لقراءة الجزء الأول: قصة أهل الكهف – تاريخهم وأحوالهم


بعض الحقائق المتعلقة بالكهوف:

وأوجز لكم الآن بعض الحقائق المتعلقة بالكهوف. وكما قلت من قبل إن المراد من الكهوف هنا سراديب الموتى، وهي مغارات تحت الأرض. كان من عادة الرومان واليهود أن يضعوا موتاهم في الغرف تحت الأرض. وكانت هناك خارج المدن الكبيرة في الإمبراطورية الرومانية أماكن مخصصة لهذا الغرض، وتسمى سراديب الموتى. لما تعرض المسيحيون للاضطهاد فروا بحياتهم ولاذوا بهذه المقابر. وقد فعلوا ذلك لسببين: الأول أن هذه السراديب كانت تساعدهم على الاختفاء والجلوس والمبيت والاحتماء من الطقس بكل سهولة. والثاني أن الناس يخافون القبور عمومًا، فكان في اختفائهم فيها ضمان أن يظلوا بعيدين عن أعين الناس.

يقول السيد  Benjamin Scot في كتابه “سراديب روما”: “وعندي أنه حتى في ذلك الزمن البدائي -الذي ذهب فيه بولس إلى روما- كان المسيحيون يلجأون إلى هذه الغرف الأرضية فرارًا بحياتهم من غيظ الناس واضطهاد اليهود والحكومة الرومانية.

ثم يضيف: “لا جرمَ أنهم كانوا فعلاً مضطرين للاختفاء في هذه المغارات والكهوف الأرضية” (the Catacombs at Rome p. 65- 164).

والجدير بالذكر أن المؤلف قد استخدم لهذه الغرف الأرضية كلمة (Cave)، وهي صورة مشوهة للفظ العربي “كهف”؛ وكأن هذا المؤلف الإنجليزي قد استخدم نفس الكلمة التي وردت في القرآن الكريم.

وأما قوله إن المسيحيين كانوا مضطرين للاختفاء في هذه الكهوف فهو ثابت بشهادة المؤرخ الرومي تاقيطس (Tacitus) حيث يقول: كان الملكُ نيرون يسُرُّ جماهيرَه بإحراق النصارى أحياءً، وكان يلقيهم أمام الكلاب الضارية، ويصلبهم بطرق شتى؛ وقد خصص حديقته الملكية لتنفيذ هذه العقوبات.

(Tacitus.. The Annals and The Histories p.257-258) فالقوم الذين تَعرَّضوا للاضطهاد الشديد على هذا النطاق الواسع لم يكن أمامهم مناص إلا الاختفاء هنا وهناك فرارًا بحياتهم.

وأيام لجوئهم إلى هذه السراديب بدأ النصارى يبنون فيها غرفًا أُخرى ليزدادوا تحصنًا. كما كانوا يأتون بجثث شهدائهم إلى السراديب ويدفنونها فيها مخافة أن تتعرض للإساءة. وبما أن الاضطهاد استمر لثلاثة قرون فكثرت الغرف الإضافية داخل السراديب حتى امتدت تحت الأرض لحوالي 15 ميلاً في رأي البعض.     (the Catacombs at Rome p. 65 to 164)

وبما أن الظلم لا يكون عمومًا على منوال واحد في كل الأيام حيث كان بعض الملوك أقل قسوة، لذلك كان المسيحيون يرجعون إلى المدن حين تخفّ وطأة الظلم، ويرجعون إلى الكهوف ثانية حين تشتد وطأته، ويبدو أنهم كانوا يضطرون للعيش فيها لشهور وسنين، حيث توجد داخل السراديب غرف للمدارس والكنائس أيضًا.

لهذه السراديب ثلاثة طوابق، ولقد رأيتها بأم عيني أثناء مروري بروما حين سافرت إلى إنجلترا عام 1924. يستطيع الإنسان زيارة غرف الطابق العلوي بدون صعوبة كبيرة، ولكنه يشعر بضيق التنفس أثناء زيارة غرف الطابق الثاني، أما غرف الطابق الأخير فزيارتها شبه مستحيلة لشدة الرطوبة والظلام. ولقد وجدت أن المسيحيين قد حولوا هذه الغرف إلى متاهات، واتخذوا للتحصن التدابير التالية:

أولاً، كانوا يربطون الكلاب على أبواب السراديب لتدلّهم بنباحها على قدوم شخص أجنبي.

ثانياً، كانوا لا يبنون السلالم الطينية للنـزول من سطح الأرض إلى الغرف الأرضية، بل كانوا يستخدمون لهذا الغرض السلالم الخشبية التي كانوا يزيلونها بعد استخدامها، كيلا يتمكن العدو الداهم من الوصول فورًا إلى الغرف الأرضية التي كانوا يعيشون فيها.

ثالثًا، أما إذا وصل العدو إلى غرفة عيشهم بالقفز أو بالسلالم التي أتى بها معه، فكان الطريق لحماية أنفسهم منه أنهم جعلوا في كل غرفة أربعة أبواب كان الواحد منها فقط يؤدي إلى الغرفة التالية بينما كانت الأبواب الثلاثة الباقية تؤدي إلى أنفاق مسدودة. فكانوا يلوذون على الفور إلى الغرفة المجاورة لمعرفتهم بالباب الحقيقي، بينما كان العدو المطارد يدخل الباب الخاطئ ثم يرجع القهقرى حين يجد الطريق أمامه مسدودًا، وهكذا كان العدو يضيع في بحثه عن الباب الأصلي وقتًا كثيرًا، وبالتالي كان يتأخر كثيرًا عن النصارى الفارّين من بطشه. وكانت هذه المطاردة المرهقة تثبّط من همم رجال الشرطة فكانوا يتركون ملاحقتهم.

رابعًا، أما إذا استمروا في الملاحقة فكان النصارى ينـزلون إلى الطابق الثاني من الغرف الأرضية التي كانت أكثر ضيقًا وظلامًا وتعقيدًا.

خامسًا، ولو افترضنا أن الشرطة استمرت في ملاحقتهم هنا أيضًا فكان هناك غرف الطابق الثالث التي كان النصارى لا ينـزلون إليها إلا لفترة قصيرة أثناء مطاردة الشرطة فقط على ما يبدو. ذلك أننا لم نقدر أثناء زيارتنا لها على المكوث فيها أكثر من ثلاث أو أربع دقائق، وإن كان أحد أسبابه أن الرطوبة فيها قد أصبحت الآن عالية جدًّا. إنها غرف موحشة تمامًا. وبما أن طول كل هذه الطرق داخل السراديب يبلغ عدة مئات من الأميال فلم يكن القبض على النصارى فيها بالأمر الهيّن. ولكن لا قبل للإنسان بالحكومات، فكانت الشرطة تنجح في القبض عليهم أحيانًا، وتقتلهم في مكانهم على الفور. ولقد شاهدت بنفسي هناك عددًا من قبور أولئك الشهداء. وقد قرأ علينا أحد القسيسين، بطلب منا، بعضًا من لوحات تلك القبور، فوجدناها تحكي قصصًا مؤلمة لاستشهاد أولئك الناس.

ولقد اكتشفوا في الفترة الأخيرة المزيد من اللوحات والقبور التي بعضها لأولئك القوم الذين أقام بطرس عندهم، أو الذين ورد ذكرهم في الكتاب المقدس. (الموسوعة البريطانية الطبعة الرابعة عشرة كلمة Catacombs ). في عهد الملك ديسيس سُنّ القانون لإجبار النصارى على السجود للأصنام، فصُبّت عليهم المصائب في زمنه صبًّا، فقضوا كل هذه الفترة تقريبًا في السراديب، إلا الذين ارتدوا منهم في الظاهر عن دينهم. إذًا فإن أصحاب الكهف قد ضربوا في تلك الفترة مثالاً رائعًا للتضحية والفداء في سبيل الله تعالى. ويتضح من اللوحات التي عُثر عليها في السراديب أنه لم يكن عند نصارى ذلك العصر أثر للشرك والوثنية، حيث لا توجد في هذه اللوحات كلمة واحدة تدل على الشرك. لم يقدَّم فيها المسيح كابن لله تعالى، بل على صورة راعٍ فحسب. كما تدلّ هذه اللوحات على تعظيمه غير العادي لوالدته. إن معظم هذه اللوحات تركز على إبراز حادث النبي يونس وعلى إبراز الحدث الأخير لدى حادث طوفان نوح حيث جاءت حمامة بخبر انكشاف وجه الأرض. مما يدل على أن هؤلاء لم يتركوا العمل بالعهد القديم، وكانوا يؤمنون بالمسيح كنبي وراعٍ روحاني فحسب (انظر المرجع السابق، the Catacombs at Rome by B. Scot وكتاب الدكتورMeat Land )

فالخلاصة أن الله تعالى قد ذكر من خلال حادث أصحاب الكهف أحوالَ المسيحيين الأوائل، مشيرًا إلى بداية الأمة المسيحية حيث كانوا يحاربون الوثنية والشرك، وقدَّموا في سبيل ذلك تضحيات جسيمة لقرون طويلة؛ أما اليوم فلا يوجد فيهم أي أثر لدينهم الأصلي.

يبين الله تعالى: نحن نروي لك أحداثهم كما وقعت. وهذا يعني أنه كانت هناك قصص شائعة بين القوم عن أصحاب الكهف، وأن تلك القصص القديمة عارية عن الصحة.

يقول الله تعالى (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) (الكهف: 14) أي جماعة من الشرفاء أو الأسخياء أو الشباب الذين آمنوا بربهم، ذلك أن الفتى يعني السخي الكريم أو الشابّ (الأقرب). والحق أن الشباب أكثر إسهامًا في الخدمات الدينية على العموم، حيث نجد أن كل من آمنوا بالرسول ﷺ كانوا أصغر منه سنًّا إلا قليلاً منهم.

وقد تكون كلمة “فتية” إشارة إلى فئة معينة من النصارى اللاجئين في هذه الكهوف كانت أكثرهم تضحية. وقد يكون مفهومها عامًا يشمل جميع النصارى الشرفاء الذين تمسكوا بدينهم وقدموا التضحيات طيلةَ هذه الفترة الممتدة إلى ثلاثة قرون. وأنا شخصيًّا أفضل المفهوم الأخير.

أما قول الله تعالى (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) (الكهف: 14). فيعني أننا زدناهم إيمانًا على إيمانهم بسبب تضحياتهم. يبين الله تعالى بالرغم أن الملِك والجماهير كلهم كانوا يعارضونهم إلا أنه تعالى قوّى قلوبهم وصبّرهم، فقاموا وأعلنوا عن عقيدتهم غير خائفين.

كما يتضح من قول الله هذا أن هذه الفئة من عباد الله الموحِّدين لم تكن عبارة عن فتيان متشتتين متفرقين، بل كانوا متمسكين بدين واحد، يتزاورون فيما بينهم. ذلك أن مضمون هذه الآية يدل على أنهم كانوا يديرون هذه الحوارات فيما بينهم على انفراد.

لقد عرّفوا كلمة “الكهف” في قولهم: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) (الكهف: 17) وهذا يدل على أنهم عنَوا به كهفًا معيّنًا شهيرًا في منطقتهم، وكان كل واحد منهم يعرفه. ولو كان المراد به أي كهف لقالوا “فأْوُوا إلى كهفٍ”.

وقد اشتهر هذا الكهف من قبل لأن العبيد كانوا يفرون ويختفون فيه لدى تعرضهم للظلم الشديد على أيدي أسيادهم الرومان. مما لا شك فيه أنهم قاموا بتوسيع هذا الكهف كثيرًا، ولكنه كان واسعًا من قبل أيضًا.

كما يتضح من هذه الآية أن أصحاب الكهف كانوا هدفًا للاضطهاد منذ فترة طويلة قبل لجوئهم إلى كهفهم. ذلك أن قولهم (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) (الكهف: 17) يدل على أن قومهم قد قاموا بمقاطعتهم اجتماعيًّا، فكانوا يعيشون في مجموعة منفصلة عن باقي القوم. فقرروا بالتشاور أنهم سيفعلون ما فعل العبيد من قبل، وسيختفون في الكهف حين تشتد وطأة الظلم ويصبح العيش بين القوم ضارًّا بدينهم…

وقولـه تعالى (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) (الكهف: 18) يدل على وجود مساحة واسعة داخل الكهف. وهذا ما تؤكده تلك السراديب لأنها واسعة جدًّا من داخلها، وقد قدّر البعض الطولَ الإجمالي لشوارعها وغرفها المبنية في الطوابق الثلاثة بحوالي 870 ميلاً! كما كان ضوء الشمس لا يصل داخل تلك السراديب إلا قليلاً، ولولا ذلك لأُلقي القبض على أهلها. لقد حُفرت السراديبُ حفرًا يوصل إليها الهواء، من دون أن يدخُل إليها الضوء الذي يدل على وجودهم. قال Sؓ Jerome في القرن الرابع الميلادي: إن هذه الغرف مظلمة لدرجة مذهلة، ولا يمكن أن يصل إليها ضوء الشمس إلا إذا كان هناك تصدّعٌ أو تشقّقٌ في المبنى. (الموسوعة البريطانية طبعة 11- 1910 كلمة Catacombs of Rome).

والحق أنه ببيان موقعهم الجغرافي قد نبّه الله تعالى المسلمين أن لهم عدوًّا في الشمال فليأخذوا منه حذرهم، ولكن المسلمين للأسف لم ينتبهوا لذلك.

يقول الله تعالى بعد ذلك (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) (الكهف: 18).. أي لقد أشرنا ولكن لن يفهم إشارتنا إلا المهتدون.. بمعنى أن المسلمين الذين يوالون هذه الشعوب يهلكون، أما المسلمون الذين يكونون على اتفاق واتحاد فيما بينهم يفلحون. ولكن الأسف أن المسلمين تحاربوا فيما بينهم، بينما تصالحوا مع ملوك الروم، اللهم إلا المسلمين الأوائل. ورد في التاريخ أن ملك الروم لما سمع عن الحرب الدائرة بين سيدنا علي ومعاوية رضي الله عنهما أراد الهجوم على الدولة الإسلامية، فكتب معاوية إلى ملك الروم: حذارِ أن تغترّ بالنـزاع بيننا‍‍. فوالله، لو هاجمت عليًّا لسوف أكون أولَ قائد يخرج لمحاربتك من قِبله ؓ.×

× ونص الرواية كالآتي: “فلما رأى ملكُ الروم اشتغالَ معاوية بحرب عليٍّ تدانَى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمِع فيه. فكتب معاوية إليه: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعينُ، لأصطلحنّ أنا وابنُ عمي عليك، ولأُخرجنَّك من جميع بلادك، ولأُضيقنّ عليك الأرضَ بما رحبتْ” (البداية والنهاية مجلد 7 ص 119).

ولكن لما انحرف المسلمون عن الإسلام تصالحَ ملوكُ بغداد مع الحكومة الرومانية الشرقية الشهيرة بالبيزنطية وذلك لضرب الدولة الإسلامية بإسبانيا. أما الملوك المسلمون بإسبانيا فأرسلوا الهدايا إلى بابا روما وتصالحوا معه، وذلك لضرب الدولة الإسلامية ببغداد. إنا لله وإنا إليه راجعون…

أرى أن هذه الآية لا تتحدث عن الأيام الأوائل لأصحاب الكهف، بل تبين حالة هذه الشعوب زمنَ نـزول القرآن. يخبر الله تعالى: أنكم تظنون أن هذه الشعوب الشمالية أيقاظٌ، كلا، بل هي نيام، وستستيقظ في المستقبل. وكأنه تعالى يقول: يجب أن تعتبروهم نيامًا بالنظر إلى ما سيكونون عليه في المستقبل.

وكان هذا تنبيهًا إلهيًّا للمسلمين أنهم لو كسَروا شوكةَ هؤلاء القوم الآن لصاروا في مأمن من شرهم في المستقبل. ولكن الأسف أن المسلمين بعد زمن سيدنا عثمان ؓ تهاونوا في التصدي لهؤلاء القوم، ولو أنهم استمروا في زحفهم على الحكومة البيزنطية وقضوا عليها لكانت خريطة العالم غير التي نراها اليوم.

علمًا أنه كان للمسلمين كل الحق للهجوم على تلك الحكومة لأنها هي التي بدأت بالعدوان على المسلمين.

أما قولـه تعالى (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ) فأخبر فيه أنه تعالى سينشرهم في العالم، وذلك الوقت هو بمثابة موعد استيقاظهم؛ فليأخذ المسلمون قبل حلوله التدابيرَ اللازمة لحمايتهم.

وأما قوله تعالى (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) فهو إشارة إلى الحكومة البيزنطية التي تقوم بحماية أوروبا من جانبي بحر مَرْمَرة، حيث يبدو هذا البحر وكأنه كلب يقوم بالحراسة باسطًا ذراعيه إلى اليمين والشمال. لا شك أن الأتراك قاموا بفتح هذه المنطقة، ولكنه كان بعد فوات الأوان، حيث قويت وقتئذ شوكةُ القوى الشمالية، ولم يعد الأتراك قادرين على مقاومتها. فلو أن الدولة البغدادية والدولة الإسبانية تحالفتا وبسطتا نفوذهما على بلاد الشمال لكانت فرصة ذهبية، إذ لو أن الإسلام انتشر في تلك البقاع في ذلك الوقت لما رأينا الآن هذه الأيام الحالكة.

وقد يكون قولـه تعالى (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) نبأً عن اقتناء هذه الشعوب الكلابَ بكثرة. وبالفعل ترون الأوروبيين يربّون الكلاب بكثرة من أجل الحراسة، وكل من يزور بيوتهم يخاف كلابَهم أولاً وقبل كل شيء.

قد يقال هنا: كيف كان رد هذا الخطر ممكنًا مع أنه قدر مقدور من الله تعالى؟ الحق أن أصحاب هذا الاعتراض لا يدركون حقيقة الأنباء الإلهية، لأن مِن سنن الله تعالى إلغاء الأنباء التحذيرية. ولو أن المسلمين عملوا بحسب الإنذار الإلهي لما كان الإسلام في هذا الضعف والاضمحلال الذي هو فيه اليوم، بل لوجدنا في أوروبا أنصارًا يتعاطفون معه ويخففون من شدة الحملة المسيحية على الإسلام.

أما قوله تعالى (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) فهو أيضًا نبأ يتعلق بزمن انتشار هذه الشعوب من مناطق الشمال إلى الجنوب. وبالفعل ترون كيف استولى رعب هذه القوى الشمالية على العالم كله؛ وكل دولة، أيًّا كانت، مرهونة برحمة هذه الشعوب.

واعلم أن الخطاب في قوله تعالى (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا) (الكهف: 19). لا يمكن أن يكون موجَّهًا إلى النبي ﷺ، بل هو موجَّه إلى الذين يعاصرون هذه الشعوب بعد أن يقلّبهم الله تعالى ذات اليمين وذات الشمال. وبالفعل رأيتم كيف أن الدنيا كلها قد مُلئت رعبًا من هذه الشعوب خاصة قبل فترة قليلة، ولكن الله تعالى قد خفّف رعبها عن الدنيا بخلق أسباب هلاكها، أما قبل ذلك فكان رعبها مستوليًا على الناس لدرجة أن الناس كانوا يخافون حتى من السفر في عربات الدرجتين الأولى والثانية للقطار،× ويهابون الأوروبيين بمجرد رؤيتهم.

× ذلك أن الأوروبيين كانوا يسافرون عمومًا في هاتين الدرجتين من القطار. (المترجم)

لا تتحدث هذه الآية عن أولئك الذين كانوا يختفون في الكهوف في الزمن القديم، بل تتحدث عن الزمن الذي يقلّب الله ﷻ هذه الشعوب فيه ذات اليمين وذات الشمال. كما أن قوله تعالى (بَعَثْناهم) أيضًا يشير إلى التقدم الذي ستُحرزه في المستقبل شعوبُ الشمال التي تكون قد تنصرت حينذاك. علمًا أن من أساليب القرآن أن يستخدم صيغة الماضي بكثرة للإدلاء بالأنباء المستقبلية، لأن صيغة الماضي هي بمثابة التأكيد على وقوع تلك الأنباء حتمًا؛ ومثاله قوله تعالى (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ) (النحل: 2). ولقد اتبع القرآن هذا الأسلوب هنا أيضًا فقال (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ).

إذًا فالله تعالى قد أخبر هنا أنه سيوقظ هذه الأمم التي هي كقوم نائمين حاليًّا، فيتساءلون فيما بينهم: كم لبثنا في حالة النوم؟ بمعنى أنه يجب علينا أن نستيقظ الآن. وبالفعل أفاقت هذه الشعوب من سباتها زمن الحروب الصليبية، فتحالفت ضد الإسلام للهجوم على البلاد الإسلامية.

أما قولهم (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فليس المراد به أنهم كانوا في شك فيما لو كانوا نائمين يومًا أو بعض يوم، بل هذا أسلوب يعبَّر به عن فترة طويلة غير محددة؛ ومثاله في القرآن الكريم قول الله تعالى للكفار يوم القيامة (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ)، فيقولون (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) (المؤمنون: 113-114). والواضح من أسلوب هذا السؤال والجواب أن الكفار يعنون أنهم مكثوا فترة غير معينة. وهذا هو المراد من قول هذه الشعوب، إنهم ظلوا نيامًا لفترة غير محددة. وقد ذكر القرآن في موضع آخر أن فترة مكوث هذه الشعوب هي ألف سنة، حيث يقول الله تعالى (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا) (طه: 103-104). أي حين يُنفَخ في الصور فسوف نهيّج ونبعث المجرمين الروم ذوي العيون الزرقاء، فيقولون فيما بينهم بصوت خافض: لم نمكث إلا عشرًا أي عشرة قرون وهي ألف سنة.

علمًا أنني قد فسّرتُ كلمة “زُرْقًا” بمعنى ذوي العيون الزرقاء التي هي صفة الشعوب الأوروبية لبياض لونهم. ذلك أن العرب كانوا يطلقون هذه التسمية على الروم لوجود العداوة الشديدة بينهم. فقد ورد في القاموس كلمة “الأزرق”: “وقيل: معناه الشديدُ العداوةِ لأن زُرْقة العيون غالبةٌ في الروم والديلم وبينهم وبين العرب عداوة شديدة، ثم لما كثُر ذكرُهم إياهم بهذه الصفة سمي كل عدو بذلك وإن لم يكن أزرقَ العين” (الأقرب).

إذًا فليس المراد أنهم كانوا في شك أنهم ربما لبثوا في حالة الغفلة قليلاً، بل المعنى أنهم لبثوا في تلك الحالة لفترة طويلة غير محددة. وقد أخبرتْ سورة طه أن طول هذه الفترة ألف سنة، كما بيّنتُ. وإذا جمعنا ألف سنة إلى السنة التي أعلن فيها النبي ﷺ دعواه كان المجموع 1611: حيث كان مولده الشريف في عام 570 الميلادي بحسب ما يراه السير وليم ميور (حياة محمد ص 5)؛ وقد أعلن ﷺ دعواه وهو في سن الأربعين أي في عام 611 الميلادي، وإذا جمعنا إليه ألف سنة كان المجموع 1611 أو 1612 أي العام 1611 الميلادي. وهو نفس العام الذي ثبّت فيه الإنجليز أقدامهم في الهند حيث سمح لهم الملوكُ المغول بالهند بالعمل في خليج البنغال عام 1611، ثم منحوا لهم الرخصة لإنشاء مصنع في “سورت” عام 1612.

(The March Of Man, Comparative Time Chart Of Universal History From 1451 to 1675, Section 4, Under; “British Colonies And Dominions Overseas”)

وتعرف الدنيا كلها أن هذه الخطوة هي التي هيّأت الأساس لرقي أهل أوروبا وانتشارهم في العالم كله، حيث ازدهر الأوروبيون باتباع خطوات الإنجليز هذه والاعتماد عليهم. ذلك أن تقدُّم الإنجليز راجع إلى دخولهم في الهند، حيث لم يتمكنوا من الاستيلاء على الأقطار الأُخرى من آسيا وأفريقيا إلا بعد أن ثبّتوا أقدامهم في الهند. ثم إن استيلاء الإنجليز على زمام البلاد المختلفة ساعد على تقدم الشعوب الأوروبية الأخرى.

ورب قائل يقول هنا: القرآن يتحدث هنا عن الروم، فما علاقة الإنجليز بهذا الموضوع؟ والجواب أن الحضارة الأوروبية إنما هي نتاج الحضارة الرومانية، والحق أن أوروبا كلها هي بمثابة تلميذ للرومان وتذكار للحضارة الرومانية؛ ثم إن المسيحية لم تنتشر في أوروبا إلا بواسطة الرومان. ومن أجل ذلك كله ذكر القرآن الأصلَ الذي خرجت منه هذه الفروع.

أما قوله تعالى (أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا) فيعنى: أيُّ الأطعمة أصلَحُ وأطيبُ. والحق أن أكبر سبب لانتشار الشعوب الغربية في العالم هو أن بلادها لم تكن تنتج من الغلال ما فيه الكفاية، فكانوا يستوردون الغلال والتوابل ويشترونها من آسيا بواسطة العرب، ولكنهم لما اطلعوا على الطريق البحري المؤدي إلى الهند أخذوا تجارة هذه السلع بأيديهم مباشرة، ثم استولوا بالتدريج على تجارة الأشياء الأخرى. علمًا أن “طعامًا” لا يعني هنا الطبيخ، لأنه يُطلَق في اللغة العربية على كل ما يؤكل، وخاصة على القمح. والواقع أنه ما زالت الهند تسدّ حاجة أوروبا إلى القمح لقرنين، إلى أن حاولت أمريكا زرع القمح محليًّا قبل زمن قريب.

إذًا فقولهم (فلينظُرْ أيها أزكى طعامًا) يعني أن أصحاب الكهف قالوا لزميلهم أن يبحث عن أفضل الغلال، لأن عليهم أن يدخروه لمدة طويلة.

أما قولهم (وَلْيتلطَّفْ) فاعلم أن هذه هي صفة الشعوب الغربية، حيث يأمرون المسؤولين الذين يبعثونهم إلى الخارج خاصة أن يتحدثوا دائمًا بلطف ورفق. كما أن تجّارهم أيضًا يتكلمون بأسلوب ليّن معسول حتى لا يثور الزبائن عليهم.

وأما قولهم “فابعَثوا أحدَكم … إلى قولهم ولا يُشعِرنَّ بكم أحدًا” فاعلم أنه بالرغم من قولهم (أَحَدَكم) وبالرغم من ورود ضمائر المفرد بعد ذلك، أرى أن هذا لا يعني بالضرورة أنهم بعثوا شخصًا واحدًا فقط للطعام. والدليل على ذلك أن القرآن الكريم ذكَر في سياق قصة آدم ؏ إبليسَ أحيانًا بضمير المفرد فقط مما يوحي وكأن كل الكلام موجه إلى إبليس وحده، مع أنه، في أماكن أخرى وفي سياق قصة آدم نفسها، ذكَر مع إبليسَ جماعته أيضًا فقال (بعضُكم لبعض عدو)، كما ذكر مع إبليس ذريته أيضًا في أحيان أخرى. كذلك الأمر هنا، فمع أنهم قالوا هنا: (فابعَثوا أَحَدَكم) إلا أن المراد أن ابْعَثوا بعضًا منكم لشراء هذه الحاجيات. وعندي أن كلمة (أحدكم) قد استُخدمت هنا إشارةً إلى النظام الواحد.. أي فليذهب هؤلاء البعض جميعًا تحت نظام واحد بحيث يكون الشخص الواحد منهم مسؤولاً عمن معه.

أما قولهم (ولا يُشعِرنَّ بكم أحدًا) فيعني يجب أن تعملوا هنالك بحيث لا يحس ولا يدرك أحد أنكم تريدون بثّ نفوذكم في تلك البلاد، بل ينبغي أن تعاملوا أهلها بحيث يبقون غافلين عن أهدافكم الحقيقية.

لقد استخدم القرآن لهؤلاء المشيرين والمشار عليهم صيغَ الجمع، وعندي أن في ذلك إشارة إلى أن هذا الوفد التجاري سيُبعَث مِن قِبل شركة مؤلفة من أناس كثيرين لا مِن قِبل مَلِكٍ واحد. وبالفعل نجد أن الوفود التجارية الإنجليزية أو الفرنسية التي جاءت إلى الهند لهذا الغرض قد بعثتها الشركات التجارية، لا مَلِكٌ من الملوك.

قالوا: هذه الشعوب التي تبعثون إليها وفودكم لو اطلع أهلها على أسراركم أو نازعوكم وحاربوكم، قبل تثبيت أقدامكم في بلادهم، لطردوكم منها -علمًا أن من معاني الرجم الطرد أيضًا (الأقرب)- أو أكرهوكم على الدخول في دينهم إذا لم يطردوكم. وفي كلتا الحالتين سوف تُكسَر شوكتكم، ولن تزدهروا بعد ذلك أبدًا. وبالفعل ترون كيف أن الدول الأوروبية تساعد المسيحية من أجل المصالح السياسية، وتتخذ كل نوع من التدابير للحيلولة دون انتشار أفكار الشعوب الأخرى بين الأوروبيين.

لقد بين الله تعالى هنا أن هذه الشعوب التي ظلت منعزلةً عن باقي العالم لزمن طويل اتصلت هكذا بالعالم الخارجي مرة أخرى، وبالتالي علمت الدنيا أن النبأ الذي أدلينا به عن غلبة الشعوب المسيحية في آخر الزمن كان نبأً صادقًا تمامًا، وأن الساعة الموعودة التي خوّفناكم منها آتية دونما شك.

أما قولـه تعالى (إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ…) فعرّج به مرة أخرى على الحالة الأولى لأصحاب الكهف، حيث ذكر إحدى علاماتهم، وقال: إن من عادتهم منذ البداية أنهم يبنون المساجد أي المعابد باسم موتاهم.. بمعنى أنهم يبنون الكنائس تذكارًا لصلحائهم. وبالفعل تجدون الأمة المسيحية وحدها تبني الكنائس باسم صلحائها. لا يفعل ذلك المسلمون ولا اليهودُ، بينما يوجد عند النصارى آلاف الكنائس المبنية باسم صلحائهم، بل يدفنون فيها موتاهم. فثمة في سراديب الموتى كنائس كثيرة بُنيت تذكارًا لأصحاب الكهف الأوائل (الموسوعة البريطانية طبعة 1951 كلمة Catacombs ).

أعداد أصحاب الكهف:

… يعلن الله تعالى أن الناس مختلفون في عددهم، فمنهم من يقول إنهم ثلاثة، ومنهم من يقول إنهم أربعة، ومنهم من يقول إنهم خمسة، ومنهم من يقول إنهم سبعة ثامنهم كلبهم؛ ولكنها أقوال ظنية فحسب.

ومن المفسرين من استنتج بأسلوب القرآن هذا أن عددهم سبعة في الواقع، محتجين أن كلمة (رجمًا بالغيب) ما وردت بعد هذا العدد بينما وردت مع الأعداد السابقة.

ولكن هذا الاستنتاج غير سليم، لأن الله تعالى لم يُسند عدد السبعة إلى نفسه، وإنما نسبه إلى الآخرين، ثم أردفه بقوله (قُلْ ربي أعلَمُ بعِدّتِهم). فالحق أن الله قد أكّد خطأ أصحاب هذا الرأي أيضًا، لأن أصحاب الكهف لم يكونوا خمسة أو سبعة، بل كانوا آلافًا، واختفَوا في الكهوف في عصور مختلفة. فالحق أن لا أحد يعرف عددهم إلا الله تعالى.

أما قولـه تعالى (مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ) فليس معناه أن بعض الناس يعلمون عدد أصحاب الكهف، بل يمكن تفسير هذه الجملة بوجهين: الأول: أن لا أحد يعلم عددهم؛ ذلك أن لفظ “قليل” في العربية يعني النفيَ المطلق مثل كلمة Few في اللغة الإنجليزية، فيقال: “قليل من الرجال يقول ذلك.. أي لا يقول به أحد” (الأقرب). والوجه الثاني هو: لا يعلم حقيقة أصحاب الكهف إلا قليل؛ ذلك أن الله تعالى لم يقل هنا ما يعلم عددهم إلا قليل”، بل قال (ما يعلَمهم إلا قليل)، إذن فالمعنى أنه لا يعلَم حقيقتهم إلا قليل من الناس الذين هم ملمّون بالتاريخ الصحيح؛ فهم يعرفون أن أصحاب الكهف هم المسيحيون الأوائل الذين كانوا يختفون في السراديب؛ وأما غيرهم فانخدعوا بشتى القصص الشائعة عن هؤلاء القوم. وبالفعل فقد انكشفت حقيقة أصحاب الكهف في النهاية بفضل علم هؤلاء القلّة.

ثم يقول الله سبحانه وتعالى (فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا) (الكهف: 23).. أي لا تتحدث عنهم إلا حديثًا مبدئيًّا دون الخوض في التفاصيل إذ لا أحد في الدنيا يعلم جميع التفاصيل. وفي ذلك إشارة ربانية إلى أن هذا الجزء من التاريخ قد اندثر، فلا أحد يعرف تفاصيل هذا الحادث، لذلك لو حاولتم معرفة التفاصيل فستخطئون. والأسف أنه برغم هذا النصح القرآني خاض المسلمون في التفاصيل لدرجة أنهم حاولوا أن يسألوا اليهودَ والنصارى حتى عن لون كلب أصحاب الكهف وطوله، وبالتالي ملأوا التفاسير بروايات خاطئة يندب ويبكي الإنسان لدى قراءتها. لقد ساق الله تعالى هنا نبأً آخرَ يتعلق بزمن غلبة هذه الشعوب فقال: لدى مواجهتهم لا تقل أبدًا إننا سنقضي عليهم غدًا إلا أن يخبرك الله ﷻ بوحيه أنه فاعل بهم كذا وكذا.

لقد قال البعض بأن الخطاب هنا موجه إلى رسول الله ﷺ حيث يأمره الله تعالى أن لا يَعِد بفعل شيء من دون أن يقول إن شاء الله، وقد نقلوا بهذا الصدد شتى الروايات السخيفة التي تمثّل إساءة صريحة إلى الرسول الكريم ﷺ (ابن كثير، والقرطبي). وذلك بالرغم أنه ليس في كلمات الآية ما يدل على أنها تأمره ﷺ بقول إن شاء الله، وإلا لكانت الآية كالآتي: “ولا تقولَنّ لشيء إني فاعلٌ ذلك غدًا إلا أن تقول إن شاء الله” بدلاً مِن (….. إلا أن يشاء الله). كلا، بل الرسالة التي تحملها هذه الآية للمسلمين هي أنهم لن يقدروا بقوتهم على مقاومة هذه الأمة، وإنما سيتمكن من ذلك مَن سيُقيمه الله بمشيئته لهذا الغرض.

الحق أن هذه الآية إشارة إلى ما سيفعله المسلمون إبان غلبة هذه الشعوب، حيث تخبرنا أنه سيأخذهم الحماس لدى رؤية غلبة هذه الأمة، وسيحاولون مقاومتها بالقوة، ولكنهم لن يفلحوا في ذلك أبدًا.

كما أن هذه الآية تكشف حالة المسلمين في ذلك الزمن حيث إنهم سيعقِدون الآمال على الغد بدلاً من العمل الجاد، وسيقولون دائمًا سنفعل ذلك غدًا. سيُطلقون التهديدات بكثرة، ولكن لن تبقى فيهم قوة للعمل. سيرددون كلمة الغد دومًا، ولكن هذا الغد لن يأتي أبدًا. وبالفعل ترون الشعوب الإسلامية تكشف بعملها في هذا الزمن صدق النبأ القرآني بكل جلاء، مما يبعث على الحيرة والأسف في وقت واحد.

ونصح بقولـه تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) (الكهف: 25) المسلمين أنه إذا دفعتهم الحمية للتفكير في مقاومة هذه الشعوب فعليهم أن يتذكروا الوعود الإلهية بهذا الصدد، لأن الله تعالى قد وعدهم أنه سيُنقذهم من هجمات هذه الأمم في يوم من الأيام، وسيهيئ من الغيب الأسباب لنجاتهم، لذا يجب عليهم أن ينفُضوا من رؤوسهم فكرةَ اتخاذ التدابير الأخرى غير التدبير الإلهي.

أما قولـه تعالى (وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) (الكهف: 25) فهو أيضًا إعلان رباني أنكم لن تستطيعوا بتدابيركم المادية التغلب على هذه الشعوب في مئات السنين، ولكن الله تعالى سيهيئ بفضله الخاص الأسبابَ المفاجئة لحمايتكم من هذه الفتن.

من المؤسف أن المسلمين لم ينتفعوا بهذا النصح الإلهي، فأعلنوا الجهاد ضد الشعوب الأوروبية مرة بعد أخرى مما قلل من رعب الإسلام؛ بل لما نهاهم الناصحون عن مثل هذه التصرفات اعتبروهم أعداء للإسلام، ولم يفكروا أن من يدعوهم إلى العمل بتعليم القرآن لا يمكن أن يكون عدوًّا للإسلام، إنما أعداؤه الذين يتبعون الطريق الخاطئ رغم نهي القرآن عنه.

يخبرنا الله تعالى هنا عن طول فترة المصائب التي حلّت بأصحاب الكهف والتي اضطروا خلالها للاختفاء في كهوفهم مرة بعد أخرى. لقد امتدت تلك الفترة لثلاث مائة وتسع سنين. وهذا ما يؤكده التاريخ أيضًا، حيث بدأت هذه المظالم لدى حادث تعليق المسيح ؏ على الصليب، وانتهت تمامًا حين تنصَّر الملِكُ قسطنطينُ – مؤسسُ مدينة القسطنطينية – عام 337 الميلادي كما أسلفنا (انظر الموسوعة البريطانية طبعة 1951 كلمة Church History).

وهذا التاريخ يبدو مخالفًا لما ذكره القرآن الكريم من طول فترة مصائب أصحاب الكهف، ولكنه ليس كذلك، لأننا إذا فحصنا تاريخ المسيحية وجدنا أن قسطنطين لم يتنصّر في الحقيقة عام 337 الميلادي، بل بعد 309 عامًا من حادث الصليب. والدليل على ذلك هو اعتراف الجغرافيين المسيحيين أنفسهم بوجود خطأ في التقويم الميلادي، حيث أثبت كل من المطران Ushers والدكتور Kitto في كتابه أن العام المذكور لحادث الصليب في التقويم الميلادي غلط… إذ الواقع أن المسيح وُلد قبل بداية التقويم الميلادي الحالي بأربعة أو ستة أعوام، وعُلِّقَ على الصليب وسنُّه ثلاثة وثلاثين عامًا…

هذه الآية نصح إلهي لنا نحن المسلمين بأن لا نضيق ذرعًا بطول فترة المصائب. لقد أُوذيت جماعة المسيحيين قبلنا لمدة 309 سنين، ولكنهم صبروا، وفي آخر الأمر أكلوا الثمار الحلوة لصبرهم. فلا تتعجلوا، بل ثابِروا على العمل وتحمُّلِ المشاقّ بهمة وثبات.

لقد أخبر بقولـه تعالى (قُلِ اللهُ أعلمُ بما لبِثوا) أن تواريخ المسيحيين ستتعارض مع بيان القرآن هذا -كما سبق ذكره- فلا تثقوا بقولهم، لأن الله تعالى يعلم أنهم على خطأ. وبالفعل أكدت البحوث فيما بعد خطأهم.

ورب قائل يقول هنا: إن قوله تعالى (قُلِ اللهُ أعلمُ بما لبِثوا) يوهم أن البيان السابق خطأ؟ والجواب: لو كان البيان السابق مما قاله الكفار لكان هذا الاعتراض في محله، ولكن الله تعالى لم ينسبه إلى الكفار، فثبت أن البيان السابق هو من الله تعالى وأن الجملة التالية جاءت تأكيدًا لـه، والمراد أن الناس سيختلفون في مدة مكوث أصحاب الكهف، ولكنهم سيكونون على خطأ والصحيح ما ذكرناه آنفًا. كما أن قولـه تعالى (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ولاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) (الكهف: 27) يعني أن الله تعالى أعلم بأحوال الناس، فإنه ينصرهم ما تنـزّهوا عن رجس الشرك، أما إذا وقعوا في الشرك حُرموا من نصرته ﷻ.

لقد صرّح الله تعالى هنا لرسوله أنه لا يروي لـه هذا الحادث كقصة فحسب، بل إن هذا ما سيأتي على أمته أيضًا، وأن ما ذكر ﷻ يحتوي على أخبار صادقة من الماضي، كما ينطوي أيضًا على أنباء غيبية ستقع في المستقبل. هذا المعنى يُفهم من قوله تعالى (لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)، إذ لو لم يكن في ذلك أي نبأ عن المستقبل لما قال الله تعالى (لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)، حيث لا مجال لتبديل أحداث الماضي. فهذه الجملة إذًا تؤكد ما ذهبت إليه في تفسيري هذا. مما يعني أن الذين اعتبروا الآيات السابقة قصةً من الماضي فحسب كانوا على خطأ، والحق أن بعضها تروي لنا أحداث الماضي، وبعضها تنطوي على أنباء مستقبلية تتعلق بالذين سيكونون أمثال أصحاب الكهف في المستقبل.

وهناك دليل آخر على أن هذه الآيات تنطوي على أنباء المستقبل، وأن الغاية من ذكر هذه القصة هي التنبؤ بأن جماعة من المسلمين ستمرّ بأحوال مماثلة، بمعنى أنهم أيضًا سيتعرضون للاضطهاد لإيمانهم بكلام الله تعالى. فقد ورد في رواية: أخرج ابن مردويه “عن ابن عباس ؓ قال، قال رسول الله ﷺ: “أصحاب الكهف أعوانُ المهدي” (الدر المنثور: سورة الكهف). وهذا لا ينفي وجود أصحاب الكهف في الماضي، لأنه سبق أن أخبرنا ابنُ عباس ؓ نفسُه في رواية سجّلناها من قبل أنه رأى عظامَ أصحاب الكهف، إنما المراد من ذلك أنه سيأتي على أتباع المهدي ما أتى على أصحاب الكهف، وأنهم سيؤذَون مثلهم لإيمانهم بكلام الله تعالى.

فالحق أن الخطاب هنا موجه بالتأكيد إلى مسلمي ذلك العصر الذين سيرون أن الإسلام لن ينهض ثانيةً إلا بالأخذ بالأسباب المادية، فالله تعالى يأمرهم أن لا يقعوا في مثل هذا التفكير الخاطئ، بل عليهم أن ينضموا إلى جماعة تكون قائمة على الإسلام إبّانَ غلبة الشعوب المسيحية، ويصلّي أفرادها لربهم بالغداة والعشي، يرجون فضله بالدعاء والابتهال، ليجعلهم غالبين على الأعداء.

ثم يقول (وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) أي لا تصرِفوا، أيها المسلمون، أنظارَكم عن هذه الجماعة العابدة إلى غيرها. لا شك أنكم ستجدون فرص رقي الدنيا وزينتها خارج هذه الجماعة، لكن لن تظفروا برضوان الله تعالى إذًا. فلا تحتقرُنّ هذه الجماعة المتواضعة في الظاهر من أجل المطامع الدنيوية، ولا تتّبعُنّ خطواتِ الذين يكونون غافلين عن ذكر الله والتبليغ، ويريدون إصلاح الناس بالقوة، ويكونون مصابين بمرض الإفراط والتفريط وهوى السياسة.

كما نبّه الله تعالى هنا إلى أن المصائب ستحل بالمسلمين في ذلك العصر لأسباب ثلاثة: الأول غفلتُهم عن العبادات؛ والثاني الحبُّ المفرِط لأموال الدنيا؛ والثالث الانغماس في الملذات. فعلى المؤمن في ذلك الوقت الانشغال بالعبادة، والرغبة عن المال، والإنفاق في سبيل نشر الدين بعد قضاء حاجاته الضرورية.