يروج عند بعض المسلمين اعتقاد حول سيدنا ابراهيم عَلَيهِ السَلام بأن رحلة بحثه عن الله تعالى كان فيها محطات شركية أشرك خلالها أبونا ابراهيم عَلَيهِ السَلام مع الله تعالى آلهة أخرى والعياذ بالله حتى اختاره الله أخيرا وشرفه بالنبوة. إن هذا الاعتقاد فاسد في حق ابراهيم عَلَيهِ السَلام والأنبياء جميعا بل الله تعالى قبل كل شيء. لا أدلّ على فساد ذلكم الاعتقاد من معايير الاصطفاء في حد ذاتها.
تقول “الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة” ومقرها مكة المكرمة عن سيدنا إبراهيم عَلَيهِ السَلام ما يلي:
“.. وكانت عبادة القمر والشمس وأوضاعها المختلفة هي التي تقررت في وعي الناس على ضوء ما نفهمه من التدرج في قضية الألوهية المدعاة من الصغير إلى الكبير إلى الأكبر. مما جعل إبراهيم يشعر بالخضوع للشمس في النهاية فيعتبرها ربَّا يستحق العبادة لأنها أكبر من الكوكب والقمر, فهي أحق بالعبادة. وكانت الفكرة تنمو في ذهنه أمام عظمة هذه أو تلك..” (تأسيس التفكير العلمي بآيات النظر والاستدلال، د.ناول عبد الهادي، الدار البيضاء – المغرب)
وكانت الهيئة تقصد الآيات التالية:
[وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ] [الجزء : (٧) الأنعام (١٣٧) الآيات: ٧٥-٧٩]
فهل كان ابراهيم عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام بحسب الآيات السابقة مشركا وَلَوْ لبرهة؟
يقول الحق تبارك وتعالى جوابا على سؤالنا:
[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] [الجزء: ١٤ النحل (١٦) الآية: ١٢١-١٢٢]
وهو عين ما قاله ابراهيم عَلَيهِ السَلام في نهاية آيات سورة الأنعام بعد احتجاجه على قومه بعبادتهم الشمس والقمر (وما أنا من المشركين) مما ينسف التفسير التقليدي الذي يتهم ابراهيم بالشرك قبل النبوة.
ففي رحلته للبحث والغوص في الجمال الإلهي كان ابراهيم عَلَيهِ السَلام قد اعتزل ما يعبد الناس نهائيا ولم يشرك بعبادة ربه شمسا ولا قمرا بل كان بشهادة الله جلّ جلاله من الشاكرين لأنعمه أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا أي إماماً ومعلّماً، يقول عبد اللّه بن مسعود ؓ : “الأمة معلّم الخير، والقانت المطيع للّه ورسوله. وقال ابن عمر ؓ : الأمة الذي يعلّم الناس دينهم. وقال مجاهد {أُمَّةً} أي أمة وحده، والقانت: المطيع. وعنه كان مؤمناً وحده والناس كلهم إذ ذاك كفار، وقال قتادة: كان إمام هدى، والقانت: المطيع للّه..“انتهى.
فقد اجتباه الله تعالى بالنبوة أي اصطفاه من بين عباد الله جميعا ليتشرف بحمل رسالة التوحيد. يقول تعالى:
وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [الجزء: ١ البقرة (٢) الآية: ١٣١]
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الجزء: ٨ الأنعام (٦) الآية: ١٦٢]
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الجزء: ١ البقرة (٢) الآية: ١٣٦]
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الجزء: ٣ آل عمران (٣) الآية: ٦٨]
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ۗ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الجزء: ٤ آل عمران (٣) الآية: ٩٦]
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الجزء: ١٤ النحل (١٦) الآية: ١٢٤]
فتكرار كون ابراهيم عَلَيهِ السَلام ليس من المشركين في الآيات أعلاه لا يخل من دلالة بل هو تأكيد وتشديد على أن ابراهيم عَلَيهِ السَلام لم يكن يوما من المشركين كما لم يكن أي نبي كذلك قبل بعثته. فلم يكن ابراهيم عَلَيهِ السَلام يوما مشركا ولم يتبع هواه بل كان من الصالحين. يقول تعالى:
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجزء: ٢٠ القصص (٢٨) الآية: ٥١]
ولقد ضرب لنا الله تعالى في كتابه المجيد مثل سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كمعيار ثابت لاصطفاء الرسل :
قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الجزء: ١١ يونس (١٠) الآية: ١٧]
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
“.. وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني اللّه عزَّ وجلَّ، لا تنتقدون عليَّ شيئاً تغمصوني به، ولهذا قال: {فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون} أي أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل؟ ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم (أبا سفيان) قال له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: فقلت: لا، وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين، ومع هذا اعترف بالحق (والفضل ما شهدت به الأعداء) فقال له هرقل: فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب ليكذب على اللّه. وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة: بعث اللّه فينا رسولاً نعرف صدقه ونسبه وأمانته، وقد كانت مدة مقامه عليه السلام بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة.” أهـ
فهذا معيار واضح لاصطفاء الله تعالى رسله على العالمين. إن الشك والبحث والتقصي بقلب صادق أمر محمود ولكن الشرك ليس كذلك فالله تعالى يغفر لما دون الشرك، فكيف يصطفي بالنبوة من كان من المشركين ؟
لقد أخبر الله تعالى بأن نبيه ابراهيم عَلَيهِ السَلام لم يكن من المشركين وقال ذلك أيضا على لسانه عَلَيهِ السَلام، ويشهد الحق تبارك وتعالى بأن ابراهيم عَلَيهِ السَلام كان من قبل على الرشاد لا الشرك والإلحاد:
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الجزء: ١٧ الأنبياء (٢١) الآية: ٥٢]
إن الله تبارك وتعالى يؤكد بأن ابراهيم قبل أن يرى آيات ربه ويُصطفى بالنبوة كان معتزلا الشرك بالتمام ثم أراد محاججة قومه بأن ما يعبدون ليس هو الإله الحق. يقول تعالى :
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الجزء: ٧ الأنعام (٦) | الآية: ٧٥-٨٠]
(إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)
(وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
مع بقية الآيات التي تؤكد بشكل متكرر أن ابراهيم عَلَيهِ السَلام لم يكن يوما من المشركين.
كما يقول تعالى :
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِين [الجزء: ٢٣ الصافات (٣٧) الآية: ٨٤-٩٤]
فاتهام ابراهيم عَلَيهِ السَلام بالشرك لم يكن هو الاتهام الوحيد حيث اتهم ابراهيم من قبل في التوراة وبعض المرويات الإسلامية للأسف بالكذب كما في تفسير الطبري من المتقدمين وسيد قطب من المتأخرين وغيرهم مما لا أساس له في القرآن المجيد من أخلاق النبيين عليهم السَلام. إن من مهمات القرآن الكريم أنه ناسخ لما قبله من كلام البشر منزِّه لمختاري الله تعالى لحمل رسالته حيث أن الأمانة تشفق منها الجبال ويحملها الصالحون وحدهم. لذلك يقول تعالى مدافعا عن سيدنا ابراهيم عَلَيهِ السَلام :
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا [الجزء: ١٦ مريم (١٩) الآية: ٤٢]
فالصدّيق لا يكذب أبدا. ولم ترد العبارة في الآية اعتباطا بلا دلالة بل الحق أن كل كلمة ووصف في كتاب الله العَزِيز إنما هي في محلها ولها دلالتها المهمة. لو كان كلام الله يكفي القائلين بدعوى كذب ابراهيم عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام لكفاهم قوله في الآية نفسها (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) لا قلب مشرك مشوب بالكذب والعياذ بالله. لو كان كلام الله تعالى كافيا لهم لكانوا اكتفوا بذلك قبل حتى أن يقرأوا بأن الله سمّاه صِدِّيقًا نَّبِيًّا.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
استفسار ؟ هل غوص ابراهيم فى الجمال الالهى بالنظر الى ماديات الامور من شمس وقمر وكوكب وهو من الموحدين — ام ماذا يعنى هذا هل لزيادة معرفته بالخالق كان يجانس من الاحبار والرهبان الا ان وجدهم بعلمهم محدود الهمة حتى فارقهم وقال انى ذاهب الى ربى سيهدين واخذه العلم وحيا ام ماذا ؟ افيدونا فقها وعقلا شكرا
المنشور يشرح ذلك أخي العزيز إذا دققت بٰارَكَ اللهُ فِيك. سيدنا إبراهيم عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام كان من الموحّدين بلا شك وإلا ما اختاره الله تعالى ليكون خليفته تبارك وتعالى على الأرض. صحيح كما تفضلتم أن الموضوع هو مناقشة ومجادلة مع قومه عباد الأصنام وليس كما يظن البعض للأسف أنه عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام أشرك بالله والعياذ بالله الأمر الذي لا يرضونه لأنفسهم ونسوا أن الله تعالى وصفه بالصدّيق وبأنه لم يكن من المشركين. بٰارَكَ اللهُ فِيكُم