خلق الله تعالى الإنسان وأودع عميقا في فطرته الحبَّ والانجذابَ إليه والرغبة في معرفته وإنشاء العلاقة معه، وجعل السعادة والطمأنينة والأمن والأمان الفردي والجماعي للبشرية يتحقق تلقائيا من خلال هذا العرفان، بل وجعل الإنسان يعاني كلما انحرف عن هذه الجادَّة لكي يدرك في النهاية أنه لا ملجأ له من الله تعالى إلا إليه، وأن أي خطة أو تصوُّرٍ لتحقيق أمنه وسلامه وسعادته وفلاحه بعيدا عن الله تعالى سيجده فاشلا خائبا، وهذا ليس من باب العقاب على مجرد أنه قد نسي الله تعالى وحاول ترتيب حياته بعيدا عنه، بل لأنه يكون قد سار على طريق الضلال عن طريق الأمن والسعادة التي خطها الله تعالى فأوقعه جهله في عواقب الخسران المستمر المبين، ولذلك قال الله تعالى معبرا عن هذه الحقيقة:
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}
(العصر 2-4)
والعصر والتاريخ شاهد على ذلك. فالله تعالى يريد للناس أن يعرفوه وينشئوا العلاقة به رحمة بهم، ولكي يحظوا بالسعادة والأمن والسلام الذي قدَّره الله تعالى. ولكن غالبية الناس لا يشعرون بأهمية ذلك بالنسبة لهم، ويعانون نتيجة لذلك الخسائر والحسرات، ولذلك أعلن الله تعالى أن الفلاح معه وعنده وبمعرفته، والسعيد من أدرك ذلك مبكِّرا واتعظ بغيره.
ولكن كيف يمكن أن يعرف الناس الله تعالى وينشئوا الصلة معه؟
عقلا، لا بد أن يقرَّ الإنسان بأن لهذه الخلق العظيم خالقا، ولكن بما أن غالبية الناس لا يتواصلون مع هذا الخالق ولم ينشئوا معه علاقة شخصية فإن اليقين بحقيقة وجود هذا الخالق لا تنشأ لديهم، بل سيجدون أنفسهم أحيانا يميلون إلى إنكار هذا الخالق تحت وطأة الظروف، وهذا لأن دور العقل والاستنتاج في الإقرار بحقيقة ما يتراجع بل يختفي فيما لو لم يدركها الإنسان بحواسه أو يراها ماثلة أمامه، بل إن لليقين الملموس ذاتِه درجاتٍ تتصاعد كلما زاد الإدراك واشتركت الحواس المتنوعة، مما يقوي هذه الحقيقة ويضعف الشكوك والشبهات.
فمثلا، إذا رأى الإنسان دخانا من بعيد فإنه سيستنتج عقلا أن هنالك نارا في ذلك الموضع، ولكن إذا لم يذهب إلى النار ويراها بعينيه فقد يشك أيضا فيما استنتجه وسيظن أنه ربما توهَّم ذلك أو أن الدخان ناجم عن شيء غير النار المشتعلة. أما إذا وصل إلى مكان ورأى النار بأم عينيه فإن يقينه سيزداد لأن الأمر لم يعد مجرد استنتاج، بل أدركت هذه الحقيقة حاسة البصر. ولكن أيضا يمكن أن يشك الإنسان بحقيقة ما يراه، وقد يتوهَّم أن النار التي يراها والدخان الذي يتصاعد منها مجرد صورة، ولكن إذا وصل قريبا من النار وشعر بحرارتها وعاينها عن قرب فعندها سيصبح يقينه بها كاملا. وهذه الدرجات الثلاث من اليقين قد سماها القرآن الكريم علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين.
وبالنسبة للعلاقة مع الله تعالى ومعرفته، فإن أقصى ما يمكنه أن يناله الإنسان بالعقل هو علم اليقين بالله تعالى، ولكن هذا العلم لا يولِّد في داخله يقينا قويا، بل سيجد أن إيمانه يتبخر عند الابتلاءات والصعوبات وعندما يواجه أمورا لا يستطيع تفسيرها، وهذا أقصى ما يمكن أن يناله الإنسان العادي السوي بغير الأنبياء إلى حدٍّ ما، ولكنه قطعا لا يستطيع أن يتقدَّم إلى مرحلة عين اليقين وحق اليقين. أما الغالبية العظمى من الناس فهم لا يستطيعون أيضا أن يصلوا إلى المرحلة الأولى من علم اليقين بغير ما يقدِّمه لهم الأنبياء من الدلائل العقلية. فالحاجة إلى الأنبياء من أجل المعرفة الإلهية حاجة ملحة لا غنى عنها ليضعوهم على هذا الطريق.
ولكن كيف يقوم الأنبياء بهذا ويضعون الناس على طريق العرفان الإلهي؟
النبي يكون إنسانا مفطورا على المحبة الإلهية، ويكون قلبه معلَّقا بالله تعالى، ثم ينشأ ويكون العرفان الإلهي أي معرفة الله تعالى وإنشاء الصلة معه كل ما يشغله، ويكون جادا في البحث عن الله تعالى وإنشاء الصلة به إلى أن ينالها ويترقى فيها بفضله تعالى. فمن ناحية تكون فطرته مهيأة لهذه المهمة ومن ناحية ثانية يكون متميزا بصبر وجلد ومثابرة للسعي نحو الله تعالى، فيتجلى الله تعالى عليه وينيله ما يرغب. ثم سرعان ما يجعله وسيلة للعرفان للبشر الآخرين الذين لا يتمتعون بهذه الميزات ولا بهذا الصبر والجلد والمثابرة، فيأمره أن يتوجه إليهم ودعوتهم، ويؤدي إيمانهم بهم وطاعتهم واتِّباعهم له إلى أن يتخلصوا من سيئاتهم ويندفعوا نحو الحسنات ثم يترقوا في العلاقة الشخصية بالله بحسب طاقاتهم وقدراتهم. هذه العلاقة التي ستثمر إيمانا ويقينا بالله تعالى ثم تقدُّما وتطورا وفلاحا لهم في كل مجالات الحياة ثم زيادة في العلم والحكمة لكي يستطيعوا إدارة شئونهم بالأسلوب الأمثل.
وقد لخَّص القرآن الكريم مهامَّ النبي لإيصال الناس إلى المعرفة الإلهية في قوله تعالى:
{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ }
(البقرة 152)
فدور النبي الأول هو أن يتلو آيات الله، والتي تعني أنه يقدِّم الدلائل على وجود الله تعالى سواء العقلية منها أو الآيات والمعجزات التي تظهر على يديه، وبذلك يغذي عند المؤمنين به علم اليقين عقلا، ثم يجعلهم يدخلون عين اليقين بمعاينة هذه الآيات والمعجزات التي يعاينونها بصحبته. وفي مرحلة عين اليقين يرون الآيات على يد النبي، أما في مرحلة حق اليقين فهم يتلمسونها بأنفسهم ويعيشونها مع النبي ويشاركون فيها.
أما الدور الثاني فهو التزكية التي تعني أنه يطهرهم من السيئات ويدفعهم نحو الحسنات ويوجههم إلى ما يناسبهم وينمي طاقاتهم وقدراتهم بحسب طبائعهم. وهذه التزكية تتولد من المصاحبة بصورة أساسية وليس بمجرد التوجيه. فالأنبياء بما يتحلُّون به من صفات حسنة، والتي هي في الواقع مظهرٌ لصفات الله تعالى وحسنِه وجمالِه انعكست في الأنبياء بصورة مكثفة دونا عن غيرهم، تميل نحوهم القلوب المفطورة على حبِّ هذا الحُسن وتنجذب إليهم وتتعلق بهم، ثم تتوطد هذه العلاقة وتتقوى بشدة بعد أن يروا إحساناتِ الأنبياء إليهم ورعايتَهم لهم، إذ أن منشأ الحب ليس إلا الحسن والإحسان، وكلاهما يكونان في الأنبياء بصورة مركَّزة. فالله تعالى جعلهم على هذا القدر الهائل من الحسن والإحسان ليسهِّل على الناس طريق الإيمان من خلالهم. فهم ليسوا كالفلاسفة الذين يحاولون إقناع الناس بفكرة حسنة وبجدواها دون القدرة على إنشاء الرغبة في قلوبهم للقيام بها، بل هم يجعلون المؤمنين بهم يقتنعون بترك السيئات ويخلقون فيهم كراهيتها ويتقدمون نحو الحسنات بفطرة الحب والتعلُّق لا بمجرد القناعة، وبذلك يتزكُّون ويتطورون. فدور التزكية يقوم على الأسوة الحسنة والمثال المحبب الذي فُطرت القلوب على الانجذاب إليه وتقليده بدافع الحب والتعلُّق. وهذه التزكية تتربط في جانب كبير منها بتأثير القلوب على القلوب، إذ أن الأنبياء يمتلكون طاقة داخلية تعمل عملها فيمن يحبهم ويصاحبهم وتعمل على تغييرهم نحو الأفضل تلقائيا، وهذا من عجائب فطرة الإنسان التي جعلها الله تعالى بحيث يؤثر الإنسان في غيره ويتأثَّر.
أما الدور الثالث الذي يقوم به الأنبياء فهو أنهم يعلِّمون الناس ما افتُرض عليهم وما يجب عليهم القيام به والذي هدفه فلاحهم وسعادتهم، ومع أن المؤمنين بهم سيكونون مستعدين تلقائيا لقبول ما يؤمرون به بسبب الحب والعلاقة الوطيدة مع الأنبياء إلا أنهم أيضا يغذُّون عقولهم بإظهار الحكمة من هذه الأحكام والفرائض وتعليمها لهم، فيزدادون بذلك إيمانا وعلما وتنمو عقولهم وتتقدم قواها.
وقد ينشأ في الذهن سؤال وهو:
لماذا لم يجعل الله تعالى طريق معرفته متاحا لكل إنسان، بحيث يجتهد الإنسان بنفسه ويصل إلى الله تعالى دون الحاجة إلى الأنبياء؟ ولماذا كان ضروريا الوصول إليه ومعرفته من خلالهم؟
والجواب هو أن معرفته تعالى لم يجعلها مسألة عقلية محدودة يمكن أن تحسم وتثبت ببعض التفكر، ولم يجعل وجوده مدركا بالحواس بحيث يراه أو يسمعه أو يشعر به كل إنسان، بل جعل طريق معرفته يهدي إليه العقل بلا شك ولكنه لا يقطع به، ويحتاج من الإنسان أن يسير على هذا الطريق بإحداث تغيير فيه بحيث يتخلَّص من السيئات ويتقدَّم في الحسنات فيكافئه الله تعالى في كل مرحلة بشيء من العرفان والعلاقة الخاصة ويتجلَّى عليه. وبما أن الله تعالى غير محدود فإن طريق هذا العرفان تكون غير محدودة أيضا ويبقى الإنسان يتقدَّم فيها. وهذا أيضا موافق للفطرة الإنسانية التي لو نالت شيئا محدودا فإنها ستملُّ منه وتعافه بعد حين. فالعرفان الإلهي ليس أمرا محدودا، وكلما تقدَّم فيه الإنسان ازداد سعادة وتطوُّرا وهداية وفلاحا. فالعرفان الإلهي هو غاية ووسيلة معا، إذ أنه غاية ترغب بها القلوب وتحتاجها طبيعة الإنسان بشدة، وهو الوسيلة أيضا لتقويم الإنسان وتغييره نحو الأفضل وترقيته بوضعه على طريق الحق والهداية لما فيه الخير والسعادة والطمأنينة والأمن والسلام والسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.
وبما أن غالبية البشر غير قادرين حتى على أن يضعوا أقدامهم على طريق الهداية أو يروا ضرورة ذلك، فقد جعل الله تعالى الأنبياء نموذجا لمن تنعموا بالعرفان الإلهي ونالوا بركاته ووسيلة لتقديم منتج العرفان الإلهي للطالبين ليذوقوه، ثم لينخرطوا في هذه الطريق بمساعدة الأنبياء وعنايتهم ورعايتهم من خلال مصاحبتهم ليسيروا على طريق العرفان بأنفسهم.
والواقع أنه من المعروف أن لكل خدمة يقوم بها البشر هنالك من يمتهنونها ويتقنونها ويصبحون خبراء فيها ويستفيد البشر من عملهم بعد ذلك، وليس ضروريا أن يتقن الإنسان كل عمل ويكون خبيرا فيه. فهل من الضروري أنه لو أراد الإنسان أن يبني بيتا أن يكون مهندسا؟ أو إذا كان ضروريا أن يتعالج من الأمراض أن يصبح طبيبا؟ ومع أن هذه ضرورات لكل إنسان إلا أنها تتوفر بعمل البعض لأجل الكل. فلا ينبغي الاعتراض على أن هنالك فئة من البشر قد خصَّهم الله تعالى بهذه الخدمة التي هي أسمى الخدمات الإنسانية، وليس ضروريا أن يصبح الناس جميعا أنبياء ليحققوا الغاية من خلقهم ولينعموا بالأمن والسلام والفلاح. والواقع أن فطرة الأنبياء وما يتحلون به من صفات وصبر وجلد والجهود العظيمة التي يقومون بها هي فوق طاقة الغالبية العظمى من البشر وإن كانوا يشتركون معهم في البشرية، وعلى رأسهم بلا شك خاتم النبيين سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي حمل أمانة تنوء منها الجبال والسماوات والأرض، ولم يأبه بما يصيبه في هذا السبيل وتجاهله، بل وظلم نفسه بشدة وقسا عليها في سبيل أن يوصل الرحمة المهداة إلى البشرية، إذ يقول الله تعالى عنه صلى الله عليه وسلم ذلك الإنسان الكامل الذي تورث طاعته الفوز العظيم:
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا * إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا }
(الأحزاب 72-73)
فمما لا شك فيه أنه من الضروري للبشر أن ينشئوا العلاقة مع الله تعالى ويعرفوه ويتقدموا في هذه العلاقة ما استطاعوا حسب طاقاتهم وقدراتهم، ولكن عليهم أن يسلِّموا بأنهم يحتاجون الأنبياء ليضعوهم على الطريق ويرعوهم ويوصلوهم لغايتهم المنشودة، وأنه من المستحيل للإنسان العادي أن يسير على هذه الطريق وحده، وينبغي ألا يخدع أحدٌ نفسه، فمن اهتدى لضرورة الإيمان بالله تعالى وأدرك أهميته فأكثر ما يمكن أن يصل إليه ليس سوى استنتاجات عقلية على أن الله تعالى لا بد أن يكون موجودا، ولكن هذه الاستنتاجات ليست إيمانا ولا تورث اليقين ولا تؤدي إلى تخليص الإنسان من السيئات ولا تدفعه للتقدم في الحسنات ولن تجعله ينشئ الصلة بالله تعالى لو توقف عندها، بل إن هذا الاستنتاج سرعان ما يتبخر وينعدم تحت وطأة الظروف القاهرة والابتلاءات فلا يجد العاقل منه شيئا.
فالحمد لله تعالى الذي أنعم على البشرية ببعثة النبيين، وجعل على رأسهم خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم الذي عرف الله تعالى بأقصى ما يمكن لإنسان، ونال أكمل عرفان إلهي، وتجلَّى الله له بكلامه الخالص المتجدد الذي يتلى فينا ويطهرنا ويزكينا، والسلام على على من اهتدى بهديه واستنَّ بسنته إلى يوم الدين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.