملائكة أن يسجدوا له عز وجل سجود حمد على هذه النعمة وذلك كما نرى أن عباد الله الشاكرين يخرون سجدا حينما تتراءى لهم مظاهر قدرة الله تعالى وجبروته.

ونظرًا إلى هذا المعنى، ينبغي على المؤمن أن يخر ساجدا لله كلما نزل عليه فضل الله، لأن ذلك أدعى إلى زيادة نزول أفضاله جل وعلا، ولكن مع الأسف أن كثيرا من الناس بدلا من أن يشكروا، يأخذهم الاستكبار عندما يحظون بنعم الله، ويحسبون ازدهار أعمالهم من آثار نبوغهم وبراعتهم.

والسجود هو الطاعة أيضا، فقوله (اسْجُدُواْ لآدَم) يعني أطيعوه وانقادوا له، أي القيام بمصالحه ومصالح أولاده. ومن ناحية هذا المعنى يكون المراد من الأمر بالسجود أن الله عز وجل بعد أن شرف آدم بالخلافة، أمر الملائكة بطاعته، وقال إن آدم اليوم هو مظهر مرضاتنا في الدنيا، فعليكم أن تساعدوه في مهمته وتعاونوه على إنجاز ما كلف به، وتسخروا له من هذا النظام الكوني ما هو تحت إدارتكم، والذي أنتم حلقة من حلقاته. (فَسَجَدُواْ ) أي فاندفعوا نحو تأييد آدم والعمل على تحقيق عزائمه. فهم العلة الأولى لإدارة نظامه، ولذلك يكون الأمر الصادر إليهم عاما يشمل جميع من يليهم من الأفراد.

ولقد جاء في الحديث النبوي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ “إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ” (صحيح البخاري، كتاب التوحيد) وهذا الحديث يبين تسلسل الأمر الإلهي حتى يصل إلى الناس فيما يتعلق بالأمور التي تخص البشر. فأمر الله تعالى للناس يبدأ بالملائكة، فإذا ما صدر لهؤلاء فقد شمل السلسلة كلها حتى البشر.

إباء إبليس واستكباره:

وقوله تعالى: (أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) بيان لموقف إبليس من السجود لآدم، لقد أبى إبليس لأنه لم ير هذا النظام ملائمًا لنفسه. إنه نظام ناقص في تقديره. فمن مقتضيات الإباء الامتناع عما يحط من شأن المتأبي. إن الناس يرون الحقائق بمنظار أهوائهم ومصالحهم الشخصية، ولا يرونها في ضوء المصالح العامة، فإذا وجدوا فيها إضرارا بمصالحهم العاجلة، نسوا عاقبتهم وأعرضوا عن مصالح عامة الدنيا، واجتهدوا وشمروا لمعاداة الحق.

والاستكبار دافع ثان لإنكار الحق ورفضه. ولقد عبر إبليس عن هذا الاستكبار بقوله: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (الأَعراف 13). فزَها بكونه ناري الطبع، وأن آدم طيني الطبع إذ يتشكل في كل القوالب كالعبيد. وهكذا فإن اتباع الحق الذي يورث الإنسان خلق التواضع هو في نظر أعداء الحق معرة ومنقصة. إنه عندهم ينافي المصالح الوطنية والملّية ويرون أهل التواضع خونة لبلادهم. إنهم يتباهون بشراستهم وطبائعهم الشريرة، ويحسبون أنهم بعاداتهم العدوانية قادرون على تشييد مجدهم. إنهم ينخدعون بما يحصلون عليه من إثارة الشر والفتن ولكن ذلك كله لا يحقق المصالح الثابتة الدائمة.

والسبب الثالث للإباء أن يرى المرء ما يُعرض عليه كبيرا ومستحيلا، وقد عبّر عن هذا الأمر فى قوله تعالى على لسان الكفار: (وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا) (الفرقان: 22)، فهم يحسبون لقاء الله تعالى أمرا مستحيلا فأبوا أن يصدِّقوه.

والسبب الرابع للإباء أن يعتاد المرء إنكار الحقائق، ويدل على ذلك وصف الله له في قوله: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ). واليوم أيضا نجد أن المنكرين للحقائق يتعرضون لمثل هذه الأوضاع. وليت الناس حاولوا إدراك تلك الحقائق متخلين عن هذه العيوب الأربعة، فعرفوا أن الله تعالى قد فتح لهم في هذه الأيام أبوابا واسعة للتقدم والرقي، وأتاح لانتصار الإسلام وسائلَ عديدة، ولكن قلَّ منهم من يجرؤ على ملاقاة التضحيات وجها لوجه لكي يحظوا فيما بعد بالحياة الخالدة لهم وللإسلام. ولكنهم يبذلون كل جهد لتحقيق المصالح العاجلة وإن كانت مؤقتة زائلة. يا ليت قلوبهم انشرحت وتطهرت من الصدأ!

كيف خُدع آدم وما الفرق بين إبليس والشيطان؟

وجوابنا على ذلك بأن القرآن يفرق بين إبليس والشيطان، فحيثما ذكر الامتناع عن السجود لآدم نسبه إلى إبليس، وحينما ذكر محاولة إغواء آدم أسندها إلى الشيطان. وإليكم بعض الشواهد: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة: 35). (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) (البقرة: 37). (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (الأَعراف: 12). (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ) (الأَعراف: 21).

واختلاف الكلمتين في كل مرة لا يخلو من حكمة، والقرآن الحكيم يرعى الحكمة في كل كلمة من كلماته، فمن المستحيل أن يكون الاختلاف بين الكلمتين فيه دون حكمة، فلزم أن يكون الممتنع عن السجود غير الذي حاول الإغواء. ولذلك أطلق على الأول اسم: إبليس، وعلى الثاني اسم: الشيطان. أما الجواب الأجدر بالاعتبار، فهو أن القول بخلق الجان من النار لا يعني ولا يستلزم أن يكون إبليس أو الجن قد خلقوا فعلا من النار المادية، وإنما يدل هذا الأسلوب اللغوي العربي على أن إبليس كان مطبوعا على طبائع نارية من التمرد والعصيان.

يرى البعض أن انخداع آدم بكلام إبليس أمر غير معقول؛ فقد حذره الله تعالى منه صراحة، وقال له عز وجل: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) (طه: 118)، بينما ذكر فى القرآن في مكان آخر براءة آدم عليه السلام من هذا الظن فيقول: (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (طه: 116).

ويمكن تفسير هذا التعارض الظاهري باعتبار الشيطان الذي خدع آدم غير إبليس الذي حذر الله تعالى آدم منه. إن آدم انخدع بالشيطان ولم يعرف أنه أيضا من أعوان إبليس وأظلاله، فلم يأخذ الحذر منه. فوقع في الخطأ. وهذا ما يؤكده القرآن، فإنه كلما ذكر الكائن الذي امتنع عن السجود سمّاه (إبليس)، وهو الذي حذر الله آدم منه، ولكنه كلما ذكر الذي وسوس لآدم وأخرجه من الجنة سماه (الشيطان). فالقرآن يقرر أن المخرج هو إبليس، والموسوس هو الشيطان.

فإبليس هو الكائن المخالف للملائكة والمحرض على الشر، والشيطان اسم عام يطلق على جميع القوى الشريرة. يمكن أن يطلق على إبليس نفسه، أو على غيره ممن يتبعه، أو ينوب عنه في إغواء الناس وتوجيههم إلى المنكرات، وإغرائهم على مقاومة رسالة الأنبياء. والشيطان على عكس إبليس يطلق أيضا على الأرواح الخبيثة كما يطلق على بني البشر؛ غير أن استعماله في المعنى الأول أكثر من استعماله في وصف الإنسان، كما جاء في وصف المنافقين حيث قال تعالى: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) (البقرة: 15). والمراد بالشياطين هنا أئمة الكفر؛ كقوله تعالى (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 176)؛ وكقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) (الأَنعام: 113). فهؤلاء كلهم أهل الشر الذين يتزعمون المعارضة والتحريض عليه.

هل خلق الله إبليس ليضل الناس؟

لقد تساءل البعض: هل خلق الله تعالى إبليس كي يضل الناس؟ هل يريد الله سبحانه أن يضلل عباده؟

الواقع أن الأمر على العكس من ذلك؛ فالله عز وجل زوّد الإنسان بالقدرة على الخير والشر، وخلق معه الملائكة وأظلالهم وإبليس وأظلاله أيضا. الفريق الأول يرغب القلوب في الخيرات، والفريق الثاني يغريها على الشرور، فالذي يلبي دعوة الملائكة وأظلالهم استحق الأجر، والذي ينقاد لتحريض إبليس وأوليائه يستحق العقاب. والكمال الإنساني يتطلب أن يكون الإنسان مخيرا بين هاتين الحركتين، لكي يحكم بنفسه ويختار الطريق الذي يقبله، فيستحق بذلك النعم العليا. ولولا تعرضه لمجال الشر لما أمكن أن يكون مستحقا لأعلى النعم وأمثالها.

أجل، لقد أوضح القرآن الكريم أيما إيضاح أنه ليس لإبليس ولا للشيطان أي تصرف في أمر أحد من الناس؛ فهم مخيرون بين اتباعه ومخالفة تحريضه، كما يقول تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (الحجر: 43).

وقصارى القول: أن القرآن الكريم يدلنا على أن حركات إبليس لا تتأسس على دليل أو برهان، ولكنها تقوم على الوعد والوعيد بأُمور مزخرفة كاذبة، كما قال تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا) (الإسراء: 65). ولذلك فلا يمكن القول بأن الله قد عمل على أن يضل عباده بخلق إبليس، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. إنما كان يصح ذلك لو أنه عز وعلا قد أعطى للشيطان سلطانا من عنده، لكن الأدلة كلها تؤيد الملائكة دون إبليس، فمن يتبع إبليس إنما يتبعه باختياره، وهو مسئول بنفسه عما يفعل.

إن الله عز وجل جعل في قوله (إِلاَّ إِبْلِيسَ) إبليس تابعًا للملائكة، الأمر الذي يدل على أن الخير غالب، والشر مغلوب، وعلى أن الملائكة هم المدبرون لنظام هذا الكون، وهم منابع الخير؛ وإبليس ما هو إلا الانحراف عن طريق الخير. وقد صرح القرآن الكريم مرارا بأن الإنسان مفطور على الخير، فقال: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس: 8-11). ومعنى ذلك بلفظ آخر، أن الإنسان مفطور على الاستعداد لقبول توجيه الملائكة، وعندما يولد يكون بريئا من تدخل الشيطان، لكن بعدئذ يقتفي هو بنفسه آثار الشيطان فيهلك. وقد وضح ذلك الحديث النبوي: “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.” (البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين.)


الموضوع التالي: الشجرة التي نهي عنها آدم وهبوطه من الجنة، والموعظة والدروس