نسب ومعنى إسم إدريس
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) (مريم: 57)
إن أكثر المفسرين متفقون على أن سيدنا ادريس عليه السلام هو أخنوخ الذي هو وَلَدُ سِبطِ آدم، وهو جدُّ نوح عليهم السلام أجمعين (فتح البيان، الدر المنثور)؛ واسمه بالإنجليزية Enoch.
ويقول بعضهم إن إدريس هو إلياس. وقد كان السبب الأول الذي حدا بهم إلى اتخاذ هذا الرأي اعتقاد البعض أن إلياس قد رُفع إلى السماء أيضًا. أما السبب الثاني هو أنه كانت هناك نبوءة عن نـزول إيليا من السماء ثانية قبل ظهور المسيح، فهذا التشابه بين المسيح وإلياس جعلهم يظنون أن إدريس هو إلياس. ولكن أصحاب هذا الرأي قلة. ومما يدل على خطأ هذا الرأي أيضًا أن القرآن قد ذكر إلياس في مواضع أخرى، ومن غير المعقول أن يذكر القرآن إلياس هنا باسم آخر. لو كان النطق بلفظ إلياس صعبًا على العرب لقلنا إن أصحاب هذا الرأي على الحق، ولكن ما دام القرآن الكريم قد استعمل اسم إلياس في مواضع أخرى فمن الخطأ تمامًا اعتبار إدريس هو إلياس، إذ لا دليل على صحة هذا الرأي.
كما أن هناك تشابهًا بينَ أخنوخ وإدريس من حيث المعنى. فأخنوخ يعني في العبرية Dedication أي وقفُ الشيء، أو Instruction أي التعليم والتدريس (الموسوعة التوراتية، مجلد2: Enoch). أما إدريس فيعني كثير الدراسة والتدريس، إذ هو مشتق من درس. وكأن إدريس يتضمن أيضًا معنى Dedication و Instruction كليهما، لأن المرء إذا عكف على عمل صار ماهرًا فيه، ونذر نفسه لـه. فترى أن “إدريس” يعني في العربية ما يعني “أخنوخ” في العبرية.
يقول صاحب أقرب الموارد عن إدريس إنه “عَلَمٌ أعجميٌّ“. ذلك أن العَلم إذا كان غير منصرف كان أعجميًّا. فلولا أنه عَلَمٌ غير منصرف لكان عربيًّا.
أما ابن السكيت فيرى أنه غير منصرف ولكنه عَلم عربي. وقد تمسك برأيه هذا بشدة وهو يدّعي أن لإدريس معنى في العربية. فهو مشتقّ مِن الدرس مثل إبليس الذي اشتُقّ من الإبلاس، ويعقوب من العقب، وإسرائيل من الإسرال.
وأقول: إن هناك أسماء أخرى أيضًا -لم يذكرها ابن السكيت- قد اشتُقت من الكلمات العربية مثل إضحاك من الضحك وإسماعيل من السمع.
غير أن رأي ابن السكيت هذا مرفوض عند اللغويين الآخرين، وحجتهم في ذلك أنه لو كان لفظ “إدريس” لفظًا عربيًّا لما كان غير منصرف، فمنعُ صرفه دليل على عجمته، لأن العَلم العربي يكون منصرفًا.
ويرى الأصمعي والقرطبي وصاحب الكشاف أنه يجوز أن يكون معنى “إدريس” في تلك اللغة الأجنبية قريبًا من ذلك، فحسِبه ابن السكيت من الدرس خطأً، وظنّه عربيًّا. (تفسير القرطبي)
ولكنني أرى أن كلا الفريقين على الخطأ. لقد أخطأ ابن السكيت حين اعتبر “إدريس” عربيًّا، إذ لو كان عربيًّا لما كان غير منصرف بحسب قواعد اللغة. أما العلماء الآخرون الذين قالوا إن إدريس لفظ أعجميّ ولذلك صار غير منصرف، فهم أيضًا لم يدركوا الحقيقة المبتغاة. ذلك لأن هؤلاء أيضًا يعترفون أن اسمه أخنوخ. إذًا فإدريس ترجمة لِـ “أخنوخ”. وما دام هذا الاسم اسمًا مترجَمًا فإنه لم يعد عَلَمًا، وبالتالي لم يعد غير منصرف، لأن الاسم ُيمنع من الصرف إذا كان عَلمًا أعجميًّا. إذا كان إدريس ترجمة لِلفظ “أخنوخ” فقد زالت عنه العَلَمية، ولو كان إدريس عَلمًا فليس هو اسمًا للنبي أخنوخ، بل هو اسم نبي آخر. أما إذا كان إدريس اسمًا لأخنوخ نفسه فثبت أنه ترجمة لأخنوخ، وبالتالي فإنه يفقد العَلَمية. إذًا فالذين قالوا أن إدريس غير منصرف قد وقعوا في الخطأ يقينًا، إذ ليس هناك سبب ظاهر لاعتباره غير منصرف…
وقصارى القول إنه من الحقائق الثابتة أن إدريس كان اسمًا متداولاً بين العرب قبل الإسلام، وأن هناك تشابهًا بين إدريس وأخنوخ من حيث المفهوم. والسؤال الذي يفرض نفسه هو:
لماذا أطلق على سيدنا إدريس اسم أخنوخ؟
قد يرجع ذلك إلى أن بعض الناس يكون لهم اسمان. وقد رأينا عديدًا من الناس الذين دعاهم البعض بغير اسمهم المعروف، ثم تبين عند السؤال أن لهم اسمين. فمن التفسيرات المحتملة أن أخنوخ كان يدعى إدريس أيضًا. ولكن المشكلة أن لا أثر لاسم إدريس في كتب اليهود. نعم، نجد اسم “إدراس” (Esdras) في العهد القديم المعروف بـ “The Apocrypha”، والـذي هو شِبْـهُ المسلَّم به عند اليـهود (The Apocrypha, The American Translation p. xi) ، ولكن الأحداث التي ذكرها القرآن الكريم عن إدريس ؏ لا تنطبق على إدراس (Edras)، إنما تنطبق على أخنوخ. فلا يمكننا أن نحلّ هذه المعضلة بقولنا أن إدريس اسم آخر لأخنوخ.
وهناك حل آخر لهذه المعضلة. ذلك أن الناس قد يترجمون اسم الشخص المنتمي لشعب آخر إلى لغتهم بغية التوضيح. وهذا ما حصل بأخنوخ. يبدو أن أحد اليهود قد ذكر اسم أخنوخ عند صديقه العربي، فقال لـه العربي في حيرة: وما هو أخنوخ؟ وكان اليهودي شخصًا ذكيًّا وملمًّا بالعربية -حيث كان اليهود مقيمين حتى في المدينة أيضًا- ففسر لصاحبه معنى أخنوخ، وقال: يمكنك أن تعتبر أن أخنوخ يعني إدريس؛ وبأن العربي الذي سمع هذا الاسم ظن أنه اسم عَلم وأعجمي أيضًا، لأن الذي يذكره أمامه شخص من العجم. لذلك أرى أن هذا هو السبب وراء اعتبار اسم إدريس ممنوعًا من الصرف. شأنه شأن لفظ “وليام William بالإنجليزية الذي يعني صاحب العزم، لأنه في الواقع مركب من كلمتين هما Will ومعناها الإرادة والعزيمة وHelm، ومعناه الخُوذ الحديدي؛ فيكون معنى William بالعربية صاحب العزم الحديدي، أو الذي هو من أولي العزم. فإذا تحدثنا مثلاً عن شخص من الأشخاص أمام بعض الإنجليز وقلنا لـه إن ذلك من ذوي العزم، فسَأَلَنا ما هو “ذو العزم”، قلنا لـه إنه “وليام” بلغتك، وكأننا نترجم للغته اسمَ ذلك الشخص.
فالأمر الواقع عندي أن لفظ حنوك قد تُرجم للعرب بلفظ إدريس، فظنوا أنه عَلمٌ، ولما كان المترجم من غير العرب ظنوا أن إدريس عَلم أعجمي. والحقيقة أن العربية والعبرية لغة واحدة، إلا أن العرب واليهود قد نسوا هذه الحقيقة بمرور الأيام، فظن العرب أن العبرية لغة مختلفة تمامًا عن العربية، كما ظن اليهود أن العربية لغة أجنبية، في حين أن العربية هي اللغة الأم، أما العبرية فكانت لغة بعض القبائل العربية. ولا قيمة للاختلاف الموجود بين اللغتين، إذ نرى أنه حتى اللغة الواحدة تختلف من منطقة إلى أخرى لهجةً ونطقًا…
لقد ذُكر اسم حنوك أي إدريس في التوراة في أماكن عديدة حيث جاء في سفر التكوين أن قايين -وهو الذي يسمى في العربية قابيل، وقام بقتل أخيه هابيل- كان له ابن اسمه حنوك. ووُلد لحنوك عيراد، وعيرادُ ولَد مَحُويائيل، ومحويائيلُ ولَد مَتُوشائيل، ومتوشائيلُ ولَد لامَكَ، وولَد لامكُ يابالَ ويُوبالَ مِن زوجة، وتوبالَ قايين من زوجة أخرى (انظر سِفر التكوين 4: 17-21).
لقد تبين من هذه الفقرات أن اسم حنوك (أو أخنوخ) كان قد لقي القبول والرواج منذ بداية الإنسانية، حيث وُجد شخصان بهذا الاسم في بضعة أجيال من ذرية آدم ؏؛ أحدُهما حنوك بن قابيل، والثاني حفيد شيث في جيله الخامس، والذي يسمى إدريس أيضًا، وكان هذا جدًّا لنوح ؏.
وبحسب الروايات الإسلامية عن نسب آدم كان النبي الأول هو آدمُ الأبُ، والنبي الثاني هو شيثٌ بن آدم، والنبي الثالث هو حنوك الذي كان حفيدًا لآدم في جيله الخامس، والنبي الرابع هو نوح حفيد حنوك.
أعمال حنوك في التوراة
لقد ورد في التوراة أن أخنوخ عاش ثلاثمائة وخمسًا وستين سنة. وبعد ولادة ابنه الأول متوشالح، أي في سن الخامس والستين صار أخنوخ مقربًا لدى الله تعالى، وظل في هذا المقام ثلاث مئة عام. ونص العبارة هي: “وَسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ بَعْدَ مَا وَلَدَ مَتُوشَالَحَ ثَلاَثَ مِئَةِ سَنَةٍ.. وسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ أَخَذَهُ” (التكوين 5: 22-24).
والمفهوم الجلي لهذه العبارة أن حنوك، أو إدريس، عاش في معية الله، وظل متمتعًا بمعية الله وقربه حتى الموت. ولكن الويل للذين يشددون على التمسك بحرفية الكلام، حيث يرى بعض المعجبين بالخرافات، يهودًا ومسلمين، أن جملة “ولم يوجد لأن الله أخَذه” تعني أنه تعالى قد رفعه إلى السماء. وهكذا صار إدريس، بحسب هؤلاء المسلمين، ضمنَ قائمة المرفوعين إلى السماء التي تضم المسيح الناصري أيضًا.
إذًا فقضية صعوده إلى السماء في سن الثلاث مائة وخمس وستين عامًا لا تثبت من هذه العبارة بشكل من الأشكال.
خلاصة القول إنهم قد فسروا فقرات الكتاب المقدس تفسيرًا غير طبيعي ومنافيًا للسنة الإلهية، فعزوا إلى الله تعالى وإلى الكتاب المقدس المهازل التي لا يقبلها العقل بتاتًا. مع أن المعنى كان بسيطًا واضحًا بأن حنوك ظل مقربًا لدى الله تعالى في حياته وسيكون بعد مماته أيضًا من المقربين.
فثبت أن السير مع الله تعالى لا يعني أبدًا أن الله تعالى مقيم في مكان معين حيث يسير الإنسان معه، كما أن أَخْذَ الله لأحد لا يعني أنه نقله من مكان إلى آخر، وإنما المعنى أنه مات ميتة حسنة، وأنه سيكون بعد موته أيضًا من المقربين لدى الله تعالى.
لقد ذُكر حنوك أو إدريس في العهد الجديد أيضًا، ولكن المسيحيين قد كتبوه فيه حنوق بدل حنوك تظاهرًا بعلمهم. ولكنه غلط، حيث بينتُ من قبل أن أصله، وهو “حنك”، موجود في العربية. ورد في العهد الجديد: “بالإِيَمانِ نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى الْمَوْتَ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ نَقَلَهُ” (رسالة بولس إلى العبرانيين 11: 5).
هذه العبارة توضح جليًّا أن بولس كان متأثرًا بالعقيدة العامة لليهود أن حنوك نجا من الموت لصلاحه، فرُفع إلى السماء. ذلك بالرغم أن هذه العقيدة تتعارض مع المسيحية؛ حيث إن المسيحية إنما ترى أن الموت مآل الإثم، وأن الإثم شيء موروث، وأن جميع بني آدم آثمون، وأن المسيح قد خلّصهم من الإثم الموروث بتقديم الفداء. ولكن بولس لم يفكر هنا أن حنوك نال النجاة بدون المسيح وصار صالحًا، في حين أن المسيحيين، بل الحواريين أيضًا، لم يقدروا على النجاة من الموت رغم إيمانهم بالفداء والكفارة، وبتعبير آخر لم يستطيعوا أن يكونوا صالحين. فما دام المسيحيون لم يستطيعوا أن ينجوا من الموت رغم إيمانهم بالكفارة.. أي لم يتطهروا من الإثم، بينما نجا حنوك من الموت بدون الإيمان بالمسيح وصار صالحًا؛ فقد ثبت بذلك بكل جلاء أن نظرية الكفارة باطلة تمامًا…
روايات حنوك عند اليهود والنصارى
إن بعض المصادر اليهودية تقول أن حنوك انحرف عن طريق الصلاح في آخر عمره، فرفعه الله إلى السماء لكيلا يصير فاسقًا فتكون عاقبته وخيمة. كما قيل أيضًا أنه لم يُصعَد إلى السماء، بل مات بالطاعون.
وقد ورد في كتب اليهود أيضًا أن حنوك اخترع علم الكتابة والفلَك والحساب (الموسوعة اليهودية مجلد 5 نقلا عن سِفر يوهاسين (Sefer Yuhasin
لقد وردت في كتب المسلمين أيضًا روايات بأن حنوك اخترع علم الكتابة والفَلك (قصص الأنبياء للنجار، ص28)، ويبدو أنهم قد نقلوها عن اليهود.
كان اسم حنوك قد اندثر تقريبًا في التاريخ اليهودي البدائي، ولكنه صار يُذكَر في كتبهم ثانية بعد بضعة قرون حيث أخذوا فيما بعد ينشرون كتابًا باسم سِفر حنوك. وقد ورد في هذا السفر أن الله تعالى ترك الأرض بسبب ذنوب العباد، ورفَع حنوك إلى السماء، وجعله حافظًا على كنوز السماء، وسيدًا على الملائكة، ورئيسًا على حاشيته المقربين من حول العرش. فهو مطلع على الأسرار كلها، وأن الملائكة تسانده وتؤيده، وأنه وجهُ الله تعالى، وأنه يقوم بتنفيذ أوامر الله تعالى في الكون، ويعلّم المعارف الروحانية، ويأخذ الأرواح إلى مكان الراحة والسكينة، وأنه قد سُمّي أميرَ فمِ الله تعالى، وأميرَ التوراة، وأمير الحكمة، وأمير العقل، وأميرَ العظمة والجبروت. هو الذي نـزل بالرسالة على موسى؛ وهذا يعني أنه مُنح المنصب الذي يتولاه جبرائيل.
وقد ورد في كتب بعض اليهود الآخرين أنه عندما نـزل شرع موسى صار حنوك تابعًا لـه، وإن كان من قبل ملتزمًا فقط بالشرع الذي أتى به نوح والذي كان يشتمل على سبع وصايا فقط. (الموسوعة اليهودية، مجلد5: Enoch).
أما ما ورد عن حنوك في المصادر المسيحية فقد سبق أن سجلتُ فقرة من رسالة العبرانيين. وقد ذُكر حنوك في مصدرين آخرين مسيحيين أيضًا يُعَدّان من الصحف السماوية عند المسيحيين. يقال أنهما قد أُلّفا قبل المسيح ؏، ولكن لا أثر لهما إلا عند المسيحيين. وأحد هذين المصدرين هو “صحيفة حنوك” عند الكنيسة الحبشية، أما المصدر الثاني فهو الآخر يُعد “صحيفة حنوك” عند كنيسة Slavonic الروسية. والصحيفة الحبشية ليست سوى مجموعة روايات ناقصة، أما الصحيفة الروسية فهي كتاب مفصل. ويتضح من هاتين الصحيفتين أن حنوك كان يسير في الأرض وفي السماء مع ملائكة الله. ثم عاد إلى أقاربه وأخبرهم بما رآه في السماء، ثم رُفع إلى السماء وهو حي ليستقر هناك. لقد قام حنوك في رحلته إلى السماء بما يلي: 1- اطلع على أسرار السماوات والأرض. 2- وكُشف عليه النواميس الطبيعية كلها. 3- رأى أبناء الله – أي ملائكة الله – الذين كانوا قد عوقبوا على ارتكابهم الفاحشة مع بنات البشر. 4- وشفع لهؤلاء الملائكة الذين كانوا يعاقَبون (الموسوعة اليهودية، مجلد5: Enoch).
ويرى البعض أن حنوك هو في الواقع اسم إله الشمس، ثم بعد مرور الوقت اعتُبر اسم شخص لأن عمره، كما يقال، كان 365 عامًا مثل السنة الشمسية التي تتكون من 365 يومًا. (المرجع السابق).
إنه من المستغرب أن هؤلاء الكتاب المسيحيين اعتبروا حنوك إله الشمس بسبب عمره الذي كان 365 عامًا، ولكنهم لم يفكروا أن الكتاب المقدس نفسه يعلن أن أبناء حنوك وبناته وأحفاده وحفيداته قد بلغوا من العمر ثمانية أو تسعة وحتى عشرة قرون. فبدلاً من أن يعتبروا هذا الشخص الحقيقي وجودًا خياليًّا بسبب عمره البالغ 365 سنة، لم لا يقولون إن هؤلاء أشخاص حقيقيون ولكن أعمارهم خيالية خرافية؟
حنوك وإدريس هما شخص واحد
أما المصادر الإسلامية فقد ذُكر فيها حنوك باسم إدريس، كما بيّنّا من قبل. والحق أن معنى إدريس وحنوك واحد، ولذلك فإن قول المفسرين أنهما شخص واحد قول صائب تمامًا على ما يبدو. كما أن الإشارة التي قام بها القرآن الكريم إلى أحوال إدريس ؏ أيضًا تشبه هذا القول.
حقيقة رفع سيدنا إدريس إلى السماء عليه السلام
ورد في الحديث أن النبي ﷺ وجد في معراجه إدريس ؏ في السماء الرابعة (ابن كثير). كما تذكر التفاسير، نقلاً عما ورد في الإسرائيليات، أن إدريس ؏ صعد إلى السماء الرابعة بواسطة ملاك كان صديقًا لـه، وأن عزرائيل توفاه هنالك في السماء. ولكن بعض المفسرين الآخرين يرون أنه لم يُتوف. فقال مجاهد إن إدريس لم يمت، بل رُفع إلى السماء كما رُفع عيسى. وفي رواية عن ابن عباس ؓ أن إدريس رُفع إلى السماء السادسة. وعن الحسن أنه أُخذ إلى الجنة. (المرجع السابق، وروح المعاني)
إن هذه الروايات كلها إسرائيليات، أعني ليس منها ما رُوي عن الرسول ﷺ، اللهم إلا الحديث الذي يذكر أنه ﷺ قد رأى في معراجه إدريس في السماء الرابعة. ففيما يتعلق بكتب الروايات الإسلامية فقد ذكر فيها المسلمون كثيرًا من الترهات الموجودة في الإسرائيليات، ولكن فيما يتعلق بالتراث الديني الإسلامي فإن ما ورد في الحديث إنما هو أن إدريس كان في السماء الرابعة. بينما اكتفى القرآن الكريم بقوله إن إدريس كان كثير الصدق ونبيًّا، وأن الله تعالى رفعه إلى مكان عليّ. والحق أن هذا هو كل ما يمكن أن يُعتبر حقًّا من أحوال حنوك، وهذا هو ما ينص عليه سفر التكوين أيضًا حيث ورد فيه أن إدريس كان يسير مع الله تعالى أي أنه كان صالحًا، وأن الله تعالى أخذه إلى مقام عال، أي أنه مات ميتة حسنة، وأن الله تعالى قد بوّأه بعد الموت درجة رفيعة.
وأما ما يروى عن إدريس ؏ أنه قد جيء لـه بحصان من السماء، فركبه وصعد إلى السماء، فيُذكر مثلُه تمامًا في الروايات الشائعة بين المسلمين حول المعراج. إذ قد شاع بين المسلمين أن النبي ﷺ قد جيء له بدابة من السماء اسمها البراق، فركِبها وصعد في السماء (البخاري: بدء الخلق، باب ذكر الملائكة). والحق أن صعود النبي ﷺ هذا كان من قبيل الكشوف اللطيفة العالية. فالإنسان يمكن أن يصعد إلى السماوات بجسم نوراني، ويرى الله تعالى أيضًا. ولكن هذا الجسد المادي لا يصلح لهذه الأمور، فلا يذهب إلى السماوات العلا، ولا يتمكن من رؤية البارئ تعالى أيضًا. إن محبّي الخرافات يفسرون هذه الأمور الروحانية تفسيرًا ماديًّا، ويقولون أقوالاً سخيفة غير معقولة؛ مما يُضعف إيمان الناس، فيقعون في متاهات الاختلاف بين الدين والعلم. ليت هؤلاء أبقوا الحقيقة على حالها، ولم يجعلوا الدين لعبة ومهزلة!
سير حنوك مع الله تعالى
أما ما ورد عن حنوك أنه كان يسير مع الله تعالى فقد وردت كلمات مماثلة في حق إسماعيل ؏ أيضًا حيث قيل: “وكان الله مع الغلام” (التكوين 21: 20). والحق أن هذه الكلمات أقوى معنى من السير مع الله تعالى. ذلك أنها تعني أن الله تعالى كان مع إسماعيل كل حين سواء كان سائرًا أو قائمًا أو قاعدًا أو نائمًا. وهذا هو التشابه الذي بسببه قد ذكر القرآن الكريم إسماعيل وإدريس معًا. لقد ذُكر إدريس في القرآن مرتين: مرة في سورة الأنبياء حيث قال الله تعالى (وإسماعيلَ وإدريسَ وذا الكِفْل كلٌّ من الصابرين) (الأنبياء: 86)، ومرة أخرى في سورة مريم، حيث قال الله تعالى (واذْكُرْ في الكتاب إسماعيلَ إنه كان صادقَ الوعدِ وكان رسولاً نبيًّا * وكان يأمر أهلَه بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مَرضيًّا * واذْكُرْ في الكتاب إدريسَ إنه كان صِدّيقًا نبيًّا * ورفَعْناه مكانًا عليًّا) (مريم: 55-58).
فبما أنه قد وردت في صحف الله كلمات السير مع الله تعالى في حق هذين النبيين فإن القرآن الكريم أيضًا قد ذكرهما معًا في كل مرة.
وهنا يطرح سؤال نفسه وهو: إذا كان إسماعيل وإدريس يُذكران معًا لوجود هذا التشابه بينهما، فما الحكمة في لفت الأنظار إلى إدريس هنا في سياق الموضوع الذي هو قيد البحث. فإن الله تعالى يبين هنا أن زكريا دعا الله تعالى أن يرزقه بولد، فاستجاب له ربه ورزقه يحيى، الذي كان لا بد من بعثته قبل مجيء المسيح كإرهاص له. ثم ذكر الله تعالى المسيح الذي هو المقصود الحقيقي هنا، حيث بين الله تعالى أن عقائد العالم المسيحي حول المسيح خاطئة وباطلة تمامًا، فلم يكن المسيح إلهًا ولا ابن الإله، بل كان حلقة من السلسلة الموسوية. ثم نبّه الله تعالى إلى أن السلسلة الموسوية بدأت نتيجة دعاء إبراهيم؛ فكان الله تعالى قد قطع لإبراهيم وعدين: وعدًا يخص إسماعيل ونسله، وآخر يخص إسحاق ونسله. ومن أجل ذلك قد تحدث الله تعالى بعد ذكر المسيح عن إبراهيم أوّلاً فإسحاق ويعقوب فموسى وهارون؛ ليبين ﷻ أنه قد أنجز وعده مع إبراهيم الخاص برقي بني إسحاق، وقد انتهى تحقيقه عند المسيح. ثم بعد ذلك ذكر الله إسماعيل تنبيهًا لأتباع المسيح إلى وعد الله الخاص بإسماعيل أيضًا، إذ كيف يمكن لله الذي قد أنجز وعده مع بني إسحاق لهذه الفترة الطويلة أن لا يحقق الوعود الخاصة بإسماعيل، الذي كان عظيم الصلاح وصادق الوعد، ومرضي الأعمال عند ربه ﷻ. فكأن الله تعالى يقول كيف لا نفي بوعدنا لمن كان وفيًّا معنا لهذه الدرجة، وكيف يمكن أن تبطل وعودنا في حقه؟ فذكّرهم الله بوعده الخاص بإسماعيل حيث قال (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ).
ومن الملاحظ هنا أن الله تعالى لم يذكر هنا رسولنا الكريم ﷺ، ذلك لأنه مشمول في هذا الوعد الخاص بإسماعيل ؏.
لماذا ذكر إدريس بعد إسماعيل في الآية، وما هي الحكمة؟
ليكن معلومًا أن الفكرة التي تؤسَّس عليها ألوهية المسيح ؏ إنما هي صعوده في السماء، وصعوده في السماء أمر يتفق فيه معظم المسلمين مع النصارى للأسف الشديد، فهم الآخرون يقولون أن المسيح حي، وجالس في السماء. إن النصارى لا يستدلون على ألوهية المسيح بولادته من غير أب، بل بصعوده في السماء. فيوجد بينهم من يقولون، دون أن يروا في ذلك حرجًا، أن المسيح كان ابنًا ليوسف النجار، وحجتهم أن كون المسيح ابنًا لمريم إذا كان لا يتنافى مع ألوهيته، فكونُه ابنًا ليوسف النجار لا يقدح في ألوهيته شيئًا أيضًا. فثبت أن النصارى لا يؤسسون ألوهية المسيح على ولادته الغريبة وإنما على صعوده في السماء حيًّا. وهي فكرة لم تكن قد أُبطلت ودُحضت بعد، في حين أن الله تعالى قد رد هنا على جميع مطاعن المسيحيين الأخرى. ومن أجل ذلك قد ذكر الله تعالى هنا إدريس، لينبه أن الإنجيل كما ذكر صعود المسيح إلى السماء فقد ذكر صعود إدريس أو حنوك أيضًا إليها، بل بكلمات أروع وأقوى. إذًا فإن إدريس هو الشخص الوحيد الذي عن طريقه يتم الرد على الفكرة التي يبني عليها المسيحيون ألوهية المسيح ؏ ألا وهي صعوده في السماء حيًّا. وهذا أمر لا يسلم به الناس في حق أي من أنبياء الله السابقين، لا في حق زكريا ولا يحيى ولا إبراهيم ولا إسحاق ولا يعقوب، ولا موسى، ولا هارون، ولا إسماعيل عليهم السلام، إنما يسلمون به في حق إدريس فقط. ورواياتهم تؤكد صعوده في السماء بشكل أروع وأقوى مما صعد به المسيح في السماء. فلذلك قال الله تعالى هنا (واذكُرْ في الكتاب إدريس إنه كان صدّيقًا نبيًّا * ورفعْناه مكانًا عليًّا).. أي تزعمون أن المسيح صعد إلى السماء، وها نحن نقدم إزاء المسيح مثال إدريس الذي كان أفضل منه بهذا الشأن، فإذا كان هذا الأمر يجعل المسيح شريكًا مع الله تعالى في ألوهيته في زعمكم، فإن إدريس أحق وأولى بأن يصير شريكًا مع الله تعالى.
وفي القرآن الكريم أيضًا لم يقل الله تعالى في المسيح ؏ إلا (بل رفَعه اللهُ إليه) (النساء: 159)، بينما قال عن إدريس ؏ (ورفعناه مكانًا عليًّا). ثم إن حديث المعراج أيضًا يذكر أن النبي ﷺ قد رأى المسيح ؏ في السماء الثانية، بينما رأى إدريس ؏ في السماء الرابعة (دلائل النبوة للبيهقي، مجلد2، باب الدليل على أن النبي ﷺ عُرج به إلى السماء).. وهذا يعني أن إدريس رُفع إلى مقام أعلى من المسيح أيضًا. فكأن الله تعالى يقول: إذا كنتم تؤلهون المسيح بناء على هذه الكلمات فلم لا تؤلهون إدريس إذن؟
للمزيد عن قصص الأنبياء