(كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) (الشعراء: 124-130)
إن سيدنا هود ؏ عبّر عن غنى نفسه وبُعده عن اتّباع الشهوات، وعن تواضعه واحتياجه إلى فضل الله جلّ شأنه. وهذا هو المقام الذي يتبوأه أهل الله تعالى. فإنهم يستغنون عن الدنيا استغناء كاملاً، ومن ناحية أُخرى يخرّون على عتبة الله متواضعين خاشعين بحيث لا أحد يبدو أكثر منهم فقرًا وضعفًا. وقد نصح قومه بالتوبة إلى الله عز وجل وتصديقه، فإن صدّقت هذه الأمة نبيها لا تنهض نهوضًا روحانيًا فقط، بل إنها تحقق رقيًا ماديًا أيضًا وتنال حياة جديدة. ورغم إتيانهم عملاً شنيعًا كالشرك الذي لا يستند إلى دليل ولا برهان – يطالبون سيدنا هودًا بأن يأتي بالبرهان على دعواه، مع أنهم هم كانوا أصحاب الدعوى وليس هو، وما أشد إهانتهم واحتقارهم لرسولهم إذ يقولون له (وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ) (هود: 54). إنها كلمة صغيرة، ولكنها مليئة جدًا بمرارة الازدراء والاستخفاف، حيث يقولون: من أنت وما قيمتك حتى نترك آلهتنا من أجلك؟ وبما أنك لا تؤمن بآلهتنا فإنها قد انتقمت منك وأفسدت عقلك. فرد عليهم سيدنا هود وقال: إن كنتم تزعمون أن أحدًا من آلهتكم سخط عليّ لإساءتي إليهم وصبّ عليّ غضبه بإفساد عقلي، فها إني أقولها علنًا بأنني أعادي آلهتكم جميعًا، وأكرههم كراهة شديدة، وأتبرأ منها تمامًا، فإن كانوا يملكون في الحقيقة شيئًا مما تعزونه إليهم من قدرات وصفات فلينتقموا مني وليفعلوا بي ما يشاءون. وبما أنكم لم تنتفعوا مما قدمت لكم من براهين عقلية، فالآن أقدم لكم شهادة عملية من الله على صدقي، متضرعًا إليه عزّ وجل أن يُنزل الآن آياته التي تفصل بين الحق والباطل. وإن كل واحد منكم خاضع لسلطان الله وغلبته، وتعيشون بمحض رحمته وعفوه، وإلا ما كنتم تستحقون العيش بالنظر إلى أعمالكم. وبما أن الله ربي وربكم أيضًا، فكيف أخافكم ما دمتم عبيدًا لسيدي، لأن من يتخذه السيد صديقًا له لا يستطيع عبيده أن يضرّوه بشيء. وإن من يسير على الطريق السوي هو الذي يصل إلى ربه، بينما يتخبط المشرك هنا وهناك، فأنَّى له الوصال بالله تعالى. إنكم تريدون إبادتي، ولكن ربي قادم لنجدتي على صراط مستقيم، أي على أقرب طريق، حيث إن الطريق المستقيم يكون أقرب الطرق وأسرعها. وقد أبلغتكم رسالة ربي التي لصالحكم أنتم، فإذا رفضتموها، فسوف تؤمن بها أمة أُخرى لا محالة، وتنتفع بها وتحقق الازدهار والغلبة، ولن تضيع رسالة الله في أي حال، لأنه إذا أراد شيئًا نفّذه وحفظه. كما أنه لن يدع أعمالكم دون حساب ومؤاخذة، بل هي محفوظة لديه، ولا جرم أنه سوف يحاسبكم عليها. وهكذا عندما حلّ العذاب إقامة للحجة على المسرفين، ثارت رحمة الله بالمؤمنين بشكل غير عادي، ونجاهم من العذاب رغم عيشهم بين الكفار في بلد واحد. أي نجاهم بفضل خاص وفق سنته تعالى الخاصة، لا بحسب سنتنا العامة. وهكذا كان العذاب المؤلم الشديد للغاية والذي لا يستطيع أحد الفرار منه.
فهذه أحوال عادٍ الأمة العظيمة القوية، الذين استكبروا ومالوا إلى الشر وكفروا بالحق تعنتًا وعنادًا، ولم ينتصحوا لمن أتاهم برسالة خير وصلاح لهم، وإنما اتبعوا أصحاب النفوذ والمنعة من بينهم ممن كانوا يلجأون إلى الإكراه والعنف مثيرين الفتنة والفساد في البلاد مدّعين -مع ذلك- بأنهم حملة لواء الحرية في الرأي والعقيدة. وبما أنهم كانوا على ذلك الحال بعيدين عن الله وهم في الدنيا، وهكذا سيكونون يوم القيامة أيضًا إذ سيُحرمون من رؤية الله وقربه جلّ شأنه. فانظروا ما أقبح ما فعلته عاد، حيث رفضوا قول من ربّاهم وخلقهم، مع أن الشريف يطيع من يحسن إليه. ولكن المؤسف أن هؤلاء القوم قد عقُّوا مَن أخذهم إلى هذه الدرجة السامية، وهكذا فإنهم لم ينكروا الجميل فحسب بل ارتكبوا حماقة كبرى، لأن الذي كان قد رفعهم لقادر تمامًا على أن يضعهم ويحطهم إلى أسفل سافلين. وهذا ما حدث بهم بالضبط، فهلكوا وبادوا عقابًا على معارضتهم لنبيهم هود.
كان قوم عاد الذين بُعث إليهم هود ؏ مولعين بفن البناء والعمارة ولعًا خاصا، لأن أساس حضارتهم كان قائمًا على علم الهندسة والكيمياء والفلك. كان مؤسسو هذه الحضارة يرون أن الله تعالى جعل في العالم المادي الشمسَ والقمر والنجوم، فلا بد من تقليد هذا النظام للرقي، فعلى الناس أن يفكروا في النظام الشمسي ويطّلعوا على أسراره وغوامضه، ويعملوا بحسبه. كما أن الحضارة الآرية والرومانية والفارسية قد تركت تأثيرًا عميقًا على العالم المتمدن، وأقامت نظامًا جديدًا مكان النظم القديمة، كذلك قد تركت هذه الحركة البابلية التي كان مؤسسوها من قوم عاد أثرًا عميقًا على ثقافة العالم وحضارته. ومع أن مؤسّسي الحضارة البابلية فقدوا السيطرة السياسية على المنطقة بعد فترة من الزمن، وحلّت محلّها شعوب أخرى، إلا أن الشعوب الغالبة عليها لم تتمكن من التحرر من الفلسفة البابلية. وبما أن هذه الحضارة موغلة في القدم فلا نجد من آثارها اليوم إلا قليلاً، بيد أن ما اكتُشف من آثارها يؤكد صدق القرآن وعظمته.
لقد وضع أساسَ هذه الحضارة البابلية قومُ عاد، وقد نالوا من الغلبة والمنعة في زمنهم ما لم يتمتع به أي قوم من الأقوام العربية. وكان مِن حملة لواء الحضارة البابلية شعبانِ: عادٌ الأولى، وهم الذين أسسوها، وقومُ ثمود الذين كانوا فرعًا من عاد وخلفوهم. وتتحدث هذه الآيات القرآنية عن عاد الأولى، حيث أخبر الله تعالى أن هودًا خاطب قومه عادًا الذين كانوا أقوى قوة في عصرهم وقال: تبنون على كل جبلٍ عمارات فخمة ومصانع كبيرة ومعامل كيميائية ضخمة، ظانين أنكم ستخلدون بها إلى الأبد؛ شأنهم شأن أوروبا وروسيا اليوم الذين يظنون أن حضارتهم ستبقى للأبد.
ثم يقول الله تعالى: (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)، أي لقد بلغتم من القوة والمنعة أنكم حين تتغلبون على بلد تدمرون حضارته تدميرًا، وتقومون بترويج حضارتكم ومدنيتكم مكانها، ذلك أن الجبار هو من يجعل نفسه رفيعًا وغيره وضيعًا.
ومن الممكن أيضًا أن نستنبط من هذه الجملة أنهم اخترعوا في زمنهم آلات حربية مدمرة. وقد استنتج بعض المؤرخين برؤية المباني التي بنوها في الجبال أنهم كانوا قد تمكنوا من اختراع البارود والمتفجرات في ذلك العصر. وعليه فالمراد من هذه الجملة أنكم تخترعون آلات حربية مدمرة تبيدون بها الأقوام الأخرى، وتروّجون في بلادهم حضارتكم ومدنيتكم.
مجمل القول إن الحضارة البابلية قد ركزت على بناء العمارات واختراع آلات الحرب وإقامة المراصد بوجه خاص. وإن ما ورد في التوراة عن الدولة البابلية يصدّق بيان القرآن الكريم حيث جاء فيها:
“وقالوا: هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا اسْمًا لِئَلاَّ نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، وَقَالَ الرَّبُّ: هُوَذَا شَعْبٌ وَاحِدٌ وَلِسَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهِمْ، وَهذَا ابْتِدَاؤُهُمْ بِالْعَمَلِ. وَالآنَ لاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا يَنْوُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ. هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ (سِفْرُ التَّكْوِينِ 11 : 6-7).”
هذه الفقرة تؤكد أن قوم عاد كانوا بارعين في بناء العمارات العالية بحسب التاريخ اليهودي، إذ قيل إن اختلاف ألسنة الناس راجع إلى كون أهل بابل بدأوا في بناء عمارة عالية لتكون علامة لهم، وكيلا يتشتتوا ولا يتفرقوا، ولكن الله تعالى أراد تشتيتهم، فجعل اختلافًا في ألسنتهم، فزالت وحدتهم وذهبت ريحهم، ولم يستطيعوا رفع هذا البناء.
إن ما ذكرته التوراة هنا من سبب وراء اختلاف ألسنة الناس في العالم إنما هو قصة فارغة فحسب، بيد أن هذه الفقرة تشكّل شهادة تاريخية على أن أهل بابل كانت لهم يد طولى في بناء المباني الشاهقة، فكانوا يبنون عمارات عالية يخيل للرائي إليها أنها تحتكّ بالسماء. وبالفعل نجد في الجزيرة العربية حتى اليوم مباني قديمة عالية وضخمة. وقد رأيت بأم عيني في اليمن -عندما توقفت هناك خلال سفري إلى أوروبا- مباني عالية جدًا مبنية على تلال عالية على بعد عدة أميال من مدينة عدن، وكان بها حياض ويقول الناس إنها مما بناه قوم عاد.
لم يزل الأوروبيون ينكرون وجود قوم عاد أصلاً، زاعمين أنه لم يوجد في التاريخ قوم بهذا الاسم، ولكنهم عثروا على آثار قوم عاد قبل نحو نصف قرن من الزمان، فأخذوا يعترفون بوجودهم. بل لقد قال المؤرخ المسيحي الشهير “جرجي زيدان” في كتابه “العرب قبل الإسلام”: لم تقدر مئات الصفحات من كتب المؤرخين أن تُمِدّ الناس بالمعلومات التي قدّمها القرآن الكريم عن قوم عاد في كلمات وجيزة.
يخبرنا القرآن الكريم أن عادًا خلوا بعد قوم نوح ؏ مباشرة حيث قال الله تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) (الأعراف:70)، ولذلك قد تحدّث القرآن الكريم في هذه السورة أوّلاً عن موسى ؏ الذي كانت نبوءاته تنبئ عن بعثة محمد رسول الله ﷺ. ثم تحدَّثَ عن إبراهيم ؏ الذي بدأت منه السلسلة الموسوية. ثم تحدث عن نوح لأن إبراهيم كان تابعًا لشريعة نوح، حيث قال الله تعالى: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ) (الصافات:84)، ولذلك ذكر الله بعد إبراهيم مؤسسَ شريعته. ثم بعد نوح ؏ ذكر الله تعالى هودًا الذي بُعث إلى قوم عاد، لأن عادًا خلفوا قوم نوح.
يحذر هود ؏ قومه بأنكم تبنون عمارات شاهقة على التلال المرتفعة، وتدمرون الشعوب الأخرى ظلمًا لتخلد حضارتكم، ولكن كل هذا عبث، لأن الله تعالى سيقضي عليكم رغم وجود آثاركم الظاهرة، ولن يُكتب الخلود إلا للتقوى. إنكم تبنون مصانع ومراصد ظانّين أنها تخلّدكم، وتظلمون الضعفاء مغترّين برقيكم المادي، ولكن لن تنفعكم هذه العزة الزائفة (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)؛ أي إذا كنتم تريدون الخلود فعليكم بتقوى الله وطاعتي.
ثم يقول هود ؏: (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الشعراء: 133-136)، أي أن هذا العلم الذي تزدهرون بسببه إنما هو هبة ربانية، وأن كل الأسباب التي تستعينون بها أيضًا عطاء رباني، وكذلك الأنعام والأولاد والبساتين والعيون، فإذا لم ترجعوا إلى الله تعالى فسوف ننـزعها منكم في نهاية المطاف.
لما نصحهم هود ؏ بالعودة إلى الله تعالى قالوا: سواء علينا أوَعظتنا أم لم تعظنا لن نؤمن بك، إذ لم يزل البعض منذ قديم الزمان يعظون الآخرين قائلين: لا تجمعوا أموالا طائلة، ولا تزهوا بثرواتكم، مع ذلك لم يحصل شيء بل لا يزال الناس مستمرين في أعمالهم الدنيوية. سنبني المصانع ونجمع الأموال ولن يصيبنا زوال، لذا فسواء دعوتنا إلى ما تريد أم لم تدعُ فلن نرضى بما تقول…
مجمل القول إن عادًا لم يُصغوا لنصائح نبيِّهم هود ؏، وكذّبوه، فأهلكهم الله تعالى.
ثم يقول الله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشعراء: 9-10) .. أي أن عادًا أرادوا أن يخلفوا وراءهم أثرهم الخالد من خلال العمارات الضخمة، ولكنا تركنا لهم أثرًا خالدًا من خلال تدمير مدنهم. بيد أن هذه الآية ما كانت لتنفعهم إذ كانوا قد هلكوا وبادوا وصاروا آية عبرة لمن بعده.