هل طالب يوسف ؏ بمنصب وحكم؟

لقد ورد في التوراة أن الملك قال ليوسف: أنه سَيَهَب له كل شيء إلاّ كرسيه وتاجه، وأعطاه المركب التالي لمركبه، وأعلن في البلاد: أنه الحاكم الثاني عليها. (التكوين41: 40).

فكّر سيدنا يوسف ؏ أنه إذا صار رئيس وزراء الملك فسوف يقع في المشاكل كلّ يوم، وكذلك إذا توّلى غيرُه منصب وزارة المالية فقد يحسده هذا ويفسد الأمور الاقتصادية للبلاد عمدًا ليلقي باللائمة على يوسف ويقول: كان تعبير يوسف لرؤيا الملك باطلاً، ولذلك كلِّه أعرب يوسف للملك عن رغبته في أن يباشر بنفسه الإشراف على اقتصاد البلاد وخزينتها.

وهنا درسٌ يمكن أن نتلقنه من قول يوسف هذا، ألا وهو أنه إذا قام أحد بدراسة وتخطيط مشروع من المشاريع وكان أهلاً لتنفيذه فهو الأحق والأفضل للإشراف عليه ويجب أن يُعهدَ تنفيذُه إليه.

لقد اعترض البعض قائلاً: ليس من المستحب أن يطلب الإنسان منصبًا من المناصب، فلماذا طلب سيدنا يوسف هذا المنصب؟ والجواب أنه لم يسأل منصبًا في الواقع، وإنما تنازل عمّا استحقه لأن الملك كان يريد أن يقلّدَه منصب الوزارة العظمى، ولكنه اعتذر قائلاً: أوَدُّ أن تسمح لي بالإشراف على ما يتعلق بالمجاعة التي تهددنا.

المماثلة الرابعة عشرة: كما أن إخوة يوسف ؏ بدأوا يحسدونه على ما كان يرى من مستقبل باهر عظيم، فطردوه من البيت ليُذل ويُخزى، ولكنّ الله أكرمه إكرامًا عظيمًا، كذلك قام الأعداء بطرد النبي ﷺ من وطنه ليرى الخزيَ والهوان، ولكن الله تعالى زاده في المدينة عزًّا وشرفًا.

إلا أنَّ هناك فارقًا، وهو أن العزة التي نالها سيدنا يوسف ؏ لم تكن بطريق مباشر بل بواسطة الملك، أما النبي ﷺ فكرّمه الله تكريمًا مباشرًا، إذ آتاه حكومة مستقلة وجعله ملكًا على العرب. وهذا الفرق نفسه يوجد بين النبيين الكريمَين – عليهما السلام – مكانةً ومقامًا.

المماثلة الخامسة عشرة: فكما أن إخوة يوسف ؏ لم يصدّقوا ما ناله من عز وشرف، كذلك انبهر قوم النبي ﷺ مما حقّقه من رقي وازدهار. فعندما بَعث النبي ﷺ الرسائل إلى الملوك وصلت رسالته إلى هرقل الإمبراطور الرومي بالشام، فتحيّر من قراءتها وسأل حاشيته: من هذا الذي يخاطبني بهذه الشجاعة؟ قالوا: هذا رجل من العرب يزعم أنه نبي. فأمرهم بالتحري عن أحوال النبي ﷺ. وتزامن ذلك مع وجود أبي سفيان بالشام في ركب من تجار قريش، فأُحضر هو وأصحابه إلى مجلس الملك. وعندما عرف هرقل أن أبا سفيان زعيمهم قرّبه إليه وقال مخاطبًا أصحابه: إني سائل هذا عن ذلك الرجل، فإن كَذَبَني فكذِّبوه على الفور. ثم سأله عن النبي ﷺ عدة أسئلة هامة، ولا يزال حوارهما يمثّل آية عظيمة خالدة على صدقه ﷺ. ومما سأله: هل كان أحدٌ من آبائه ملِكًا حتى يقال: رجل يطلب مُلك أبيه؟ قال أبو سفيان: لا. قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. قال: فهل يغدر عهدًا؟ قال: لا، ولكننا في مدة (أي فترةِ هدنة وصلح) لا ندري ما هو فاعـل فيها -ويقول أبو سفيان: هذا كل ما استطعت أن أدسّه ضد النبي ﷺ في حديثي مخافة أن يكذّبني أصحابي- فقال: أأشرافُ الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال هرقل: فإن كان ما تقوله حقًا فسيملك موضعَ قدميَّ هاتين. ذلك أنه كانت في الكتب السماوية أنباء بأن خاتم النبيين ﷺ سوف يفتح بلاد الشام. فحينما قال هذا: ارتفعت الأصوات عنده وكثر الصخب.

فخرجَ أبو سفيان من عنده وقال لأصحابه متعجبًا: لقد أَمِرَ أَمرُ ابنِ أبي كبشةَ! إنه يخافه ملِكُ بني الأصفر (البخاري، الوحي). أي لم نعرف عظمة محمد  إلا الآن، فهو أعز وأكرم مما كنا نتصوره.

وأبو كبشة كان رجلاً من خزاعة خالف قريشًا في عبادة الأوثان، وبدأ في عبادة النجوم، وكانوا ينسبون النبي ﷺ إلى أبي كبشة احتقارًا وازدراءً، حيث ترك دين آبائه، وكأنهﷺ  كان ابنًا روحانيًا لأبي كبشة.

وبالاختصار لم يصحُ هؤلاء القرشيون من سباتهم إلا بعدما رأوا ما رأوه في الشام، وبدونه ما كانوا ليفطنوا -وهم في مكة- للمكانة السامية التي كان النبي ﷺ حائزًا عليها. أما هو فكان يعرف قدرهم وحقيقتهم.

تقول التوراة بأن يوسف ؏ ظن أن إخوته جواسيس وهدّدهم قائلا: “أحضِروا أخاكم الصغير إليّ فأعرف أنكم لستم جواسيس بل أنتم أمناء” (التكوين 42: 34). ولكن القرآن يخبرنا أنه عاملهم معاملةً طيبةً وشجعهم على الحضور بأخيهم في المرة القادمة.

من الممكن أن يوسف عندما وجّه إليهم أسئلة كثيرة عن أبيه وأفراد العائلة الآخرين ليطمئن عليهم، ظنّ إخوته أنه يشك فيهم ويعتبرهم جواسيس، وإلاّ فلا يليق بنبي أن يتّهمهم بالجاسوسية وقد عرف أنهم إخوته، لأن هذا نوعٌ من الكذب. فالرأي عندي أن التوراة قد نقلت الظن الناشئ في نفوس إخوته، وليس الأمر الواقع. ثم إنه من غير المعقول أن يعتبرهم يوسف جواسيس إذا لم يُحضروا أخاهم الصغير.

إن السيئة الواحدة تولِّد سيئاتٍ أُخرى. فعندما اتبع إخوة يوسف سبيل الإثم فَسُدَت أفكارهم وقبُح حديثهم. انظروا إلى جسارتهم الوقحة إذ قالوا: (سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ) (يوسف: 62)، وكأنَّ يعقوب لم يكن أبًا لهم، فعقدوا العزم على خداعه وتسفيهه حتى يرسل معهم ابنه الصغير.

تمسك يوسف ؏ بأهداب الصبر امتثالاً لأمر الله، مقاومًا الرقة الشديدة التي أخذت بمجامع قلبه برؤية إخوته بطبيعة الحال، إلاّ أن حبه الفطري دفعه ليُسدي إليهم معروفًا عند مغادرتهم، فردّ إليهم الثمن الذي دفعوه للصفقة.

وهذا لا يعني أنه ؏ خان في أموال الخزينة الملكية. كلاّ، فقد كان سيدنا يوسف يتقلد منصب الوزارة، ولا يصعب على الوزير أن يردّ إليهم مالهم ويدفع الثمن من جيبه نيابةً عنهم.

هذا الحادث يكشف لنا أمرًا هامًا هو أن إصلاح الناس إنما يتأتّى بمعاملةٍ تكون ما بين الخوف والرجاء. فإنه ؏ خوَّفهم أولاً، والآن حبّبهم إليه بهذه الهدية لكي يرجعوا إليه في كل حال.

المماثلة السادسة عشرة: لقد كان يوسف ؏ تواقًا للقاء إخوته مرة أخرى رغم كونهم أعداءً له، كذلك كان النبي ﷺ حيث خاطبه الله تعالى وقال: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 4). فعلى الرغم من عِلمه بما يكنّ له أهل مكة من عداءٍ شديد فإنه لم يُرد هلاكهم، بل كان يتمنى دائمًا وبكل شدة وقوة أن ينضموا إليه مؤمنين. سبحان الله! كان إخوته إلى ذلك الوقت مغرورين بقوتهم وأنانيتهم وما كانوا يتجهون إلى الله تعالى رغم ما ظهر لهم من ضعف أنفسهم. هكذا يصبح مَن يضعف فيه الإحساس بعظمة الدين، فإما أنه يبقى فريسة لوحش الكبرياء والغرور أو يركن إلى اليأس كليةً، ولا يسلك الطريق الوسط الذي لا كِبْر فيه ولا قنوط. كان إخوة يوسف إلى ذلك الوقت مصابين بهذا المرض، إذ يدل قولهم (مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) على يأسهم البالغ، بينما يكشف قولهم (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) عن غرورهم بقوّتهم.

هنا ينبههم سيدنا يعقوب ؏ أن يوقنوا الآن على الأقل بأن حماية الله هي الحماية الحقيقيّة، فهو الذي يطهر باطن الإنسان من الأفكار النجسة وظاهرَه من الأعمال السيئة، وهو الذي يغفر له ما تقدم من ذنبه.

كما يوضّح لهم يعقوب أنه لم يرسل يوسف معهم من قبل عن ثقةٍ بهم، ولن يبعث الآن أخاه معهم معتمدًا عليهم، وإنما أرسله بأمر من الله ومتوكلاً عليه، وإن رأيه فيهم لم يتغير شيئًا. وها هو الآن أيضًا سيرسل أخاه إيمانًا منه أن هذه هي المشيئة الإلهية وهو المستعان وعليه التكلان.

نجد هنا تشابهًا بين بنيامين والنبي ﷺ، فكما أن يعقوب ؏ أخذ من أبنائه موثقًا لحماية أخيهم بنيامين، كذلك فعل سيدنا العباس ؓ عندما جاء أهل المدينة يريدون اصطحاب النبي ﷺ إلى ديارهم، فأخذ منهم عهدًا أن يحموه بأموالهم ونفوسهم. وعندما آتوه العهد هاجر إليهم النبي الكريم ﷺ. (السيرة لابن هشام، أمر العقبة الثانية).

حين أخبر إخوة يوسف أباهم عن أحوال مصر ممّا يبعث على الخوف وقالوا إن القوم اعتبرونا جواسيس، نصحهم أبوهم أن يدخلوا مصر واحدًا واحدًا لا مجتمعين، كيلا يعتبرهم القوم أجانب ولا يشتبهوا في أمرهم. ولكنه ؏ أضاف أنني لا أملك لكم شيئًا إذا كان الله تعالى قد كتب عليكم محنة وابتلاء.

وقد يعني بقوله هذا: لا تدخلوا على يوسف إلا من أبواب متفرقة. ومعنى ذلك أن الله تعالى كان قد كشف لسيدنا يعقوب ؏ حقيقة الحال، فلجأ حضرته إلى هذه الحيلة لكي يتمكن سيدنا يوسف من مقابلة أخيه بنيامين على انفراد حتى يحكي له أحوال الأسرة في الوطن.

ونبّه بقوله (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أن ثقتي الحقيقية هي بالله لا بمكيدتي هذه ولا حيلتي. ذلك لكي يلقّن أبناءه -الذين اعتمدوا دائمًا على مكائدهم- درسًا، أن أنبياء الله يعتمدون على النصرة الإلهية فقط، مع أنهم يكونون أكثَرَ أهلِ الدنيا فِطنةً وأوفَرَهم ذكاءً. فما أحوَجَ غيرَهم لأن يتأسّوا بأسوة هؤلاء القوم الكرام.

واعلموا أن التوكل لا يعني امتناع الإنسان عن أخذ الأسباب المادية وإنما المراد منه أن يعتمد على الله تعالى رغم اتخاذ الوسائل والتدابير، موقنًا أنها لن تجدي نفعًا دون نصرته ورحمته ﷻ.

بالرغم من أن يعقوب كان على علم -بناءً على الوحي- بأن ابنه يوسف ؏ لا يزال حيًا يرزق، ولكنه لم يكن يعرف معرفة يَقينيّة أن الوزير المصري المشرف على توزيع الطعام هو يوسف نفسه، ويبدو أنه عندما سمع من أبنائه أن المصريين يظنون أنهم جواسيس لأن هذا الوزير وجّه إليهم أسئلة كثيرة.. اقترح عليهم-دفعًا لمخاوفهم- أن يدخلوا من أبواب متفرقة.

وقد قال البعض بأنّ يعقوب ؏ اقترح عليهم الدخول من أبواب متفرقة لأنه خشي أن تصيبهم عينُ الناس، إذ كانوا ذوي جمال وبهاء (ابن كثير)، لكني لا أراه رأيًا صائبًا. إذ ليس من المعقول أن يشكل انضمام ابن واحد إلى العشرة الآخرين خطرًا عليهم. لماذا لم يتخذ هذا التدبير عندما ذهب العشرة معًا؟ فالرأي عندي هو ما ذكرته من قبل بأنه أَمَرَهم باللجوء إلى هذه الحيلة إما دفعًا لمخاوفهم عن الجاسوسية، أو تمكينًا ليوسف من مقابلة بنيامين على انفراد.

وقوله (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ) معناه كنتَ تظن أن أخاك قد مات، ولكن الأمر ليس كذلك، فها أنا أخوك حي يرزق، فلا داعي للقلق والحزن الآن. وذلك باعتبار أن بنيامين كان جاهلا بالواقع، أما إذا كان سيدنا يعقوب أخبره بالواقع فالمعنى: لا تحزن على إيذائهم إياك، لأن الله تعالى سوف ينجيك الآن منهم.

قصة السقاية وصواع الملك

يمكن تفسير قوله تعالى (جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) بطريقين، الأول: أن يكون يوسف ؏ هو الذي قد وضعها في متاع أخيه عمدًا لفرط محبته له، لكي يستقي بها في سفره. والثاني: أنه وضعها خطأً، كأنْ يكون قد طَلَبَ الماء أثناء حديثه مع أخيه، فلمّا فرغ من شربه وضع الإناء في وعائه ناسيًا.

من الذي وضع؟ وماذا وضع؟ وبأية نية وضع؟ ثم كيف اتُّهموا بالسرقة؟ هذه كلها أُمور كانت ولا تزال موضع اختلاف بين المفسرين، فقال بعضهم بأن يوسف ؏ هو الذي وضع الإناء في وعاء أخيه عمدًا، ثم عاد ورمى إخوته بالسرقة (تفسير الطبري). والحق أن هذا افتراء خطير على سيدنا يوسف ؏ إذ كيف يُتوقع من يوسف الذي يبدي هذه المحبة الشديدة نحو أخيه، أن يلجأ إلى الأسلوب المشين استبقاءً لأخيه عنده لبعض الوقت، فيضع الإناء في رحله عمدًا، ثم يتهمه بالسرقة ليترك في جبينه وصمة عار للأبد. فلا شك أن هذا ظلم وبهتان ونسبته إلى يوسف كفرٌ. إذ لا يُتوقع هذا حتى من أي إنسان شريف، دعك من أن يرتكبه نبي من أنبياء الله العظام عليهم السلام.

الواقع أن هذه أفكار يهودية مصدرها التوراة التي جاءت فيها القصة على هذا المنوال، فتقبلها المفسّرون السذّج دون أي تمحيص وتدقيق.

ربما كان الصُواع ليوسف، فقالوا: (صُوَاعَ الْمَلِكِ) تملقًا ليوسف، كما يفعل المتسولون عندنا، حيث ينادون علية القوم: أيها السيد، أيها الملك؛ أو كان الموظفون يستخدمون الأواني الملكية في هذه الأعمال. فجاز لهم أن يقولوا: نقصد صواع الملك.

ويبدو أن الإناء كان ثمينًا، ولذلك قال المنادي: ولمن جاء به (حِمْلُ بَعِيرٍ)، لأن مثل هذه الجائزة لا تكون إلاّ على الأواني الذهبية والفضية.

ولا داعي لأن يقول أحد: كيف كان يستخدم يوسف أواني ذهبية أو فضية، وهو أمر منهيّ عنه. ذلك أن النهي عن استعمال الأواني الذهبية والفضية خاص بالشرع الإسلامي، ولكن اليهود لم ينهوا عنه، كما لم يكن الفراعنة يكرهون استخدامه.

الحق أن المشكلة تنحل تلقائيًا بالتدبر في القرآن الكريم نفسه، حيث يتضح من القرآن أن يوسف ؏ وضع بنفسه السقاية أي إناء شرب الماء في متاع أخيه. كما يتضح منه أيضًا أنهم فقدوا صُواعًا -أي إناء تكال به الأشياء- ثم عثروا عليه في متاع أخيه أيضًا. وما كان وضع الإناء في متاع أخيه بحادث يستحق الذكر في القرآن لو لم يكن وراءه هدف وغاية. الرأي عندي أن يوسف ؏ وضعَ السقاية في وعاء أخيه عن عمد تعبيرًا عن حبه الشديد له. ويبدو أن الصُواع أي “الإناء الملكي” أيضًا كان في يده وقتئذٍ، فوضعه في وعاء أخيه ناسيًا. وعندما فقد العمّالُ الصواع ظنوا أن أحدًا سرقه، فبدأوا يبحثون عنه في أمتعة القافلة كلها بما فيها إخوة يوسف. ولكن الذي قام بالتفتيش فتح وعاء أخيه بنيامين في آخر الأمر، نظرًا لما يبديه يوسف نحوه من حب وحفاوة، فعثروا على السقاية في متاعه. فأدرك يوسف على الفور أين وقع الخطأ. ولكنه لزم الصمت إلى حين مغادرة إخوته، موقنًا بأن كلَّ ما حدث كان من تدبير الله تعالى، وهكذا بقي أخوه بنيامين عنده.

لقد تمثل هذا الكيد الإلهي في قول إخوته في حماس ودون رويّة: (جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ) (يوسف: 76).. أي عقاب هذه الجريمة أن تحبسوا عندكم من تجدون الصُواع في رحله، ولو أنهم قالوا بدلاً من ذلك أن تأخذوا من سرقه فلربما ما استطاع يوسف استبقاء أخيه عنده، لأنه لو أبقاه عنده بعد قولهم هذا لعرّضه حتمًا لتهمة السرقة. ولكنهم قد أتاحوا بقولهم هذا ليوسف فرصة ليُبقي أخاه عنده دون تعريضه لأية تهمة…

إن قوله تعالى (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ) يؤكد أن هذا كان تدبيرًا خاصًا من الله تعالى، ومع ذلك نجد بعض المفسرين مصرّين على اتهام يوسف ؏ بالكذب والخداع. والحق أن كل هذا كان تخطيطًا إلهيًا خاصًا، حيث جعل يوسفَ يترك “الصواع” في وعاء أخيه ناسيًا، ثم جعل إخوته يقولون متحمسين دونما رويّة: (جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ)، وهكذا اضطرهم ليتركوا بنيامين وراءهم عند يوسف. وبعد ما غادر إخوته يكون سيدنا يوسف قد أخبر عماله بالحقيقة، وهكذا ظهرت براءة بنيامين أمام القوم، فبقي عند يوسف دون أن يجد إخوته فرصة للاعتراض على استبقائه عنده.

وأما قوله تعالى: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) (يوسف: 77) فاعلم أن (فِي) هنا سببية، ونظيره الحديث الشريف الذى يقول: “دخلت امرأة النارَ في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعْها تأكل من خشاش الأرض” .(البخارى، بدء الخلق).. أي دخلت هذه المرأة النار بسبب قطة، فمعنى الآية ما كان يوسف ليأخذ منهم أخاه بموجب القانون الملكي، ولكن الله تعالى مكّنه من ذلك دون أن يخالف يوسف قانون الملك.

هنا درس وهو أن الإنسان إذا عاش في بلد ما فعليه أن يطيع قوانين ملِكه أو حاكمه. فكان يوسف عليه السلام نبيًا، ولكنه عاش مطيعا قوانين فرعون، بل هناك أكثر من ذلك إذ يقول الله تعالى: إنه ما كان يليق بيوسف أن يأخذ أخاه منهم بالقوة مخالفا بذلك قانون البلد. مما يعنى أن عيش النبي مطيعا لقانون حكومة أو ملِك لا يتنافى مع مكانته الروحانية، وإنما العكس هو الصحيح.

ولكن للأسف أن المسلمين عامة مصابون في هذه الأيام بتفكير مريض حيث يعتقدون أن طاعة ملك أو حاكم غير مسلم حرامٌ. والحقيقة أن نزعة الغدر هذه والتفكير الخائن كهذا قد ألحقت بالمسلمين أضرارا فادحة وقضت على عنصر الأمانة فيهم. لا شك أن من حق المسلمين أن يسعوا للتقدم والازدهار، ولكن لا بخداع وغدر بل بصدق وأمانة. حينما يقيم أحد في بلد ما فإنه بعمله هذا يعاهد على العيش مطيعا لحاكمه، ومن فكّر بعد ذلك في الغدر بالحاكم فقد انحرف بعيدا عن جادة الحق والعدل، وسوف يدمر هذا التفكير أخلاقه وأعماله، لأنه يعرف في قرارة نفسه أنه منافق. وأرى أن الجبن السائد لدى مسلمي اليوم ناشئ إلى حد كبير من هذا النزعة الفاسدة.

إن الجريمة تشجع حتمًا على المزيد من الجرائم. لقد همَّ إخوة يوسف في البداية بقتله قتلاً ماديًا، أما الآن فيريدون قتله أخلاقيًا. فانظروا كيف يقولون بكل جسارة: إن سرق بنيامين فلا غرابةَ في ذلك فقد سبق أن ارتكب أخوه يوسف نفس الجريمة. ويتضح من قولهم هذا أنهم لم يكونوا قد تابوا توبة صادقة إلى ذلك الحين.

إنه لمما يثير الحيرة والدهشة أن المفسرين شرعوا يبحثون عن سرقةٍ ليوسف مصدقين قول إخوته هذا، بدلاً من رفضه وتكذيبه، حتى كتب بعضهم أنه ؏ كان يسرق الأشياء من بيت عمته (الدُر المنثور). سبحانك اللهم، إنْ هذا إلا بهتان عظيم! يصعب على المرء تقدير الآلام والمعاناة التي عالجها سيدنا يوسف من قولهم هذا، ولكنه -رغم قدرته عليهم- لزم الصمت، كاظمًا غيظه ومتأسفًا على حالهم.

ما أعظم شأنه وأرفع مكانته. فكم من امرئ يصرعه الغضب مع أنه لا يملك قدرة ولا غلبة على غيره، ولكننا نجد سيدنا يوسف ؏ رغم مقدرته على عقاب إخوته صبَرَ على ما وجّهوه إليه من تهمة منكرة. هذه هي الأخلاق التي يصل المؤمن المتحلّي بها إلى الدرجات العلى.

يا لقسوة قلوبهم المتحجرة! لقد اتهموا أخاهم من قبل بالسرقة، والآن يحتقرون أخاهم الآخر حيث ينفون صلتهم به، وكأنه ليس أخاهم، ولم يحاولوا أن يتوسلوا له عند العزيز قائلين: أيها العزيز، اغفرْ لأخينا هذا فإن لنا أبًا شيخًا كبيرًا، بل قالوا (إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا) (يوسف: 79)، وكأنهم بسبب حماسهم وحميتهم رأوا من العار أن ينتسبوا إلى يعقوب الذي أنجب السارقين كيوسف وبنيامين!

هؤلاء الذين اتهموا يوسف بالسرقة اعترفوا صراحة بجريمتهم المشتركة ضد يوسف على انفراد. سبحان الله، ما أعظم قدرته. فإنه كتب ليوسف رفعةً فاقت تصوراتهم، ففشلوا في معرفته، إذ لو عرفوه لما تجاسروا على هذا الاتهام.

أما (كَبِيرُهُمْ) الذي ذكّرهم بجرائمهم فيبدو أنه كان في قلبه شيء من خشية الله تعالى، إذ يخوّفهم من الغدر بأبيهم، كما يعبّر عن عزيمته على الوفاء بالعهد الذي قطعه مع أبيه حيث قال: (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي). ربمّا قصد بقوله (يَحْكُمَ اللَّهُ لِي) أن يطلق سراح بنيامين بتدبير من الغيب فيرجع به إلى الوطن.

انظروا كيف أن الصدق يشحن صاحبه قوة ويغير نبرة حديثه تمامًا. فإنهم عندما جاءوا أباهم بحديث كذبٍ عن موت يوسف كانوا مترددين في التأكيد على قولهم، أما الآن فكيف يقصون على أبيهم خبر بنيامين بكل ثقة وشجاعة ليؤكدوا له صدقهم حتى إنهم يقدّمون شهادة الآخرين…

لقد أجابهم يعقوب ؏ أن أهواءكم النفسانية قد زينت لكم السيئة. ولم يرد بقوله هذا تكذيبهم في ادعائهم بأن بنيامين قد حُبس، بل يعني أن عداءَكم لبنيامين دفعكم لتصدّقوا ما اتُّهم به من السرقة، كان من واجبكم أن لا تسيئوا به الظن، وتقولوا: إنه لم يسرق شيئًا بل كل ما جرى له كان سببه سوء الفهم.

كيف ابيضت عينا يعقوب ؏؟

لقد اختلف المفسرون كثيرًا في تفسير قوله تعالى (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ) (يوسف: 85)، حتى قال البعض بأن يعقوب ؏ أُصيب بالعمى، إذ غطى البياض عينيه. ثم اختلفوا في سبب بياضهما، فأرجعه بعضهم إلى البكاء طول أربعين بل واحد وثمانين سنة. بينما أرجعه الآخرون إلى تفاقم صدمته بفراق ابنه الثاني (فتح البيان).

والواقع أن كلمة (ابْيَضَّتْ) لا يُعبَّر بها أبدًا عن عمى العينين، وإنما الحق أنهم حمّلوا الكلمة ما لا تحتمله أبدًا. وحجتهم أنه ورد في القواميس معنى مجازيّ للبياض أيضًا حيث يقولون: بيّض السقاية: أفرغه، ومطاوعه ابيضَّ، فالمعنى عندهم أن عينيه جرتا بالدموع الغزيرة حتى فرغتا من البصارة.

ولكننا نقول: ما دامت كلمة (ابْيَضَّتْ) لا تعني العمى، فلماذا لا نأخذ بالمعنى المجازي الآخر وهو قولهم “بيّض السقاء” ملأه بالماء أو اللبن، خاصة وأنهم يطلقون عليهما أي على الماء واللبن كلمة “الأبيضان”، فالمراد من (ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ) نظرًا إلى هذا المعنى: امتلأت عيناه من الماء أي الدمع. أو نأخذها بمعنى مجازيّ سامٍ آخر للبياض ألا وهو البريق واللمعان. والمراد أنه برقت عيناه من الغم، وحصول البريق فيهما عند الغم أمر طبيعي شريطةَ أن لا تطول فترة الهم. والأدباء يعبّرون عن هذا المعنى باستخدام كلمات كهذه، حيث يقولون لاحت في عينيه بارقة أمل. فالمعنى أن عينيه لمعتا عندما حلت به الفاجعة الجديدة، أو عندما أحسّ بأن الهم قد بلغ منتهاه وأن الفرج موشك وأن رحمة الله قريبة.

الحق أن كلمة (ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ) تعبير عن شدة الغم والحزن. فمن فسّرها بما يخالف هذا المعنى الصريح فقد أبعد النجعة، الأمر الذي لا حاجة له بالقرآن الكريم. خاصة وأن الله تعالى يقول بعد ذلك مباشرة (فَهُوَ كَظِيمٌ) (يوسف: 85) أي أن يعقوب ؏ نجح في ضبط نفسه ولم يستطع الهم أن يصرعه. فكيف نسلم إذن بأن حضرته ضيّع بصره من شدة البكاء. وكيف يكون كظيمًا من يضيع عينيه بالبكاء هكذا. فالواقع أننا ولو سلّمنا جدلاً أن كلمة (ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ) تعني لغةً فقدان البصر من شدة البكاء فلا ينسجم هذا المعنى هنا لوجود كلمة (كَظِيمٌ).

وبالإضافة إلى ذلك، فقد نقل القرآن قول يعقوب (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ).. أي سوف أضرب في الصبر مثالاً جميلاً يحتذى به. فلو كان قد أضاع بصره بالبكاء فكيف جاز له الادعاء بالصبر الجميل؟

ومن المحال أن يحزن أحد من أنبياء الله الكرام على مكروه حزنًا يُشرف به على الهلاك. وإذا كان يعقوب يبكي هكذا بكاءً مستمرًا على الدوام فكيف أدى واجب تبليغ الرسالة. فيجب ألاّ نأخذ حتى من المعاني المجازية للكلمة إلاّ ما يتفق مع المكانة الرفيعة التي كان يحتلها سيدنا يعقوب ؏، ونرفض ما من شأنه أن يحطّ حتى من درجة المؤمن العادي.

أليس عجبًا أن نجد هؤلاء يخوّفون أباهم من هذه الأخطار المتوقعة، ونجد المفسرين يقولون بأن يعقوب ؏ كان قد أُصيب بالعمى فعلاً لشدة البكاء وصار كالساقط الرديء من المتاع. والحق أن أنبياء الله الكرام يتمسكون بأهداب الصبر دائمًا، ولا يبدون الفزع والقلق بهذا الشكل. لقد جربنا ذلك بأنفسنا، إذ رأينا بأم أعيننا نبيًا من أنبياء الله عليهم السلام وشاهدنا بأنفسنا حالته في مثل هذه المواقف. (* يشير هنا حضرة المفسر إلى سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ؏)

وهذا يعني أن سيدنا يعقوب ؏ كان يعلم -بناءً على الوحي الإلهي- أن يوسف ؏ لا يزال حيًّا يرزق، وأنه في مصر، إذ من المحال أن يأمر أبناءه بالعودة إلى مصر باحثين عن ابن كان يظنه ميتًا بيد ذئب أو بأي طريق آخر.

إن روعة ما أشار به يوسف إلى الأحداث الماضية، وتأكيدَ يعقوب على أبنائه من قبل للبحث عن إخوتهم في مصر، كل ذلك حدا بهؤلاء أن يستنتجوا على الفور بأن هذا هو يوسف. أُنظروا سمو أخلاقه ؏، فإنه لا يدَعهم يعانون أكثر من ذلك، بل يخرجهم من الشبهات والوساوس بكشف الحقيقة عليهم فورًا. ثم ينصحهم بكل حب ولطف أن يتمسّكوا بالصبر والتقوى، ويخبرهم أن مدّ اليدِ بالسؤال إلى الآخرين ليس هو الطريق السليم للتغلب على المشاكل، وإنما سبيله تقوى الله والصبر.. أي أن يتخذ الإنسان اللهَ سترًا، ويستمر في الكفاح دون اكتراث بالشدائد. يبدو من أسلوب الآية أن سيدنا يوسف ؏ أحضر أخاه بنيامين عندئذٍ ولذلك قال مخاطبًا إخوته: “أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي“. لقد تنبّهت الآن فطرتهم السليمة من غفوتها، فاعترفوا بصحة رؤياه في الصغر قائلين: لقد تحققت رؤياك أخيرًا حيث فضّلك الله علينا رغم معارضتنا إياك، وكنا نحن المخطئين فيما فعلنا.

الخلاصة والعبر من قصة يوسف عليه السلام

لقد قدّم يوسف نموذجًا مثاليًا للأخلاق الفاضلة، إذ لم يلبث أن أعلن العفو عنهم. كان إخوته في بلد غريب حيث لا ناصر لهم ولا معين، وكم من وساوس ومخاوف كانت تساورهم في تلك اللحظات، ولكنه نجّاهم دون تردد من معاناتهم الذهنيّة التي لا تقل وطأةً وإيلامًا من التعذيب البدني. فلم يغفر لهم فحسب، بل أمّلهم أيضًا في مغفرة الله تعالى. إن هذا العمل الوحيد من يوسف ؏ يبلغ من العظمة والروعة بحيث أنه يستحق به أن يُكتب اسمه بأحرف من نور ويُذكر دائمًا بالخير.

لقد ذُكر هذا الحادث في القرآن والتوراة أيضًا، ولكن يتضح من دراسة المصدرين أن التوراة قصّته لتبيّن فقط كيف وصل أولاد إبراهيم ؏ إلى مصر، بينما تناول القرآن الكريم هذا الحادث لكي يبرز ما فيه من محاسن ودروس أخلاقية، ولا سيّما ليبين أن أهل الله تعالى لا يخافون المحن والمصائب لأنها تزيد أخلاقهم جلاءً وجمالاً، وأن العدوان عليهم لا يولّد في قلوبهم جحيمًا من البغض والانتقام، بل يحوّلها إلى جنةٍ أشجارها العفو وثمارها السكينة.

المماثلة السابعة عشرة: وكما أن سيدنا يوسف ؏ ازداد بعد الهجرة عزًّا وشرفًا، كذلك حقق الله ﷻ للنبي ﷺ الرقي والازدهار بعد هجرته إلى المدينة، حتى إن نفس البلد الذي خرج منه مهاجرًا تحت ستار الليل وقع في يديه بعد أن دخله منتصرًا في وَضَحِ النهار، ومعه عشرة آلاف قُدُّوسي من صحابته الأطهار ؓ… يا لروعة المشهد المثير! يُعرَض عليه ﷺ أعداؤه الذين صبّوا عليه وعلى أصحابه من المظالم والمصائب ما تنخلع من هوله القلوب، وذلك لعشرين سنة متتالية. من ذا الذي يغفر بهذه السهولة لمثل هؤلاء الأعداء؟ ولكن النبي ﷺ غفر لهم جميعًا دون تردد كلَّ ما فعلوه من قبل.

لقد قال بعض المفسرين بأن قول يوسف هذا يمثّل لومه على إخوته. ولكني أرى أنه قد عبّر بذلك عن عفوه البالغ، إذ يخبرهم أنكم عندما ذهبتم إلى الوالد بقميصي أول مرة أثرتم سخطه، فخذوا الآن قميصي هذا لتبشّروه وتسرّوه، ولكي يدعوَ لكم ربه طالبًا لكم المغفرة والرحمة. فقد أعلن يوسف عن عفوه عنهم من قبل بقوله: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ)، أما الآن فإنه يرسل قميصه  إلى أبيه متوسلاً إليه أن يعفو ويدعو لإخوته.

أما قوله (يَأْتِ بَصِيرًا) فهو كقولهم: “رجل بصير بكذا أي عالم بحقيقته وخبير بكنهه”، فالمعنى أن إيمان الوالد بحياتي مبنيٌّ فقط على ما أخبره الله بالوحي، فاذهبوا إليه بقميصي هذا ليتحول إيمانه إلى علم اليقين بواقع الأمر.

والآن يتقدم يوسف خطوة أُخرى في الإحسان لإخوته، فيبشرهم بحسن معاملته لهم، ويدعوهم أن يأتوا بأهلهم أجمعين ليتمتعوا معًا بما وهب الله له من نعم وبركات. المراد من ريح يوسف هنا “خَبَرُه”. فعندما يأمل المرء في تحقق أمر من الأمور في المستقبل القريب يقول: إنني أجد ريحه، وهذا ما يعنيه سيدنا يعقوب ؏. وبهذا المعنى قال سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ؏ في بيت شعر له ما تعريبه: إنني لأجد الآن ريح يوسف، وإنني أنتظره وإن فنّدتموني (الخزائن الروحانية ج21، البراهين الأحمدية، ج5، ص131).

بعد أن أُلقي القميص عليه قال: (أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ)، وهذا يوضّح  أن ما حدث لم يكن معجزة ليوسف وإنما ليعقوب، وإلاّ لو كانت عيونه قد شُفيت بإلقاء قميصه عليه -كما يزعم بعض المفسرين- لقال: انظروا إلى المعجزة العظيمة لابني حيث شفى قميصه عيوني، ولكنه يقول: انظروا، لقد تحقق قولي بأن يوسف حيّ. فإنما المراد من الجملة -كما قلت من قبل- أنهم عندما وضعوا قميصه أمام يعقوب تحول علمه المبني على الوحي إلى علم يقينيّ واقعي. وكما هي سنّة الأنبياء عليهم السلام فإن يعقوب لم يملِك نفسه من فرط السرور والفرحة، فأخذ في حمد الله تعالى وتسبيحه بأن وحيه قد تحقق.

اعلم أن أم يوسف ؏ كانت قد توفيت عندئذٍ (التكوين35: 19)، ومع ذلك نجد أن كلمة (أَبَوَيْهِ) قد تكررت هنا كثيرًا. لماذا؟ ذلك ليشير إلى ما كان يبدي سيدنا يوسف من احترام وتبجيل عظيمين تجاه امرأة أبيه عليهما السلام. إن في ذلك لدرسًا عظيمًا للأولاد، هو أن زوجات آبائهم أيضًا بمثابة أمهاتهم، وأن الإسلام لا يفرّق بينهن فيما يتعلق بالاحترام وحسن المعاملة. فعليهم أن يكنّوا لهن على الدوام احترامًا وتقديرًا كما يفعلون مع أمهاتهم الحقيقيات.

أنظروا كم كان يوسف رفيع القدر في الروحانية. فنحن نجد إخوته الكبار لا يستثنون ولا يقولون (إِن شَاءَ اللَّهُ) عند القيام بأي مهمة من المهام، وإنما كانوا يعزون كل عمل إلى أنفسهم، وعلى النقيض نجد يوسف الذي كان بمثابة رئيس الوزراء وعنده المراكب الجاهزة يقول (ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) .. أي لا شك أن الأسباب متاحة ميسرة إلا أنه من الممكن تمامًا أن لا نستطيع دخول البلد إذا لم تكن هذه هي مشيئة الله تعالى.

الحق أن ترديد كلمة (إِن شَاءَ اللَّهُ) بصدقٍ ويقينٍ قبل القيام بأي عمل يلعب دورًا كبيرًا في رقي الإنسان روحانيًا. ذلك أن الماضي من حياته يكون قد فاته وانفلت من يده، وأما الحال فهو قصير الأمد بحيث أنه بمثابة الحد الفاصل بين ماضيه ومستقبله، إذن فالمستقبل وحده هو الفترة الحقيقية التي يمكن أن يستغلها. فإذا قال الإنسان (إِن شَاءَ اللَّهُ) بصدقٍ عندما ينوي القيام بعمل مستقبلاً فكأنه جعل الله تعالى يشاركه فيما يتوجه إليه من عمل، وبالتالي يحميه الله من تأثير الشيطان وشروره. ومن يفعل ذلك بصدق ووعي فسوف يسعى لتحقيق مطلبه بكل ورع وتقوى. كما أن التعوُّد على قول (إِن شَاءَ اللَّهُ) يساعد الإنسان على ذكر الله والتوكل عليه. وإن هذه هي الأمور التي تُعتبر لبَّ الروحانية وخلاصتها.

المماثلة الثامنة عشرة: فكما أن يوسف ؏ دعا ربه قبل أن يدخل بهم البلدة، كذلك كان من سنة النبي ﷺ عند دخوله بلدًا ما أن يدعوَ بهذه الكلمات:

اللهم ربَّ السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خيرَ هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرِّ هذه القرية وشرّ أهلها وشر ما فيها. اللهم بارِكْ لنا فيها وارزقنا جناها، وأعِذْنا من وباها، وحبِّبنا إلى أهلها، وحبِّب صالحي أهلها إلينا.

وقوله: (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا). فاعلم أن كل المشتقات من (خرور) تتضمن معنى الصوت، ولذلك قال بعض المفسرين: يقال: خرّ ساجدًا عمّن يقع ساجدًا على الأرض وهو يكثر من ترديد كلمة (سبحان الله، سبحان الله). ولا  يقال ذلك إذا قام بمجرد السجود (المفردات). فالمراد من قوله تعالى (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) أنهم اندفعوا ساجدين على الأرض قائلين (سبحان الله، سبحان الله)، أو أنهم وقعوا ساجدين على الأرض بكل حماس بحيث سُمع لسجودهم صوت.

ولكن هذا لا يعني أنهم سجدوا  للملِك أو ليوسف، كما زعم البعض، بل المراد أنهم سجدوا لله تعالى شاكرين على ما حقق ليوسف من رقي وشرف. فكان يوسف سببًا لسجودهم ولم يكن مسجودًا له. إنّنا إذا أمعنّا النظر فيما حدث تَبَيَّن أن هذه الشدائد نفسها مهدّت الطريق لرقيه، كما تسببت في توبة إخوته وطهارتهم. فلم يكن ما فعله الله بيوسف خاليًا من الحكمة أبدًا. لو أن يوسف ؏ نال العز دون هذه المصائب ما تجلّت عظمة الوعد الإلهي بهذا الشكل، كما لم يتم تطهير قلوب إخوته. فكل ما حدث كان وراءه حكمة عظيمة.

هذا هو السجود الحقيقي الذي يحقق لصاحبه الرقي في الروحانية. إن السجود الظاهري سجود مؤقت عابر. وإنما السجود الحقيقي هو أن يركّز الإنسان أنظاره إلى الله دائمًا، سواء في الفرحة أو الترحة، ويصبو إليه قلبه لاهفًا هائمًا. أما بدون هذا فلن يحقق الإنسان أي رقي في الروحانية، ولن يدخل الجنة الدنيوية التي إذا لم يدخلها هنا فسوف يستحيل عليه الدخول في الجنة الأخروية.

لقد بيّن الله هنا أننا لا نسرد قصة يوسف كحكاية مسلية، وإنما تحتوي على أنباء غيبية.. أي أنها أخبار عمّا سيحدث بالنبي ﷺ في حياته المقبلة. ولقد أثبتُّ  من قبل في تفسير العديد من الآيات كيف أنه وقعت في حياة النبي أحداثٌ مشابهة لما حدث بيوسف في حياة النبي عليهما السلام.

وأما قوله (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (يوسف: 103) فالحديث هنا ليس عن إخوة يوسف بل عن إخوة النبي الكريم، إذ الخطاب موجه هنا إليه ﷺ، والمراد: ما كنتَ، يا محمد، لتطلع على ما ينسجه إخوتك أي أهل مكة من مكائد ومؤامرات ضدك ليحقق الله بها المماثلة بينهم وبين إخوة يوسف، فلا شك أنها أخبار جاءتك من الله الذي هو عالم الغيب، وليست وليدة أفكار الإنسان. أي لا شك أنك تسعى جاهدًا لأن يؤمن بك قومك بسرعة، ولكن ليست هذه هي المشيئة الإلهية، وإنما يريد الله أولاً أن يسلكوا المسلك الذي سلكه إخوة يوسف فلا يؤمنوا بك إلا بعد أن تحقق رقيًا غير عادي فيأتوك صاغرين. لقد أخطأ إخوة يوسف حين ظنّوا أنَّ العزّ الذي وُعد به في رؤياه سيؤدي إلى ذلّهم، مع أن رقيه كان سببًا في رقيهم أيضًا، وهذا ما فعله العرب بالنبي ﷺ، وإلى ذلك يشير الله تعالى هنا إذ يقول لنبيه: إن قومك ساخطون مما وعدناك به من عز ورقي، ظانين أن هذا سيؤدي إلى هوانهم، رغم أنك لا تطالبهم بشيء لتحقيق رقيك حتى يظنوا أنك تريد السلطة على حساب ضعفهم وهوانهم. بل العكس، فإنك تقدّم لهم ما يضمن لهم الرقي والشرف لهم وللعالم أجمع. فلا مبرر إذن لأن يسخطوا عليك ويغضبوا.

المماثلة التاسعة عشرة: وهنا أيضًا نجد تشابهًا كبيرًا بين سيدنا يوسف والنبي الكريم – عليهما السلام. لقد أعز يوسف إخوته ولكن عن طريق الملك، وأما الرسول ﷺ فقد آتى إخوته مُلكًا عظيمًا مستقلاً، حيث أن اثنين من أحمائه أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- صارا بمثابة ملِكين لدولةٍ عظيمة. فتبارك الله أحسن الخالقين.

للانتقال في مواضيع قصة سيدنا يوسف عليه السلام